أميركا تحتاجُ إلى استراتيجيةٍ جديدةٍ لتَجَنُّبِ كارثةٍ أعظم في الشرق الأوسط
تُمثِّلُ الديبلوماسية المكوكية أفضلَ فرصةٍ للولايات المتحدة وشركائها الإقليميين لإنهاءِ الحرب في غزة في الأمد القريب، وبالتالي توفير مسار لخفض التصعيد الإقليمي.
أندرو ميلر*
بعدَ مرورِ ما يقربُ من عامٍ على الهجوم غير المسبوق الذي شنّته “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أدّى التصعيدُ المُستَمِرُّ من جانبِ الحكومةِ الإسرائيلية لصراعها مع “حزب الله” في لبنان إلى وضعِ الشرق الأوسط على شفا حربٍ إقليمية ــ حربٌ قد تجرُّ الولايات المتحدة بسهولةٍ بالغة. ورُغمَ اعتقادِ القادةِ الإسرائيليين بأنَّ تكثيفَ العملِ العسكري من شأنه أن يدفعَ الجماعةَ اللبنانية المُسلَّحة إلى التراجع، فإنَّ هذا النوع من استراتيجيةِ “التصعيدِ من أجلِ التهدئة” نادرًا ما يُحقّقُ النتائجَ المرجوّة. فقد ربطَ “حزبُ الله” باستمرارٍ بين وقفِ هجماته على إسرائيل ووَقفِ إطلاقِ النار في قطاع غزة، ولا يزالُ من غير المرجح أن يتغيَّرَ هذا الوضع في أعقابِ إغتيال زعيم “حزب الله”، السيد حسن نصر الله، في غارةٍ جوية إسرائيلية يوم الجمعة الفائت. حتى لو تمَّ إعلانُ وقف إطلاق النار لمدة 21 يومًا بين إسرائيل و”حزب الله”، كما دعا الرئيس الأميركي جو بايدن والرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، فإنَّ هذا لن يُغَيِّرَ الواقعَ الأساسي: إنَّ أفضلَ طريقةٍ لمَنعِ اندلاعِ حريقٍ إقليمي أكبر هو وقف إطلاق النار في غزة.
لكن من المؤسف أنَّ المفاوضات بين إسرائيل وحركة “حماس” بشأن حربهما في غزة تبدو في طريق مسدود منذ أكثر من ثلاثة أشهر بعد أن حَدَّدَ بايدن إطارًا لوقف إطلاق النار والاتفاق على عودةِ الرهائن الإسرائيليين. وقد حرّك الطرفان أعمدة المرمى، فأضافا شروطًا جديدة أو طالبا بتنازلاتٍ جديدة. وبعدَ أسابيع من إظهارِ التفاؤل، نقلت معلوماتٌ أنَّ مسؤولي إدارة بايدن يعترفون الآن بأن “لا اتفاقَ وشيكًا”. ويبدو أن نافذة التوصُّلِ إلى اتفاقٍ تغلقُ بسرعة قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر)، وعند هذه النقطة سوف يُقلّلُ وَضعُ بايدن ك”بطّة عرجاء” من نفوذه الدولي.
في الوقت نفسه، تستمرُّ تكاليف الحرب في غزة في الارتفاع يوميًا. واحتمالاتُ تأمين العودة الآمنة للرهائن الإسرائيليين المُتبقّين تتناقص بمرور الوقت. وتستمرُّ الظروف الإنسانية للمدنيين الفلسطينيين في التدهور يومًا بعد يوم وسط الصراع النشط، ويُقتَلُ أو يُصابُ المزيد منهم في العمليات العسكرية الإسرائيلية. كما يتزايدُ الضررُ الذي يلحق بسمعة الولايات المتحدة، وكذلك إسرائيل، بشكلٍ مطرد، مع عواقب سلبية على الأولويات العالمية الأخرى المُشترَكة بين البلدين.
لقد كانت الديبلوماسية المكّوكية أكثر فعالية عندما كانت مصحوبةً بعواقب واضحة لعدم الامتثال. فالوسيطُ يستخدمُ التهديد بإلقاءِ اللوم علنًا على الطرف أو الأطراف المتمرّدة عن فشل المحادثات. وهذا ما أشار إليه جيمس بيكر، وهو ممارسٌ ناجحٌ للديبلوماسية المكوكية كوزيرٍ للخارجية في إدارة جورج بوش (الأب)، بـ “ترك القط الميت” على عتبة الجانب المخطئ. وعندما تتم التسمية والتشهير وتُستكمَلُ بتهديداتٍ أخرى ـالعقوبات، وحجب شحنات الأسلحة، واحتمال قيام أحد الأطراف المتحاربة بتوسيع عملياته ـ فقد كان من الممكن تغيير حسابات الزعماء الأجانب.
باستخدام هذه الأساليب، توسَّط الوزير هنري كيسنجر في اتفاقيتَي فَكِّ الارتباط بين إسرائيل ومصر واتفاقٍ آخر بين إسرائيل وسوريا بين العامَين 1974 و1975. وفي وقتٍ لاحق، نجح الرئيس السابق جيمي كارتر في إبرام معاهدة السلام بين إسرائيل ومصر في العام 1979 من خلال التنقل بين القدس والقاهرة، كما نجح بيكر في تنظيم مؤتمر مدريد للسلام في العام 1991 بشأن الصراع العربي-الإسرائيلي من خلال رحلاتٍ إقليمية عدة.
وللتوضيح، فإنَّ الديبلوماسية المكوكية ليست آلة إلهية. فالرحلات المكوكية لا تنجح دائمًا. فقد انخرطت كلٌّ من إدارة رونالد ريغان وبيل كلينتون في نوعٍ من الديبلوماسية المكوكية، ولكن النتائجَ كانت مُتفاوتة بشكلٍ واضح. كما تتحمّل الولايات المتحدة تكلفةً أكبر على سمعتها عندما تفشل الديبلوماسية المكوكية.
وهناكَ أيضًا خطرٌ يتمثّلُ في أن يُصبحَ أيُّ طرفٍ أقل استعدادًا للتنازُلِ عن موقفٍ مُعارضٍ للولايات المتحدة بعد أن يكون اتخذه علنيًا، مما يجعل القضية مسألة فخر وشرف. إنَّ الجهاتَ الفاعلة غير الحكومية، وخصوصًا الجماعات الإرهابية، غالبًا ما تكون أقل حساسية للتسمية والتشهير من الدول القومية، على الرُغم من أنَّ ديبلوماسية بيكر المكّوكية عملت مع منظمة التحرير الفلسطينية قبل أن تعترفَ بها إسرائيل كمُمثلٍ شرعي للشعب الفلسطيني في اتفاقيات أوسلو. وفي الصراع الحالي، فإنَّ عدم القدرة على الوصول إلى زعيم “حماس”، يحيى السنوار، الذي سيكون صانع القرار النهائي بشأن أيِّ اتفاق، والحدود التي تفرضها الولايات المتحدة على “حماس” من شأنهما أن يجعلا هذه المهمة أكثر صعوبة.
مسألةُ إرادة
لكن رُغمَ ذلك فإنَّ الديبلوماسية المكوكية تُمثّلُ أفضلَ فرصةٍ للولايات المتحدة وشركائها الإقليميين لإنهاء الحرب في غزة في الأمد القريب، وبالتالي توفير مسار لخفض التصعيد الإقليمي. الواقع أنَّ النقاطَ العالقة التي تتحدّثُ عنها المحادثات الحالية ــ عدد السجناء الفلسطينيين الذين يتعيّن إطلاق سراحهم والسيطرة على الحدود بين غزة ومصرــ ليست مُستَعصية على الحل. ذلك أنَّ القضايا الكمية، مثل عدد السجناء الفلسطينيين الذين يتعيّن إطلاق سراحهم، أكثر قابلية للتسوية من الاختيارات الثُنائية بين طرفَين مُتطرّفَين. وبالنسبة إلى ما يُسمّى بمعبر فيلادلفيا على طول الحدود بين غزة ومصر، أفادت معلومات أنَّ وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالانت تحدّى ادعاء رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو بأنَّ الجيش الإسرائيلي لا يستطيع الانسحاب بدون تعريض أمن إسرائيل للخطر.
إنَّ الحاجزَ الأساس أمامَ التوصُّلِ إلى اتفاقٍ بين إسرائيل و”حماس”، كما قال رئيس المخابرات الأميركية المركزية وليام بيرنز علنًا، هو “مسألة إرادة سياسية”، وليس غياب الصياغات الذكية لسدِّ الفجوات. والواقع أنَّ الضغطَ السياسي الذي قد يُولّدهُ وزير الخارجية أنتوني بلينكن من خلال رحلاته المكوكية بين مصر وإسرائيل وقطر هو على وجهِ التحديد ما هو مطلوب إذا كانت الولايات المتحدة راغبةً في أن يكون لها أيُّ أملٍ في كسرِ الجمود. ومع عدم بقاءِ أيِّ انتخاباتٍ أخرى لخوضها، فإنَّ بايدن في وَضعٍ أفضل لتحمُّل التكاليف السياسية المُترتّبة على فشل الديبلوماسية المكوكية مقارنةً بأيٍّ من خليفتيه المحتمَلَين.
إنَّ الديبلوماسية المكوكية ليست للضعفاء. يتعيَّنُ على بلينكن إقناعَ بنيامين نتنياهو بأنه لديه ما يخسره برفضه ما تقترحه الولايات المتحدة. وفي هذا السياق، قد تُهدّد إدارة بايدن علنًا بوصفِ نتنياهو بأنه يُشكّلُ خطرًا على الشراكة بين الولايات المتحدة وإسرائيل، أو قد يُعبّر بوضوحٍ في خطابٍ رئيس عن فقدان الثقة في تعامله مع الحرب. وعلى الرُغم من انخفاضِ شعبية بايدن في إسرائيل منذ بداية العام 2024، فإنَّ 57% من الإسرائيليين بشكلٍ عام و66% من الإسرائيليين اليهود يُعبّرون عن ثقتهم في الرئيس الأميركي، مما يُشيرُ إلى أن التوبيخَ العلني لنتنياهو المثير للانقسام قد يؤثر في مواقف المسؤولين والمدنيين الإسرائيليين.
وهناكَ خيارٌ آخر يتمثّل في استخدامِ الأمر التنفيذي 14115، الذي أصدره بايدن في شباط (فبراير)، لمُعاقبة الوزراء المتطرّفين في الحكومة الإسرائيلية، مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش ووزير الأمن القومي إيتمار بن غفير، اللذين يؤججان عدم الاستقرار في الضفة الغربية. ومن المرجح أن تؤدي العقوبات الأميركية إلى زيادة جاذبية الوزيرين لدى أقصى اليمين، ولكن وصمة العار المترتبة على تصنيفهما من قبل أقرب حليف لإسرائيل قد تولّدُ أيضًا المزيد من الضغوط على الحكومة.
إنَّ الإدارةَ الأميركية قد علقت بالفعل تسليم القنابل التي يبلغ وزنها 2000 رطل إلى إسرائيل احتجاجًا على العمليات العسكرية في مدينة رفح في قطاع غزة. وإذا لزمَ الأمرُ للتوصُّلِ إلى اتفاق، فيتعيّن على بايدن وبلينكن أن يُهدّدا بحجبِ أنظمة الأسلحة الإضافية التي تورّطت في وقوعِ إصابات بين المدنيين في غزة والتي تُعتَبَرُ غير ضرورية لأمن إسرائيل، مثل قذائف الفوسفور الأبيض. ومن الممكن إيجاد توازنٍ بين تلبية متطلبات الأمن الإسرائيلية وتوضيح أنَّ الولايات المتحدة لن تدعمَ إلى أجلٍ غير مسمى حربًا تتسبّبُ في سقوط العديد من الضحايا المدنيين وتؤدّي إلى عوائد أمنية مُتناقصة في أحسن الأحوال. ومثل هذه التهديدات ليست غير مسبوقة في العلاقات الأميركية-الإسرائيلية؛ ففي الماضي، كانت تُستَخدَم بانتظام. فقد هدّدَ كلُّ رئيسٍ أميركي منذ ليندون جونسون، باستثناء كلينتون ودونالد ترامب ــأي تسعة من الإدارات الإحدى عشرة الأخيرةــ بحجب أنظمة الأسلحة أو المساعدات الأخرى، أو حجبها بالفعل، من أجل التأثير في السياسة الإسرائيلية.
الضغطُ بالوكالة
بما أنَّ الديبلوماسيين الأميركيين لا يتفاعلون بشكلٍ مباشر مع قادة “حماس”، فسوف تضطرُّ واشنطن إلى العمل مع الوسطاء العرب لتكثيف الضغوط على السنوار. لقد مارسَت دول عربية عدة ضغوطًا على “حماس”، ولكن هناك الكثير مما يُمكِنها القيام به، وخصوصًا علنًا. ومن خلالِ إظهارِ الاستعداد للضغط على إسرائيل، ستكونُ الإدارةُ في وَضعٍ أقوى للمُطالبة بأن يضغطَ شركاءُ الولايات المتحدة الإقليميون الآخرون على “حماس”. ومن الأهمّية بمكان أن تصرَّ الولايات المتحدة ومصر وقطر على أن يُفَوِّضَ زعيمُ “حماس” سلطةَ التفاوض لشخصٍ خارج غزة لتسهيل الرحلات المكوكية للولايات المتحدة.
إنَّ تمكينَ مسؤول “حماس” الموجود في الدوحة أو القاهرة من شأنه أن يسمحَ لبلينكن تأمينَ ردود فعلٍ وإجابات موثوقة في الوقت الفعلي من “حماس” من خلال قطر ومصر. وهذا تنسيقٌ تفاوُضي مُعقَّد بلا شك يشملُ مبعوثين أميركيين يتنقلون بين المسؤولين الإسرائيليين ونظرائهم المصريين والقطريين، الذين يتنقّلون هم أنفسهم بين “حماس” وإسرائيل والولايات المتحدة. ولكنَّ الأمرَ لن يكون أكثر تعقيدًا من تنقُّلات بيكر المكوكية بين إسرائيل والأردن ومنظمة التحرير الفلسطينية (الأخيرة من خلال “وفد استشاري” غير رسمي) في أوائل تسعينيات القرن العشرين.
وبالإضافة إلى إقناع الدول العربية بتبنّي موقفٍ أكثر عدوانية على الفور بشأن فرضِ عقوباتٍ على “حماس”، ينبغي لإدارة بايدن أن تدفعَ هذه الدول إلى فَضحِ دور السنوار المُعرقِل في المحادثات علنًا. ويبدو أنَّ قادة “حماس” الآخرين هم أكثر استعدادًا للتفاوض، وقد يُعزّزُ انتقادُ العرب للسنوار موقفهم. وهذا مُهمٌّ بشكلٍ خاص، نظرًا لأنَّ قتلَ إسرائيل لإسماعيل هنية ــالذي كان يدعو إلى وقف إطلاق النار، حتى مع مسؤوليته الواضحة عن أعمال الإرهاب ــ ربما أضعف أنصارًا آخرين للمفاوضات داخل “حماس”. وسوفَ يكونُ إقناع الدول العربية بأنَّ أعضاءَ “حماس” المُتَّهَمين بدورهم في قتل أميركيين يجب أن يُحتَجَزوا من قبل الولايات المتحدة صعبًا للغاية، لكن إدارة بايدن لديها التزام استراتيجي وقانوني وأخلاقي بمحاولة تحقيق ذلك.
على الرُغمِ من اختلافِ إسرائيل ومصر حول مدى اتساع الأنفاق بين غزة ومصر، فمن غيرِ المُمكِن الإنكار بأنَّ “حماس” قامت بتهريب الأسلحة عبر هذا الطريق. ولا بدَّ أن يكون التعاوُن الوثيق بين الولايات المتحدة ومصر وإسرائيل في إغلاقِ هذه الشبكات وتحسين مراقبة ساحل غزة على البحر الأبيض المتوسط جُزءًا من هذه المعادلة. كما ينبغي لمصر أن تنضمَّ إلى قطر في التهديد بمنع مسؤولي “حماس” من الوصول إلى أراضيها وطردهم منها.
كلُّ هذا يشكّلُ عبئًا ثقيلًا، وقد تفشل الولايات المتحدة حتى لو تَّم تنفيذ هذا النهج بشكلٍ مثالي. لكن نظرًا للمخاطر، ينبغي للإدارة أن تستخدم كل أداة تحت تصرّفها. فحياة الإسرائيليين والفلسطينيين واللبنانيين والأميركيين تعتمد حرفيًا على ذلك.
- أندرو ميلر هو زميل أول في “مركز التقدّم الأميركي”، وقد شغل منصب نائب مساعد وزير الخارجية الأميركي للشؤون الإسرائيلية-الفلسطينية من كانون الأول (ديسمبر) 2022 إلى حزيران (يونيو) 2024.
- يصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توافقًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.