لماذا تتقرَّبُ قطر من إقليمِ كردستان-العراق؟

مع احتمالِ اشتعالِ الاضطراباتِ السياسية وإمكانِيةِ عودة الصراع في بغداد، تعملُ دولٌ خليجية متعدّدة على توسيع استثماراتها في إقليم كردستان–العراق.

رئيس الوزراء العراقي محمد شياّع السوداني وأمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني خلال زيارة الأخير للعراق حيث وقع مع الأول “إعلان نوايا مشترك” في حزيران/يونيو 2023.

رانج علاء الدين*

شهدت العلاقات بين دولة قطر وإقليم كردستان-العراق في العام الفائت تَحَسُّنًا ملحوظًا، بعد أن وضعت الحكومة الكردية بقيادة رئيس الوزراء مسرور بارزاني بَندَ تعزيزِ العلاقات الديبلوماسية والاقتصادية مع الدول الخليجية في أعلى سُلّمِ أولوِيّاتها. وقد شملَ ذلك توسيع التبادل التجاري مع الدوحة، خصوصأ في القطاع الزراعي. وتسعى أربيل والدول الخليجية أيضًا إلى تعميق شراكتهما في قطاع الطاقة من خلالِ مشروعِ شبكةِ أنابيب يَربُطُ كردستان بالحدود التركية، يُتَوَقّع أن تُساهمَ فيه قطر، ويهدف إلى استغلالِ احتياطات الغاز في كردستان، وتعزيزِ موقعِ تركيا كمركزٍ رئيس لتصدير الغاز، مع الاستفادة من مكانة قطر كقوّة عالمية في مجال الغاز الطبيعي المُسال. وعلى نطاق أوسع، وقّعت كلٌّ من قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة على “مشروع طريق التنمية”، وهو مبادرة بنية تحتية ضخمة تطمح إلى إنشاءِ مساراتٍ جديدة للتجارة والإمدادات في المنطقة.

سعت قطر إلى تعزيز حضورها في كردستان، وافتتحت لهذه الغاية قنصلية في أربيل في أيار (مايو) الماضي، ما قد يُحقّقُ لها مكاسب على مستوياتٍ مُتَعدّدة. لكن، لا تزال الدوحة تتبع نهجًا حذرًا نسبيًا، نظرًا للتقلّباتِ السياسية في العراق واحتمالِ تَجَدُّدِ الصراعات فيه. ورُغمَ أنَّ هذه المخاوف مُبَرَّرة إلى حدٍّ ما، فقد تكونُ مُبالَغًا فيها في ما خصَّ كردستان. يتمتّع الإقليم بنظامٍ سياسيٍّ وأمني أكثر استقرارًا مُقارنةً ببقيّة العراق، وتربطه علاقاتٌ قويّة مع الغرب وتسعى حكومته إلى تعزيز علاقاتها مع الصين، ما يعكس قدرته على موازنة علاقاته الدولية. يُمكِنُ إذًا للتعامل مع كردستان على هذا الأساس وانطلاقًا من إستراتيجيةٍ طويلة الأمد، أن يُساعِدَ قطر على تجاوز التحدّيات المحتملة التي قد تعترض مصالحها الأمنية والاقتصادية في العراق، ويوفّر لها فرصة للاستفادة من كردستان في التأثير في المشهد العراقي الأوسع.

كردستان كشريكٍ مُستقرّ

تُعزى جاذبية إقليم كردستان بجُزءٍ منها إلى استقراره النسبي مُقارنةً ببغداد. فقد نجحت حكومة الإقليم في إقامةِ علاقات متوازنة مع حكوماتٍ مُتنافِسة مثل إيران والولايات المتحدة وتركيا والإمارات، كوسيلةٍ للبقاء منذ استقلالها بحكم الأمر الواقع في العام 1991. كما تمكّنت من التكيّف مع الأحداث التاريخية المهمّة، مثل الحرب على الإرهاب بعد 11 أيلول (سبتمبر) 2001، ما جعلها حليفًا رئيسًا في الجهود العالمية لمكافحة الإرهاب، واستفادت من الدعم الأميركي لتعزيز استقلاليتها وازدهارها. ورُغمَ أنّ الخلافات الداخلية بين الأكراد قد أضعفت نفوذ حكومة الإقليم تجاه بغداد، إلّا أنّ الأطرافَ الكردية كافّة تتفِّقُ على أهمّية الحفاظ على علاقات كردستان التاريخية مع القوى الخارجية. وهذا يتطلّب الاستمرار في السياسة المتوازنة التي مكّنت حكومة الإقليم من تعزيز علاقاتها مع الغرب ومع جيرانها، مثل إيران وتركيا.

لقد انفتحت حكومة إقليم كردستان، تحت قيادة بارزاني، على الدول الخليجية في محاولةٍ لتنويعِ اقتصادِ الإقليمِ وتأمينِ أسواقٍ بديلة للشركات والمُصَدّرين الأكراد. بدايةً، أبدت دول مجلس التعاون الخليجي بعض التردّد في توسيع علاقاتها مع حكومة كردستان. حتى أنّ تركيا كانت الدولة الوحيدة تقريبًا في الشرق الأوسط التي زادت من تواصلها مع أربيل بعد الإطاحة بنظام صدام حسين في العام 2003، حيث وصل حجم التبادل التجاري بين تركيا وحكومة الإقليم اليوم إلى نحو 5 مليارات دولار سنويًا. في المقابل، ركّزت الدول الخليجية على بقية العراق، ما أغرقها في وحول حروبه الأهلية الطائفية، ثمّ تفاقمت تعقيدات علاقاتها مع العراق بفعل “الربيع العربي”، وحُكم “حزب الدعوة” الطائفي في بغداد، ونشوء تنظيم “داعش”.

لكنّ هذه الصورة تغيّرت جذريًا في السنوات الماضية، حيث أسهمَ الاهتمامُ بالتكامل الاقتصادي الإقليمي وتخفيف التوتّرات في فَتحِ آفاقٍ جديدة للعلاقات بين العراق ودولٍ أخرى. وفي هذا السياق، عملت قطر على توسيع مروحة مشاركتها في قطاعاتٍ متنوّعة في العراق، خصوصًا في السنوات الثلاث الماضية. في آب (أغسطس) 2023، أعلنت شركة استثمار القابضة القطرية عن مجموعةٍ من الاستثمارات في العراق، بموجب مذكّرة تفاهم تمّ توقيعها خلال زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني إلى العراق. وتضمّنت الصفقة اتفاقيات بقيمة 7 مليارات دولار مع الهيئة الوطنية للاستثمار في العراق تشمل مجالات التطوير العقاري والسياحة وإدارة المستشفيات.

وكانت الشركة القطرية للخدمات البحرية واللوجستية ملاحة قد أعلنت في نيسان (أبريل) 2023 عن إطلاقِ خدمةٍ جديدة لنقل البضائع بين ميناء أُم قصر في جنوب العراق ودول مجلس التعاون الخليجي. كما تمتلك شركة قطر للطاقة حصّة 25 في المئة في “مشروع نمو الغاز المتكامل” (GGIP)، البالغة قيمته 27 مليار دولار ويشمل الغاز والنفط والمياه والطاقة الشمسية، بالشراكة مع شركة نفط البصرة العراقية وشركة “توتال إنرجي” الفرنسية. وتضطلع قطر كذلك بدورٍ نشط في المجال الإنساني، حيث لمنظمات إنسانية مثل جمعية الهلال الأحمر القطري سجلٌّ حافلٌ بتقديم المساعدات للنازحين من مدنهم خلال الحرب ضد تنظيم “داعش”.

وقد أعربَ بارزاني عن تطلُّعاته لتحويل كردستان إلى مُصَدِّرٍ عالمي للغاز، خصوصًا مع زيادة الطلب على الوقود منذ بداية الحرب في أوكرانيا في العام 2022، ما يفتحُ أبوابَ الفرص أمام قطر، ثاني أكبر مصدّر للغاز الطبيعي المسال في العالم، لكي تُوَظّف خبرتها اللوجستية في القطاع. إلى ذلك، يتيح تطوير احتياطات الغاز في كردستان لقطر الذهاب أبعد في علاقاتها مع تركيا، التي تعتبر الغاز الكردي حيويًا لضمان مصالحها على صعيدَي الطاقة والأمن في المدى الطويل. ويُمكِنُ لقطر أن تؤدّي أيضًا دورًا أساسيًا في الساحة العراقية من خلالِ تعزيزِ علاقاتها مع الأطراف السياسية الشيعية وتوسيع نطاق تعاونها مع أربيل، بما أنّ هذه الأطرافَ قادرةٌ على تقويضِ تطوير الغاز الكردي، ما قد يتطلب تدخّل طرف ثالث مُحايد –مثل الدوحة– لتخفيف مخاوفهم والعمل على بناءِ رؤيةٍ مشتركة لقطاع الطاقة في البلاد.

تعزيز نفوذ الدوحة الإقليمي

من شأنِ تعزيزِ الحضورِ القطري في كردستان أن يُساعدَ الدوحة على توسيع نفوذها في العراق بشكلٍ عام، مُستفيدةً أيضًا من العلاقة الوثيقة التي تربطها بتركيا. وقد مثّلت علاقاتُ أنقرة مع حكومة إقليم كردستان محورها الخاص في العراق والمنطقة على مدى عقود، وتعزّزت هذه العلاقات بفعل التعاون في قطاع الطاقة، بما في ذلك الاتفاق التاريخي المُوَقَّع في العام 2013 لمدّة خمسين عامًا والذي مَكّنَ كردستان من تصدير النفط بشكلٍ مستقلّ، على الرُغم من الضغوط التي تعرّضت لها هذه الاتفاقية في السنوات الماضية.

وقد بنت تركيا كذلك على علاقاتها مع حكومة إقليم كردستان لتعزيز نفوذها في العراق، ووظّفتها في سوريا أيضًا. إلى ذلك، يصبُّ قرب أربيل من الكتلة السياسية العربية السنيّة المتحالفة مع الدوحة في العراق لمصلحةِ كلٍّ من قطر وتركيا. إذ تضمّ الكتلة في صفوفها شخصيات مثل محمد الحلبوسي وخميس الخنجر اللذان تربطهما علاقات طيبة مع الحزب الديموقراطي الكردستاني الحاكم، ولهذه الأطراف دورٌ حاسم في ضمان أن تبقى استثمارات قطر والتزاماتها في بغداد والمناطق الأخرى إستراتيجية وطويلة الأمد، بدل أن تتحوّلَ إلى مشاريع مُكلفة وسريعة الزوال.

بعبارةٍ أُخرى، سيُسهِمُ تحسينُ العلاقات بين قطر وحكومة إقليم كردستان في تعزيزِ عُمق الدوحة الإستراتيجي في العراق، الذي يضمُّ سوقًا من حوالي 45 مليون نسمة، مرشّحة لنموٍّ هائل. أمّا بالنسبة إلى أربيل، فإنّ تعزيز العلاقات مع الدوحة يبني على الروابط القائمة مع الإمارات العربية المتحدة أصلًا، إذ تنشط شركة نفط الهلال في كردستان منذ العام 2007، وقد وقّعت العام الماضي على ثلاث اتفاقيات تمتد لعشرين سنة لتطوير حقول النفط والغاز الطبيعي في محافظتَي البصرة وديالى.

إلى ذلك، يفتح التقارب بين الدوحة وأربيل آفاقًا جديدة لزيادة استثمارات دول مجلس التعاون الخليجي في كردستان بشكلٍ عام، حيث تسعى حكومة الإقليم إلى تنويع اقتصادها وتعزيز نموّ القطاعات غير النفطية. كما سيُسهِمُ تعزيز العلاقات بين الحكومتين في توضيح سياستيهما الخارجية وتعزيزهما، ما يسهم في تحقيق مزيد من التكامل بين الاقتصادات الإقليمية.

  • رانج علاء الدين هو زميلٌ في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية، وكان سابقًا زميلًا غير مُقيم في برنامج السياسة الخارجية في معهد بروكنغز وباحثًا زائرًا في جامعة كولومبيا.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى