حَلُ الدولتَين الذي يُمكِنُ أن ينجح: الكونفيدرالية الإسرائيلية-الفلسطينية

إنَّ إنشاءَ كونفيدرالية إسرائيلية-فلسطينية هو أمرٌ صعبٌ للغاية. والواقع أنَّ البعضَ قد يتصوَّرُ أنَّ السيناريو الذي يتمُّ فيه بناء دولة فلسطينية على أنقاضِ غزة والضفة الغربية المُجزَّأة ثم الدخول في تعاونٍ وثيق مع إسرائيل قد يبدو مستحيلًا. ذلك أنَّ العداوةَ بين الطرفَين، وعدم التوازن الشديد في القوة، وتجاهلهما الصارخ للقانون الدولي، تشكّلُ عقبات هائلة أمام السلام. لكن هذه الحواجز تُعوِّقُ أيَّ حل، والكونفيدرالية أكثر جدوى من النهج المَبني على الفصل والهيمنة. والأمر الحاسم هنا هو أنها مُصمَّمةٌ أيضًا لإرساء السلامِ المُستدام، وليس نظامًا لإدارة الصراعات الدائمة.

نائبة الرئيس الأميركي كامالا هاريس وبنيامين نتنياهو: الأولى أصرّت على حل الدولتين والثاني رفضه.

عمر دجّاني وليمور يهودا*

في تموز (يوليو)، التقت نائبةُ الرئيس الأميركي كامالا هاريس رئيسَ الوزراءِ الإسرائيلي بنيامين نتنياهو لمُناقشةِ الحربِ في غزة ومستقبل الشرق الأوسط. بعد ذلك، أكّدت هاريس التزامَها بحلِّ الدولتَين للإسرائيليين والفلسطينيين ــ على حد تعبيرها، “المسار الوحيد الذي يضمن بقاء إسرائيل دولة يهودية وديموقراطية آمنة، والذي يضمن للفلسطينيين أن يحققوا أخيرًا الحرية والأمن والازدهار الذي حقًا يستحقونه”. وهي ليست وحدها في هذا الرأي. ففي مختلف أنحاء العالم، يُواصلُ القادةُ التعهُّدَ بدَعمِ حلِّ الدولتين، بحجّةِ أنه يُوفّرُ التوجيهَ والزخم للجهود الرامية إلى إنهاء الحرب وإعادة بناء غزة في نهاية المطاف. وفي قرارِ وقفِ إطلاقِ النار الذي طال انتظاره، والذي صدرَ في حزيران (يونيو)، التزمَ مجلسُ الأمن الدولي مرّةً أخرى ب”رؤيةِ حلّ الدولتين حيثُ تعيشُ دولتان ديموقراطيتان، إسرائيل وفلسطين، جنبًا إلى جنب في سلامٍ داخل حدودٍ آمنة ومُعتَرَف بها”.

لكن بالنسبةِ إلى أيِّ شخصٍ ينتبهُ إلى ما يحدث على الأرض، فإنَّ هذه التصريحات تبدو مُنفَصِلةً عن الواقع. فقد تعهّدَ نتنياهو وشركاؤه في الائتلاف اليميني المتطرِّف بعدمِ السماحِ بإنشاءِ دولةٍ فلسطينية. وحتى أبرز مُعارضي نتنياهو يُحذّرون من هذه الفكرة، وهم على درايةٍ باستطلاعاتِ الرأي التي تُظهِرُ مُعارضةَ الإسرائيليين الساحقة لها. ولا تُريدُ إسرائيل التخلّي عن السيطرة على الضفة الغربية وقطاع غزة، وهي ليست على استعدادٍ لنقل مئات الآلاف من المستوطنين أو إقامة حدود مادية تُقسِّمُ القدس. ولعلَّ هذا هو السبب في أنَّ أيَّ شخصٍ تقريبًا تَحدَّثنا إليه في المحادثات الخاصة ــليس مُحلّلين أو ديبلوماسيين أو صناّع سياسات ــ يعتقدُ فعليًا أنَّ حلَّ الدولتين الذي طالما تصورناه قابلٌ للتحقيق. وكما اعترفت هاريس نفسها بعد اجتماعها في تموز (يوليو)، “في الوقت الحالي، من الصعب تصوُّر هذا الاحتمال”.

لقد دَفَعَ عدم جدوى خطة الدولتين المألوفة بعض المُثقَّفين إلى الدفع بدلًا من ذلك نحو حِّل الدولة الواحدة. وبموجبِ هذه المقترحات، سوف يكون الفلسطينيون واليهود الإسرائيليون مواطنين متساوين في دولةٍ تحكمها حكومةٌ واحدةٌ مُنتَخَبة ديموقراطيًا. إنَّ مثلَ هذا الحلّ قد يكونُ هدفًا جديرًا بالاهتمام في الأمد البعيد، لكن في الوقت الحالي يظلُّ مجرّدَ طموح. فلا اليهود الإسرائيليون ولا الفلسطينيون على استعدادٍ للتضحية بحقّهم في تقرير المصير الوطني. ولدى كلّ من الطرفين أسبابٌ وجيهة تجعله مُتردّدًا إلى هذا الحد. فلا توجدُ هويةٌ إسرائيلية-فلسطينية مشتركة، ورُغمَ إمكانيةِ تطويرِ هويةٍ مُشتركة، فإنَّ هذا قد يستغرقُ أجيالًا.

إن لم يَنجَح حلُّ الدولتين أو حلُّ الدولة الواحدة، فإنَّ احتمالات السلام بين الشعبين قد تبدو قاتمة للغاية. لكن هناكَ بديل: إتحادٌ كونفيدرالي إسرائيلي-فلسطيني، مبني على مبادئ المساواة والشراكة. في هذا الاتحاد، يحصلُ كلٌّ من الإسرائيليين والفلسطينيين على دولتَين مُنفصلتين. وسوفَ تكونُ لكلٍّ منهما حدودٌ واضحة والحقّ في إقرار قوانينها الخاصة. لكن بعدَ فترةٍ انتقالية، تصبحُ الحدود مفتوحة، ويتمتّعُ كلٌّ من الشعبين في نهاية المطاف بالحقِّ في العيشِ على طول الأراضي الواقعة بين الأردن والبحر الأبيض المتوسط، والتي يعتبرها كلٌّ منهما وطنه التاريخي. وسوف تَحكُمُ هيئاتٌ إسرائيلية-فلسطينية مُشتَرَكة قضايا تتجاوز حدودَ كلِّ دولة، مثل الطاقة والأمن الخارجي. وسوف تكون هناك مؤسّسات قضائية مشتركة لحماية حريات الجميع.

من خلال القيام بكلِّ هذا، سوف يعملُ الاتحادُ الكونفيدرالي على حلِّ القضايا الشائكة الناشئة عن التناقُضِ بين المُواطَنة والقومية والدولة، فضلًا عن التناقُضِ بين الديموغرافيا والجنسية والسيادة. إنَّ هذا الحل من شأنه أن يَضمَنَ المساواة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، فرديًا وجماعيًا. كما إنّهُ من شأنه أن يُساعدَ المجموعتَين على التعاوُن على أساسٍ مُنصفٍ وعادلٍ بعد عقودٍ من الاحتلال والصراع.

منذ تسعينيات القرن العشرين، ارتبطَ تقسيمُ الأرضِ الواقعةِ بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط ​​إلى دولتين بنموذجِ “الانفصال” (أو الهافرادا، بالعبرية). ويَفتَرِضُ هذا النموذج أنَّ إسرائيل لا يُمكِنُ أن تكونَ يهوديةً وديموقراطيةً إلّا إذا انفصلت ماديًا عن ملايين الفلسطينيين الذين تحكمهم في الضفة الغربية وقطاع غزة. وفي حملته الانتخابية الناجحة في العام 1999، قال رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إيهود باراك لبلاده إنه سيسعى إلى “السلام من خلال الانفصال”. وكان أحد شعاراته “نحن هنا؛ وهم هناك”.

وقد شكّلَ هذا النموذج الخطوطَ العريضة لاتفاقيةِ السلام التي سعت إليها إسرائيل في نهاية المطاف. وبموجبِ شروطِ المُقترحات التي طرحها باراك وخليفته إيهود أولمرت، سيتمُّ ضمُّ أكبر كتل المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية، وإجلاء جميع المستوطنين الذين يعيشون خارجها. وسيتمُّ إنشاءُ حدودٍ مادية داخل القدس، لتقسيمِ المدينة على أسُسٍ عرقية.  وسوفَ يُحرَمُ اللاجئون الفلسطينيون إلى حدٍّ كبير من العودة إلى مواطنهم الأصلية داخل إسرائيل.

لكنَّ الجانبَين لم يتَّفِقا على كيفيةِ تحويلِ هذا المفهوم إلى واقع. وخلال محادثات السلام التي ترأّسَتها ورعتها ثلاثُ إدارات أميركية، تجادَل الإسرائيليون والفلسطينيون حولَ أيٍّ من المستوطنات ــ التي بُنيت جميعها في انتهاك للقانون الدولي ــ سوفَ تبقى وأيّها سوف تُزال. كما اختلفوا حول كيفية تقسيم مدينة القدس على وَجهِ التحديد.

لكن اليوم، أصبحَ هذا النموذج ميتًا تقريبًا. فقد تجاوزَ عدد المُستوطنين في الضفة الغربية والقدس الشرقية 700 ألف نسمة، وهو ضعفُ العدد الذي كان عليه في العام 2000. ويُقيمُ أكثر من 115 ألفًا من هؤلاء المستوطنين خارج الكتل التي طالبت إسرائيل في السابق بضَمّها. في الوقت نفسه، يتمتع اليمين المتطرّف بنفوذٍ غير مسبوق في الحكومة. ونتيجةً لهذا، أصبحت التكاليف السياسية والاقتصادية والأمنية المُترتّبة على إخلاء المستوطنين بالقوّة باهظة.

إنَّ المشاكلَ التي تُواجِهُ حلَّ الدولتين القائم على الفصل ليست عملية، كما إنها ليست أخلاقية أيضًا. والحقيقةُ هو أنَّ هذا النموذج بُنِيَ على فَرضياتٍ مشكوكٍ فيها. فهو يُعزّزُ مفهومَ الدول القومية المُتجانسة عرقيًا والذي يعود إلى عمليات نقل السكان (الترانسفير) الكارثية التي شهدها القرن العشرين، ويُهدّد بتكرارها. وهو يُهمّشُ حقوقَ اللاجئين الفلسطينيين ويُقيمُ حدودًا صارمةً تَفصُلُ الفلسطينيين واليهود عن الأماكن التي تحتلُّ مكانةً مركزيةً في تاريخهم وذاكرتهم. وأخيرًا، فإنَّ هذا الحلّ يُقدّمُ إطارًا مؤسَّسِيًّا محدودًا لإدارة الترابُطِ المُتبادَلِ الذي لا مفرَّ منه بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الذين يتعيّن عليهم ـسواء كانوا مُنفصلين أم لاـ أن يعيشوا في قطعةٍ من الأرض لا تزيد مساحتها إلّا قليلًا عن ولاية فيرمونت (الأميركية). ونتيجةً لهذه الجغرافيا الحميمة، فإنهم يواجِهون مخاطرَ قد تتجاوز أيَّ حدود. وهناك سببٌ وراء تحذير الخبراء الطبّيين من أنَّ شللَ الأطفال الناجم عن نظام المياه المُدمَّر في غزة قد ينتشرُ إلى إسرائيل.

على الرُغمِ من هذه العيوب، يَزعَمُ المُحلّلون في كثيرٍ من الأحيان أنَّ الفصلَ المادي بين الفلسطينيين والإسرائيليين ضروريٌّ من أجلِ أمن اليهود. ويُشيرون إلى أنه يُمكنُ أن يُساعدَ على مَنعِ الهجمات الإرهابية والحَدِّ من التوتّرات العرقية. لكن هذه الحجة تَدحَضُها التجربة. ففي داخل إسرائيل، حيث يعيش اليهود جنبًا إلى جنب مع نحو مليونَي مواطن فلسطيني في إسرائيل، كانت أعمال العنف العرقية نادرة. وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ العزلةَ القسرية لقطاع غزة عن إسرائيل والضفة الغربية لم تفشل فقط في منع الحروب المُتكرّرة والهجمات عبر الحدود، بل ساهمت أيضًا في نشوبها. وحتى لو كانت هناك حواجزٌ يمكن أن تفصُلَ اليهود الإسرائيليين بشكلٍ كامل عن جيرانهم الفلسطينيين في الضفة الغربية وقطاع غزة، فإنَّ المراكز السكّانية الرئيسة في إسرائيل ستظلّ عُرضةً للهجوم. فالجميع ببساطة قريبون من بعضهم البعض أكثر مما ينبغي.

وبالنسبة إلى معظم أنصار الفصل، فإنَّ الإجابة عن هذه المعضلة كانت الحفاظ على سيطرة إسرائيل الشاملة على كامل الأراضي. وقد أوضح يائير لابيد ــوهو سياسي إسرائيلي وسطي ــ هذا الموقف في آذار (مارس) الفائت، حيث دعا إلى حلِّ الدولتين “الذي يتألف من ميزة القوة لصالحنا، والذي يخلق كيانين سياسيين ليسا متساويين في القوة أو القيمة. أحدهما دولة فلسطينية منزوعة السلاح، صغيرة وتعتمد علينا، والآخر هو إسرائيل القوية التي استعادت ثقتها بنفسها”. لكن هذا ليس حلّ الدولتين على الإطلاق. بل إنه بدلًا من ذلك من شأنه أن يتركَ حياةَ الفلسطينيين وسُبُلَ عيشهم في أيدي المؤسّسات الإسرائيلية التي أظهرت باستمرار تجاهُلًا صارخًا لهم. إنها رؤيةٌ للهيمنة والصراع الدائمَين: عكس تقرير المصير المُتبادَل والتعايُش السلمي.

مشاركةُ الأرض

إذأ كانَ الانفصالُ لا يُمكِنُ أن ينجحَ، وإذا كانَ حلُّ الدولة الواحدة غيرَ قابلٍ للتحقيق في المستقبل المنظور، فقد يبدو الأمرُ وكأننا ببساطة لا نملكُ أيَّ خيارٍ جيّد. وفقًا لاستطلاعاتِ الرأي الأخيرة، فإنَّ هذا هو الرأي الذي يتبنّاه عددٌ كبيرٌ من الإسرائيليين والفلسطينيين. لكن عددًا متزايدًا من المراقبين، بمَن فيهم نحن، يعتقدُ أنَّ الكونفيدرالية المُكَوَّنة من دولتَين تُقدّمُ أرضيةً وسطى قابلة للتطبيق. فهي من شأنها أن تُوَفِّرَ لكلا الشعبَين تقريرَ المصيرِ الوطني في حين تُوفّرُ في الوقت نفسه إطارًا عادلًا لإدارة ارتباطاتهما بوطنهما المُشترَك والترابُط المُتبادَل فيه.

إنَّ الكونفيدرالية الإسرائيلية-الفلسطينية لن تكونَ أوّلَ ترتيبٍ من هذا القبيل. الكونفيدراليات كانت موجودةً منذ قرون: يُشيرُ المُصطَلَحُ إلى رابطةٍ أو اتحادٍ حيثُ تُوافِقُ دولتان أو أكثر ذات سيادة على التنازُلِ عن بعضِ سلطاتها السيادية لمؤسّساتٍ مُشتَرَكةٍ لغَرَضِ تحقيقِ أهدافٍ مشتركة، مثل الأمن المُتبادَل أو التكامُل الاقتصادي. وعادةً ما تمتلكُ الدولُ الأعضاء في الكونفيدرالية شخصيةً دولية مستقلة. لكن الكونفيدراليات تُسَهِّلُ أيضًا في كثيرٍ من الأحيان حرّية حركة الأشخاص والبضائع داخلها.

لقد تمَّ استخدامُ الكونفيدراليات، مثل ترتيبات تقاسم السلطة الأخرى، منذُ فترةٍ طويلة لمُعالجة التوتّرات العرقية في المساحات المشتركة. وفي بعضِ الأحيان، لعبت الكونفيدراليات دورًا انتقاليًا. على سبيل المثال، سَهّلَ اتحادُ دولة صربيا والجبل الأسود (مونتينيغرو) الانتقالَ السلمي إلى استقلال الجبل الأسود في منطقةٍ كانت تُعاني من حربٍ عرقية. كانت سويسرا ذات يومٍ كونفيدرالية بين كانتوناتٍ ناطقةٍ بالألمانية والفرنسية والإيطالية. لكن في دستورها لعام 1848، تحوّلت إلى اتحادٍ فيدرالي أكثر تماسُكًا.

لكن الكونفيدراليات لا تحتاجُ إلى أن تكونَ مؤقّتة. فالاتحاد الأوروبي، على سبيل المثال، هو كونفيدرالية أثبتت أنها دائمةٌ إلى حدٍّ كبير. فقد تأسّسَ لضمانِ عدمِ تحوّلِ أوروبا إلى مصدرٍ لحرب عالمية ثالثة، وقد نجحَ بشكلٍ كبير في هذه المهمة. بل إنه نال جائزة نوبل للسلام في العام 2012. كما نجح التكتل بطرُقٍ أخرى أيضًا. فقد أنتج التعاون الاقتصادي والعلمي، ومكّنَ من حرية التنقل، وعزّزَ حقوق الإنسان والديموقراطية وسيادة القانون. وقد طالبت الدول الخارجية بالسماح لها بالانضمام، ولم يغادره سوى عضو واحد (المملكة المتحدة). ورُغمَ أنَّ الاتحاد الأوروبي أسّسَ سياسةً تجارية مشتركة، وقواعد بيئية، والعديد من أنواع التنظيمات الأخرى، فإنَّ كلَّ دولةٍ في الكتلة تظلُّ ذات سيادة، ولها قوانينها الخاصة، وشخصيتها الدولية المتميّزة، وهويتها الوطنية الخاصة.

الكونفيدرالية الإسرائيلية-الفلسطينية، مثل الاتحاد الأوروبي، سوف تتألّف من دولتَين متميِّزتَين. سوف يتم إنشاء فلسطين إلى جانب إسرائيل مع وجودِ حدودٍ دولية مُعتَرَف بها بينهما. إنَّ كلَّ دولةٍ سوف تتمتّع بالسيادة، وتتمتّع بنظامٍ دستوري مُنفصل، وعضوية في المنظمات الدولية، وسلطة مستقلة على مجموعةٍ واسعة من المجالات، مثل التعليم، والشؤون الخارجية، وإنفاذ القانون، والرعاية الاجتماعية، والضرائب. وفي هذه النواحي، فإنَّ الكونفيدراليةَ هي في جوهرها حَلُّ الدولتين.

لكن هذا الإطار سوف يختلف عن حلِّ الدولتين المألوف في جوانب مهمة. فعلى سبيل المثال، سوف تكونُ هناك حدودٌ مُنَظَّمة ولكن مفتوحةٌ بين الدولتين. وعلى مدى فترةٍ انتقالية، سوف يكتسبُ مواطنو كلّ من الدولتين الحقَّ في التنقُّل في جميع أنحاء البلاد، مع مُراعاةِ التدابير الأمنية المُتبادَلة والمُنسَّقة. وفي نهاية المطاف، سوف يتمتّعُ الإسرائيليون والفلسطينيون أيضًا بحرّيةِ الإقامة في جميع أنحاء وطنهم المشترك (على الرُغم من أنَّ حقوقَ الإقامة سوف يتمُّ تنفيذها تدريجًا مع الاهتمام الدقيق بالاستقرار السياسي والاقتصادي). وهذا يعني أنَّ المواطنين الإسرائيليين، بمَن فيهم المستوطنين في الضفة الغربية، يُمكنهم الإقامة في فلسطين شريطةَ التزامهم بقوانينها، في حين يُمكِنُ للمواطنين الفلسطينيين، بمَن فيهم اللاجئين، الإقامة في إسرائيل على الأساسِ نفسه. وسوفَ يحتفظ المواطنون الفلسطينيون في إسرائيل بمُواطَنتهم الإسرائيلية وحقوق الإقامة.

وكما هو الحال في الاتحاد الأوروبي، فإنَّ حقوقَ التصويت في الانتخاباتِ الوطنية سوفَ تَستندُ إلى الجنسية، في حين أن حقوقَ التصويت في الانتخابات المحلية سوف تستندُ إلى الإقامة. وعلى هذا فإنَّ اللاجئ الفلسطيني العائد الذي يختار العيش في يافا سوف يُصوّتُ لصالح المجلس الوطني الفلسطيني، وليس الكنيست، ولكنه سوفَ يكونُ قادرًا على التصويتِ لصالح مجلس بلدية مدينة يافا-تل أبيب. وعلى العكس من ذلك، فإنَّ الإسرائيلي المقيم في مستوطنة (سابقة) مثل “أرييل” سوف يصوّت في الكنيست، وليس في المجلس الوطني الفلسطيني، ولكن يمكنه المشاركة في اختيار الممثلين في بلدية “أرييل” المتكاملة.

إنَّ هذا النظامَ الحدودي يُعالِجُ العديدَ من القضايا التي أعاقت اتفاقيات السلام في الماضي. فهو يُقدّمُ حلًّا للمستوطنات لا يستلزمُ الإخلاء القسري الجماعي للمستوطنين الإسرائيليين ولا يُقوّضُ السيادة الفلسطينية. وهو يُوفّرُ للاجئين الفلسطينيين فرصةَ العودة للعيش في أماكنهم الأصلية مع ضمانِ بقاء إسرائيل الوطن القومي للشعب اليهودي. وهو يتجنّبُ بناءَ حاجزٍ مادي يُقسّمُ القدس، مما يسمح بأن تكونَ عاصمة الدولتين مدينة مفتوحة تُديرها إما بلدية واحدة مشتركة أو بلديتان منسقتان ينتخبهما سكان جانبَي المدينة. فضلًا عن ذلك، ولأن هذا الإطار لا يتطلّبُ من الإسرائيليين أو الفلسطينيين التخلّي عن ارتباطهم بأيِّ جُزءٍ من البلاد، فإنه يُخفّضُ من مخاطر تحديد مكان الحدود بين الدولتين.

شركاءٌ مُتساوون

إنَّ الكونفيدرالية تختلفُ عن حلِّ الدولتين المألوف بطريقةٍ مهمّةٍ أخرى. فهي من شأنها أن تُوَفِّرَ للإسرائيليين والفلسطينيين إطارًا مؤسَّسيًا قويًا ومَرِنًا بما يكفي لإدارة التحدّيات المشتركة التي يواجهونها. في مُحادثاتِ السلامِ السابقة، أدركَ الجانبان أنَّ المساحة الضئيلة التي يتقاسمانها تتطلّبُ التعاوُنَ بين إسرائيل وفلسطين مُنفَصِلَتَين. وفي بعض المجالات ــ مثل الزراعة، والخدمات المصرفية، والعدالة الجنائية، وتخطيط التنمية، والتعليم، والشؤون الخارجية، والضرائب، والسياحةــ ربما كانَ مثل هذا التعاون كافيًا. لكن الكونفيدرالية من شأنها أن تجعلَ من الأسهل على الدولتَين التعامُل بشكلٍ مُشترك مع مواضيع أكثر صعوبة.

على سبيل المثال، يُمكِنُ لإسرائيل وفلسطين إنشاءَ مؤسّساتٍ مُشترَكة لمُعالجة المسائل التي تنطوي على البنية الأساسية أو الموارد، مثل الطيران المدني، والجمارك، والطاقة، وحماية البيئة، والهجرة، والصحة العامة، والنقل. وستكونُ لكلِّ دولةٍ سلطةٌ على أمنها الداخلي، ولكن المؤسّسات الكونفيدرالية من شأنها أن تُسَهِّلَ التعاونَ الوثيق وتبادُل المعلومات الاستخباراتية بين كياناتِ الشرطة في كلِّ جانب. من ناحيةٍ أخرى، قد تتمُّ إدارةُ الأمن الخارجي من خلال مؤسّساتٍ مشتركة مُرتبطة بإطارٍ أمني إقليمي.

لضمانِ حلِّ النزاعات بين الدولتَين سلميًا وحماية حقوق الإنسان في جميع أنحاء الوطن المشترك، سوف يحتاجُ الاتحادُ إلى مجموعةٍ من المؤسّسات القضائية المشتركة (كمُكَمّلٍ للمحاكم الوطنية). ومن المُرَجَّحِ أن تتطلّبَ هذه المحاكم وغيرها من الهيئات الكونفيدرالية مُشاركةَ طرفٍ ثالث منذ البداية، من أجلِ بناءِ الثقة المُتبادَلة وتجنُّبِ الجمود. وسوف تحتاجُ جميعها إلى البناء على مَبدَإِ المساواة الجماعية: فكرةُ أنَّ كِلا الطرفَين مُتساويان وأنَّ لا أحدَ منهما يُهَيمِنُ على الآخر. إنَّ هذا المبدأ ضروريٌّ في أعقابِ تجربةِ اتفاقيات أوسلو، التي ساعدت على إنشاءِ لجانٍ مُشتركة للتعاون في مجالاتٍ مثل الأمن وإدارة المياه والاتصالات، والتي كثيرًا ما اعتبرها الفلسطينيون قسرية.

إنَّ هيكلةَ الترتيبات الكونفيدرالية حولَ المُساواة الجماعية لا يعني أنَّ الطرفَين يجب أن يَتَوَصّلا إلى المفاوضات بقدراتٍ مُتطابقة. ففي العديد من المجالات، مثل القدرة الاقتصادية، والرعاية الاجتماعية، والرعاية الصحية، والدفاع، سوف تكونُ هناكَ تبايُناتٌ هائلة بين الإسرائيليين والفلسطينيين، الأمر الذي قد يتطلّبُ من كلِّ دولة أن تتولّى أدوارًا مختلفة أو تتلقّى فوائد مختلفة لبعض الوقت. ولكن المطلوب هو الالتزام المعياري بالمساواة الفردية والجماعية والإطار الذي يضمنُ ترجمةَ هذا الالتزام إلى واقع.

تعالوا معًا

إنَّ إنشاءَ كونفيدرالية إسرائيلية-فلسطينية هو أمرٌ صعبٌ للغاية. والواقع أنَّ البعضَ قد يتصوَّرُ أنَّ السيناريو الذي يتمُّ فيه بناء دولة فلسطينية على أنقاضِ غزة والضفة الغربية المُجزَّأة ثم الدخول في تعاونٍ وثيق مع إسرائيل قد يبدو مستحيلًا. ذلك أنَّ العداوةَ بين الطرفَين، وعدم التوازن الشديد في القوة، وتجاهلهما الصارخ للقانون الدولي، تُشكّلُ عقباتٍ هائلة أمامَ السلام. لكن هذه الحواجز تُعوِّقُ أيَّ حل، والكونفيدرالية أكثر جدوى من النهج المَبني على الفصل والهيمنة. والأمر الحاسم هنا هو أنها مُصمَّمةٌ أيضًا لإرساءِ السلامِ المُستدام، وليس نظامًا لإدارة الصراعات الدائمة.

مع ذلك، فإنَّ التغلُّبَ على الحواجز والعوائق بين الإسرائيليين والفلسطينيين يتطلّبُ مساعدةً خارجية. بل وربما تكونُ هناكَ حاجةٌ إلى إدارةٍ انتقاليةٍ دولية تتمتّعُ بالسلطة على الضفة الغربية وقطاع غزة، وتيسير نقل السلطة من الجيش الإسرائيلي إلى المؤسّسات الحكومية الفلسطينية. وفي الأمد القريب، سوف تكونُ مثل هذه الإدارة ضروريةً لإحلالِ الأمنِ والنظامِ العام والإغاثةِ الإنسانية في المنطقتين. وفي الأمد المتوسط، سوف تُركّزُ الإدارة الجديدة على إنهاءِ الاحتلال الإسرائيلي، والمساعدة على بناءِ دولةٍ فلسطينية قابلةٍ للحياة، وتأسيس المؤسّسات المشتركة للاتحاد. كما ستعملُ الإدارةُ الجديدة على الحَدِّ من الفوارق الاجتماعية والاقتصادية بين الفلسطينيين واليهود الإسرائيليين. وينبغي لهذه الإدارة أن تحظى بتفويضٍ من مجلس الأمن الدولي، وأن تعملَ بالتعاونِ مع الحكومتَين الإسرائيلية والفلسطينية، وأن تضعَ أحكامًا واضحة تُحدّدُ مواعيدَ نهائية للعمل.

في الوقت الحالي، قد يبدو الحديثُ عن مثلِ هذه الإدارة سابقًا لأوانه. من المفهوم أنَّ اهتمامَ العالم الآن مُنصبٌّ على تحقيقِ وقف إطلاق النار الذي يمكن أن يُنهي القتل والدمار في غزة، وإعادة الرهائن والسجناء إلى ديارهم، والحدّ من فُرَصِ اندلاعِ حربٍ إقليمية أكبر. لكن لتحقيق النجاح في كلِّ هذه الأهداف، يتعيّن على الدول المعنية أن تسترشدَ برؤيةٍ للمستقبل واضحة وموثوقة وعادلة. ويتعيّنُ عليها أن تُدركَ أن شعبين، كلٌّ منهما يضمُّ أكثر من سبعة ملايين نسمة، سوف يستمران في العيش معًا في وطنهما المشترك. والواقع أنَّ الكونفيدرالية المبنية على قِيَمِ الشراكة المتساوية وحرية الحركة تُشكّلُ بالضبط هذه الرؤية، وهي توفّرُ بديلًا مُقنعًا للتطلعات الخطيرة التي يتبنّاها القوميون المتطرّفون. وينبغي لها أن تعملَ كبوصلةٍ تُساعِدُ المسؤولين على رَسمِ مسارٍ عبر القرارات الصعبة التي تنتظرهم.

  • عمر دجّاني هو أستاذ القانون الدولي في كلية ماك جورج للقانون في جامعة الباسِفيك من العام 1999 إلى العام 2001، عمل مستشارًا قانونيًا لفريق التفاوض الفلسطيني في محادثات السلام مع إسرائيل من العام 1999 إلى العام 2001.
  • ليمور يهودا هو زميل بحثي أول وقائد مشروع السلام الإسرائيلي-الفلسطيني القائم على الشراكة في معهد فان لير في القدس، ومحاضر في كلية الحقوق في الجامعة العبرية، ومؤلف كتاب المساواة الجماعية: الديموقراطية وحقوق الإنسان في الصراعات العرقية القومية.
  • الكاتبان هما رئيسان مشاركان للمجلس المشترك لحركة “أرضٌ للجميع”، وهي حركة إسرائيلية-فلسطينية تدعو إلى رؤية كونفيدرالية: “دولتان، وطنٌ واحد”.
  • يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى