الحربُ في غزّة ستُشَكِّلُ إرثَ بايدن في الأمم المتحدة

كابي طبراني*

عندما يُلقي الرئيس الأميركي جو بايدن خطابهُ الأخير أمامَ الجمعية العامة للأمم المتحدة يوم الثلاثاء المقبل، سيَتعيَّنُ عليه تَوَخّي الحذر. على مدى السنوات الأربع الماضية، بذلت إدارته الكثيرَ لاستعادةِ وتَحسينِ العلاقات الأميركية مع المنظّمة الدولية، وعملت على صياغةِ نبرةٍ أقلّ مُواجَهة لديبلوماسيتها فيها وعلى إصلاحِ الأضرار التي أحدثتها إدارة دونالد ترامب السابقة. لكن موقف البيت الأبيض بشأن الحرب بين إسرائيل و”حماس”، والتي ستكونُ الموضوعَ المُهَيمن في الجمعية العامة لهذا العام، وَضَعَ الولايات المتحدة على خلافٍ مع مُعظَمِ أعضاءِ الأمم المتحدة.

عندما تولّى بايدن منصبه في العام 2021، وَعَدَ بإحياءِ الديبلوماسية المُتعدّدة الأطراف. كانت أميركا سريعة في العودة للانضمام إلى اتفاقياتِ وهيئاتِ الأمم المتحدة التي انسحبَ منها ترامب، مثل اتفاقية باريس للمناخ ومجلس حقوق الإنسان. لكن لم يَكُن من الواضح ما الذي يُريدُ بايدن تحقيقه بالضبط في الأمم المتحدة بَعدَ هذا، حتى مع أنَّ أولويات سياسته الخارجية ــوأبرزها بناء علاقات في آسيا لموازنة الصين ــ كانت في مكانٍ آخر. هذا الأمر كان بمثابةِ خيبةِ أملٍ لأعضاء الأمم المتحدة الذين ما زالوا يتذكّرون تركيزَ الرئيس الأسبق باراك أوباما على الاتفاقيات المُتعدّدة الأطراف الكبرى مثل اتفاقية باريس وأهداف التنمية المستدامة.

من جانبهم، شعر أعضاء إدارة بايدن الجديدة بالإحباط إزاء مدى صعوبة تنفيذ حتى العناصر الأساسية للديبلوماسية في الأمم المتحدة. فقد استغرق الأمرُ شهورًا حتى يتمكّن المسؤولون الأميركيون من إقناعِ أعضاءٍ آخرين في مجلس الأمن الدولي بالموافقة على عَقدِ اجتماعٍ كامل النطاق بشأنِ حربِ تيغراي في إثيوبيا، على سبيل المثال، على الرُغم من أن سفيرة بايدن لدى الأمم المتحدة، ليندا توماس غرينفيلد، حدّدت ذلك كأولوية.

ألمَحَت حادثةٌ في وقتٍ مُبكرٍ من ولاية بايدن إلى حدودِ اهتمامِ الإدارة بالديبلوماسية في الأمم المتحدة، على الأقل عندما تتعارَضُ مع أولوياتٍ أخرى. عندما اندلع القتال بين إسرائيل و”حماس” في أيار (مايو) 2021، كانت غالبيةُ أعضاء مجلس الأمن حريصةً على الدعوةِ إلى إنهاءِ الأعمال العدائية. وأشارت السفيرة غرينفيلد يومها إلى أنها وافقت، لكن البيت الأبيض رَفضَ دَعمَ البيان حتى تنتهي الأزمة.

من ناحية أُخرى، أشعلَ الغزو الروسي الشامل لأوكرانيا اهتمامًا مُتَجدِّدًا للولايات المتحدة بالأمم المتحدة. في ربيع العام 2022، ومع تَعَثُّرِ تَحَرُّكِ مجلس الأمن الدولي بسبب حق النقض (الفيتو) الروسي، عملت واشنطن عن كثب مع الاتحاد الأوروبي وحلفاءٍ آخرين لهندسةِ سلسلةٍ من قراراتِ الجمعية العامة التي تُدينُ حربَ موسكو العدوانية. وقد فوجئ المسؤولون الأميركيون بشكلٍ إيجابي بحجمِ الدَعمِ الذي تمكّنوا من حشده بين دول “الجنوب العالمي”، حيث أيّدَ أكثر من 140 عضوًا في الأمم المتحدة موقف كييف. ومع استمرارِ الحرب، أصبحَ من الصعبِ حَشدُ الدولِ لانتقاد موسكو، لكنَّ الإدارة الأميركية لا تزال ترى الأمم المتحدة كمنصّةٍ مُفيدة لتعزيزِ العلاقات مع الدول غير الغربية التي قد تنجرفُ نحو الصين وروسيا.

وقد شملت جهودُ إدارةِ بايدن، للحفاظِ على الدَعمِ والتأييد بين الدول غير الغربية، مُبادراتٍ بشأنِ الأمنِ الغذائي العالمي، وتسخيرَ الذكاءِ الاصطناعي لتعزيزِ التنمية الاقتصادية، وقرارَ مجلسِ الأمن الدولي لعام 2023 بإنشاءِ إطارٍ جديدٍ للأمم المتحدة لتمويلِ عملياتِ السلام بقيادة الاتحاد الأفريقي. لكنَّ أبرزَ مناورةٍ لبايدن كانت الدعوة إلى إصلاحِ مجلس الأمن الدولي، مما قد يُعطي نفوذًا جديدًا للدول غير الغربية.

أثارَ بايدن قضيةَ إصلاحِ مجلس الأمن الدولي لأوّلِ مرّة في خطابه أمام الجمعية العامة في العام 2022. في البداية، كان الديبلوماسيون غير مُتَأكّدين مما إذا كانت هذه مُبادرَةَ إصلاحٍ حقيقية أم مُجرّدَ نَوعٍ من الاستعراض. ​أَصَرَّ المسؤولون الأميركيون على أنَّ موقفَ الرئيس يَعكُسُ قلقًا حقيقيًا في واشنطن بشأنِ تراجُعِ مصداقية المجلس. لم يَكُن لدى بايدن الكثير ليقوله حولَ هذا الموضوع عندما عاد إلى الأمم المتحدة في العام الفائت، وافترضَ العديدُ من المُراقبين أنَّ المُبادرَةَ تلاشت. لكن هذا الشهر، أعلنت السفيرة غرينفيلد أنَّ الولايات المتحدة تُفضِّلُ الآن مَنحَ مَقعدَين دائمَين في المجلس للدول الأفريقية -بالإضافة إلى مقاعد دائمة لألمانيا والهند واليابان- وترغَبُ في أن تبدأ الجمعية العامة العملَ على التفاوُضِ على قرارٍ بشأنِ آلياتِ الإصلاح.

مع مُغادرةِ بايدن البيت الأبيض في غضونِ أشهر قليلة، لا تُوجَدُ طريقةٌ يُمكِنُ لأعضاءِ الأمم المتحدة من خلالها التوصّل إلى اتفاقٍ إصلاحي في عهده. إذا فازت نائبة الرئيس كامالا هاريس في انتخابات تشرين الثاني (نوفمبر)، فقد تتولّى زمام المبادرة، رُغمَ أنَّ هذا سيكونُ مهمّةً شاقة للغاية نظرًا للعقبات السياسية والقانونية. وإذا فازَ ترامب، فمن المرجّح أن تُلغى الفكرة بأكملها وتتلاشى، وستعود الولايات المتحدة إلى نوعٍ من ديبلوماسيةِ المواجهة في الأمم المتحدة التي كانت السمة المُميّزة لولاية ترامب الأولى. مع ذلك، تستحقُّ إدارةُ بايدن بعضَ الثناء لكونها كانت مُستعِدّة لتصوُّرِ وإجراءِ تغييراتٍ في بُنيةِ الأمم المتحدة، بدلًا من التشبّث بالوضع الراهن.

لم تَكُن الإدارةُ الأميركية الحالية حريصةً على تعزيزِ الإصلاحات في بعض المجالات الأخرى. فقد قاومت واشنطن دعواتٍ من دول “الجنوب العالمي” والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش لإعطاءِ المنظّمة دورًا في إعادةِ تشكيلِ حَوكَمة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي. كما عارَضَت مقترحات غوتيريش لإنشاءِ وكالةٍ دوليةٍ جديدة تتمتّعُ بسلطةِ تَنظيمِ الذكاء الاصطناعي. وقد دفع هذا بعض مسؤولي الأمم المتحدة والديبلوماسيين الأجانب إلى التذمُّر والقول بأنَّ الولايات المتحدة لا تزالُ تنتهجُ نهجَ “لإختيار” في التعامُل مع التعدُّدية، ولا تُولي اهتمامًا إلّا بشكلٍ مُتقطِّع لمصالح الدول الأخرى.

لكن بالنسبةِ إلى معظم أعضاء الأمم المتحدة، كانت أعظم خطيئة ارتكبتها الإدارة هي رفضها المُتكرّر لدعم دعواتِ مجلس الأمن الدولي والجمعية العامة لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس” في أواخر العام 2023 وأوائل العام 2024. كما أدّى موقف بايدن الثابت ضدّ إعطاء الأمم المتحدة دورًا سياسيًا في حَلِّ الحرب في غزة إلى تنفيرِ العديد من حلفاء أميركا وجَعَلَ من الصعب على القوى الغربية تأمين الدعم لأوكرانيا في الجمعية العامة. لكن هذا لم يمنع أعضاء الأمم المتحدة من العمل مع واشنطن بشأنِ قضايا أُخرى في نيويورك وجنيف، كما خفَّ التوتُّرُ قليلًا بعد أن قدمت الولايات المتحدة مشروعَ قرارٍ لوقف إطلاق النار بين إسرائيل و”حماس” في مجلس الأمن الدولي في حزيران (يونيو)، رُغمَ أنَّ هذا القرار لا يزال من دون تنفيذ.

مع ذلك، ومع استمرار الحرب في غزة وتصاعد التوترات بين إسرائيل و”حزب الله” في لبنان قبل انعقاد الجمعية العامة، يأملُ معظم أعضاء الأمم المتحدة أن يستخدمَ بايدن ظهوره الأخير في الهيئة الدولية للدفعِ نحو الحَدِّ من التوتّرات في الشرق الأوسط. هناكَ أزماتٌ أخرى على جدول أعمال الجمعية العامة هذا العام، بما في ذلك الحرب في السودان، والتي سلّطت الولايات المتحدة الضوءَ عليها. لكنَّ إرثَ بايدن في الأمم المتحدة من المُرَجَّحِ أن يَتشَكَّلَ بما إذا كانت الولايات المتحدة تعملُ مع المنظمةِ الدولية لمحاولةِ كَبحِ جماحِ الأعمال العدائية المُتصاعِدة بين إسرائيل وأعدائها أم لا.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر منصة (X) على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى