حِوارٌ مُعَجَّلٌ أم انهيارٌ مُؤجَّلٌ؟
الدكتور ناصيف حتّي*
أحَدُ أوجُهِ الانقسام القائم والمُتَزايد في لبنان مع “حربِ غزة” وثم استراتيجية “وحدة الساحات”، والذي يُساهِمُ في تكريسِ الشللِ المؤسّساتي بسببِ الفراغ في الموقع الأوَّل في السلطة، رئاسة الجمهورية، وبالتالي وجود حكومة تصريف أعمال وليس حكومة مُكتملة الصلاحيات، يتعلّقُ بالذهاب إلى الحوار بين الأطرافِ السياسية الفاعلة. هناكَ شبهُ قناعةٍ تزدادُ رسوخًا مع الوقت أنَّ انتخابَ الرئيس يرتبطُ بالتسوية أيًّا كانت طبيعتها. التسويةُ التي سيتمُّ يومًا التوصّلُ إليها في غزة: تاريخُ أزمات لبنان وانتخابُ الرئيس بشكلٍ عام يندرجان في ما صارَ إرثًا أو شبهَ تقليدٍ سياسي أو نوعًا من القدرية السياسية في لبنان. يصفُ البعضُ الوَضعَ الراهن، غضبًا أو استسلامًا لواقعٍ أو تَهَكُّمًا، بأنَّ الطريقَ إلى بعبدا (الرئاسة ) ينطلقُ من غزة مرورًا بمحطّاتٍ أُخرى للتوصُّلِ إلى التفاهُم الذي “يُنتِجُ” سياسيًا الرئيس في شخصه أو في السمات والشروط التي يجب أن تتوفّرَ فيه، ثم يختاره أو ينتخبه المجلس النيابي كما كان يجري سابقًا.
لكنَّ الوَضعَ الراهن مُقارنةً مع ماضي التجارب اللبنانية يَتَّسِمُ بوجودِ ثلاثةِ عناصر تزيدُ من تعقيداتِ التوصُّلِ إلى التسوية رُغمَ ازديادِ الحاجة إليها:
أوّلًا، تسارُع مسار الانهيار اللبناني الاقتصادي والسياسي بتداعياته المختلفة، ما يستدعي الإسراع في وَقفِ النزفِ الحاصل والقاتل في “الجسم” اللبناني. فعُنصُرُ الوقت أكثر من مُهِمٍّ في هذا المجال، فيما يزدادُ الاستقطابُ حدّةً، وبالتالي يزدادُ الشلل السياسي.
ثانيًا، الأزمة المستمرّة والمُتصاعِدة، ولو المُنضَبِطة لدرجةٍ ما حتى الآن، بحروبها المُختلفة والمُتعدِّدة والمُتداخِلة ليست مُقَيَّدة هذه المرة في الإطار اللبناني كما كانت في الماضي، مما كان يُسَهِّلُ من احتوائها وتسويتها، صارت اليوم أشمل وأوسع بجغرافيتها وأطرافها وتعقيداتها وفي طبيعة المواجهات الحاصلة وتشابكها بالأدوار والأهداف وتداعياتها المختلفة ربحًا وخسارةً على مستوى الإقليم الشرق اوسطي ككل.
ثالثًا، الشرق الأوسط اليوم مسرحُ مواجهات، ولو بدرجاتٍ مختلفة، يمتدُّ من الخليج مرورًا بالبحر الاحمر وصولًا إلى البحر الأبيض المتوسط. وستُشَكِّلُ تداعياتُ ونتائجُ الحروب القائمة طبيعةَ النظام الاقليمي الجديد الذي سيتبلورُ من هذا المخاض المفتوح في الزمان والمكان، وكذلك أوزان وأدوار القوى الإقليمية وطبيعة تفاهمُاتها التي ستَحكُمُ لدرجةٍ كبيرة طبيعة العلاقات في الإقليم.
في خضمِّ هذا الوضع، هل يبقى لبنان في غرفةِ الانتظار؟ هذا هو السؤال المطروح راهنًا بقوّة.
في الدول التي تحكمها المؤسّسات، عندما يحصلُ فراغٌ في السلطة، أيًّا كانت الأسباب، مما يشلُّ أو يُضعِفُ عملَ ودَورَ المؤسّسات الأساسية، ولبنان ليس من هذه الفئة، يجري الإسراع، ولا نقول التسرُّع، في العمل على مَلءِ الفراغِ الحاصل بُغيةَ انتظامِ عملِ المؤسّسات وعودتها للقيام بدورها ومهامها الوطنية، أيًّا كانت الخلفيات السياسية، خصوصًا أمامَ التحدّيات الجسام التي تُهدّدُ الدولة. لكن في لبنان فإنَّ السلطةَ تقومُ عمليًا وواقعيًا على فيدراليةٍ من المذاهب السياسية التي تُناقِضُ بطبيعتها مَنطقَ وثقافةَ دولة المؤسّسات. لكن لا يجوزُ ولا يجب الاستمرارُ في الرضوخِ لهذا الوضع السائد. نحنُ اليوم بأمَسِّ الحاجةِ إلى التفاهُمِ حولَ مُقترَحِ الحوار الذي طرحه رئيس المجلس النيابي، نبيه بري، باسمِ “الطرف” الذي يُمثّلهُ ورفضه “الطرف الآخر” باعتبارِ أنَّ هدفَ هذا الحوار، كما يُردّدُ الطرفُ الأخير، هو تمريرُ مُرَشَّحِ الطرفِ الأوّل إلى رئاسة الجمهورية بسبب المُعطَياتِ القائمةِ على أرضِ الواقع وطبيعةِ الحوارِ وتنظيمه وإدارته كما هو مطروح. وغنيٌّ عن القول أنه من السَهلِ الاستمرار في حوارِ اللاحوار الحاصل، أو ما يُمكِنُ وصفه ب”حوارِ الطُرشان”، وتوفير الحجج والبراهين عند كلِّ طرفٍ حول مسؤولية الآخر بشأنِ استمرارِ الفراغ الحاصل والمُدَمِّر والذي تزدادُ تكلفته على الجميع مع مرورِ كلِّ يوم.
إنَّ المطلوبَ اليوم لإنقاذِ لبنان من مسارِ الانهيارِ السريع والمُستَمِرِّ منذُ سنوات، حوارٌ جادٌ شاملٌ، من حيث القضايا والمشاركة، حول “حزمة اتفاق”، كما ذكرنا مرارًا في الماضي وذكر كثيرون. من الطبيعي والصحّي أن نختلفَ في السياسة وفي الأولويّات السياسية وفي التنوُّعِ العقائدي والفكري، وهذا مصدرُ إغناءٍ للوطن. ولكن لا يُمكِنُ ولا يجوزُ أن يكونَ ذلك على حسابِ ما يجب أن نتّفقَ عليه من قواعد وأسسٍ لبناءِ وإدارةِ الدولة، وللأولويات الناظمة للحياة الوطنية ولعلاقاتنا الخارجية: إنّهُ مسارٌ ليس بالسهل والبسيط ولكنه بالضروري “لإنقاذ المركب اللبناني من الغرق”.
حزمةُ الاتفاق في الحوار المطلوب تبدأ بالاتّفاق على برنامجِ إصلاحٍ (أُسمّيهِ برنامج إنقاذ) مُتَعَدِّدِ الأوجهِ شاملٍ وتدريجي يجري الالتزامُ به وبكافةِ مُندرجاته، والاتفاق على تشكيلِ “حكومة مهمّة” تكون بمثابةِ فريق عمل وانتخاب رئيسٍ للجمهورية الذي يستطيع أن يقودَ سفينة الانقاذ. الرئيسُ الذي يملك الرؤيا والإرادة والالتزام بمفهومِ دولةِ المؤسّسات وتعزيز هذا المفهوم على صعيدِ المُمارَسة وبضرورة الإصلاح الشامل والتدريجي وبدورٍ ناشطٍ وفاعلٍ للبنان على الصعيدَين الإقليمي والدولي، الأمرُ الذي يُساهِمُ في تعزيزِ الأمن الوطني للبنان.
خلاصةُ القول أنه في خضمِّ التحدّيات المُتعدِّدة والمُترابطة التي تعصُفُ بلبنان والمنطقة، علينا الإسراع في تكوين السلطة القادرة على التعاملِ بنجاحٍ مع التحدّيات الخارجية والداخلية التي يواجهها لبنان. فماذا ينفعُ الصراعُ من أجل الإمساك بالسلطة، تحت عناوين وشعارات مختلفة، فيما ينهارُ الوطن وتتفكّكُ الدولة.
- الدكتور ناصيف يوسف حتّي هو أكاديمي، ديبلوماسي متقاعد ووزير خارجية لبنان السابق. كان سابقًا المُتَحدِّث الرسمي باسم جامعة الدول العربيةولاحقًا رئيس بعثتها في فرنسا والفاتيكان وإيطاليا، والمندوب المراقب الدائم لها لدى منظمة اليونسكو.
- يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).