لبنان أمامَ تحدّياتٍ ثلاثة

الدكتور ناصيف حتي*

أيامٌ قليلة تَفصُلُنا عن مرورِ عامٍ على حربِ غزّة، أو تحديدًا حرب الإبادة التي تشنّها إسرائيل على القطاع، حيثُ وَضَعت السقفَ عاليًا في أهدافها من تلك الحرب، التي ما زالت مستمرّة ولكن بوتيرةٍ مُنخفضةٍ نسبيًا عمّا كانت عليه من قبل. لقد أخذت إسرائيل بالإعلانِ عن هدفٍ “أكثر تواضُعًا” أو واقعية مقارنةً مع أهدافها المُعلَنة بشأنِ السيطرةِ الكُلِّية على القطاع. يتمثّلُ ذلك بإعلانِ شمالِ غزة منطقةً آمنةً وإخراجِ السكّان منها لإحكامِ السيطرةِ عليها، بالطبع كمرحلةٍ تدريجية نحو إحكامِ السيطرةِ على القطاع بأكمله بعدَ “إنهاءِ أيِّ وجودٍ ل”حماس””. هدفٌ ليس من المُمكِنِ تحقيقه رُغمَ استراتيجية التدمير الكُلّي للقطاع.

في ظلِّ هذا الوضعِ انتقلت الأولوية الإسرائيلية نحو الشمال؛ نحو الجبهة اللبنانية عبر القصفِ المُوَسَّع والغارات الجوية المُكَثّفة على طول الجغرافيا اللبنانية، وإخراج السكان من جنوب الليطاني بشكلٍ خاص، وكذلك استراتيجية القصف “الاستهدافي” المُرَكَّز لاغتيال القيادات في “حزب الله”. سياسةٌ تقومُ على أعلى درجاتِ التصعيدِ المُتَدَرِّجِ والذي صارَ مُتسارِعًا. تواكبُ هذا التصعيد سياسةُ حشدِ الجيش الإسرائيلي على الحدود مع لبنان. ويزداد الحديث عن سيناريو غزوٍ برّي بهدفُ إقامةَ منطقةٍ عازلةٍ وآمنة في الجنوب ضمن مساحةٍ جغرافيةٍ مُحدّدة على الحدود. شعارٌ لسياسةٍ غير واقعية من حيث نتائجها على المستوى البعيد، كما دلّت تجاربُ الماضي .

في ظلِّ هذه الحرب المفتوحة في الزمان والمكان، والتكلفة البشرية المُتزايدة بشكلٍ خاص، يقفُ لبنان مُجتَمَعًا وسلطات أمام تحدّياتٍ ثلاثة، أيًّا كان الرأي في فعالية وأداء السلطات لأسبابٍ تراكُمية. أسبابٌ تعكسُ الأزمة المُتَعَدِّدة الأوجه والأبعاد التي يعيشها لبنان منذُ سنوات. الأزمةُ التي ازدادت حدّتها وتعقيداتها مع الحرب الدائرة منذ عام .

التحدّي الأوّل يكمُنُ في تعزيزِ التضامُن الوطني على المستوى الفعلي والعملي، وبالتالي الفعّال. فهناكَ حوالي مليون نازح، والعددُ قابلٌ للازدياد، مع التطوّرات الحاصلة وفي ظروفٍ اقتصادية واجتماعية صعبة، وتزدادُ صعوبةً وتعقيداتٍ كل يوم .وأيًّا كانت الخلافات السياسية والعقائدية بين مختلف المكوِّنات السياسية اللبنانية، والتي طبعت الحياة السياسية وكانت لها تداعياتها الكبيرة والمكلفة على مختلفِ أوجُهِ الحياة الوطنية، فهذه الخلافات يجب أن تبقى تحتَ سقفِ التضامُن الوطني، كما أشرنا، لا أن تكونَ عائقًا أمامَ هذا التضامُن المطلوب. التضامُنُ الذي يجب ترجمته سياسيًا وسلوكًا وأفعالًا على الأرض للتعامل الفعّال مع الواقع المرير.

التحدّي الثاني يكمُنُ في التحرُّكِ مع القوى الدولية الفاعلة والمؤثّرة والمَعنية بُغية التوصُّل السريع لوقف إطلاق النار. فلم يَعُد من المُجدي والمُمكن القول أنَّ علينا انتظار وقف إطلاق النار في غزة للانتقال إلى وقفِ إطلاقِ النار في لبنان، خصوصًا أنَّ إسرائيل ترفُضُ الربطَ بين الأمرَين، ولا يعني ذلك بالطبع القبول بالشروط الإسرائيلية. وللتذكير فإنَّ إسرائيل تلجأُ للعبة الشروط في الدقيقة الأخيرة في المفاوضات غير المباشرة للتهرُّبِ من الالتزام بوقفِ القتال لأنه يُهدّدُ بسقوطِ الحكومة. المُقاربةُ الواقعية والعملية لوقف الانهيار في لبنان، ضمن المعطيات السياسية والاستراتيجية التي أشرنا إليها، تكمُنُ في العمل على مسارَين مُتوازيَين لوقف إطلاق النار في غزة وفي لبنان. ليس ذلك بالأمر السهل ولكنه بالأمر المُمكن إذا ما تبلورَ تفاهمٌ دولي إقليمي حولَ أهمّية الاستقرار في الإقليم الشرق أوسطي، وعدم الذهاب نحو المجهولِ المُكلِف للجميع أيًّا كانت مواقف هذا الطرف أو ذاك.

التحدّي الثالث قوامه أنه حانَ الوقتُ للانتهاءِ من حالة الفراغ والشلل التي تعيشها السلطة في لحظةِ تحدٍّ وجودي يعيشه لبنان. وبالتالي صار من الضروري الذهاب نحو ملء الفراغ المُكلِف والقاتل وانتخاب رئيس للجمهورية يحظى بتوافُقٍ وطنيٍّ واسع وتشكيل “حكومة مهمّة” لإطلاق عمليةِ الإنقاذِ الوطني وللإقلاع بالسفينةِ اللبنانية عبر بحرٍ إقليمي هائج ومناخٍ  مُلَبَّدٍ بالعواصف العاتية القائمة والآتية: مسؤوليةٌ وطنية يتحمّلها كافة ركّاب السفينة. مسوؤليةٌ ليست بالسهلة ولكنها بالضرورية إذا ما أردنا إنقاذَ السفينة اللبنانية من الغرق حيث الكُلُّ خاسرٌ إذا لم ننجح في هذه المهمّة.

  • الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى