حَربُ غزة تُعيدُ الإنتباهَ الدولي إلى سوريا!
منذُ اندلاع حرب غزة في أوائل تشرين الأول (أكتوبر) الفائت، شهد نظام بشار الأسد في سوريا تقدُّمًا مَحسوبًا في وضعه لا يرقى إلى مستوى نجاحٍ حقيقي.
أرميناك توكماجيان*
كانَ للحربِ في قطاع غزة تأثيرٌ مُتناقِضٌ على سوريا ونظام الأسد في دمشق. أدّى تصاعُدُ التوتّرات بين إيران وإسرائيل في ظلِّ الصراع في غزة إلى زيادةِ خطرِ انجرارِ سوريا إلى حربٍ لا تستطيعُ تحمُّلَها. مع ذلك، فقد أدّى الصراعُ أيضًا إلى تحويلِ الانتباهِ الدولي إلى الشرق الأوسط، بما في ذلك سوريا. بعدَ العام 2023 الصعب الذي اتَّسَمَ بانتكاساتٍ للنظام ــالمصالحة الفاشلة بين سوريا وتركيا، وتوقُّف عملية التقارب بين سوريا والدول العربية، وتدهور الوضع الاقتصادي الذي أشعل الاحتجاجات، ولا سيما في السويداءــ استعادَت سوريا بعضَ أهمّيتها، وأعادت الحياة إلى عملياتٍ سياسية كانت مُتَعثِّرة ومتوقّفةً سابقًا.
كان دورُ النظام السوري في صراع ِإسرائيل مع إيران وحلفائها الإقليميين ضئيلًا في أفضل الأحوال. وقد دَفعَ هذا الأمرُ البعضَ إلى المُعايَرة والتساؤل بسخريةٍ عمّا إذا كانت سوريا لا تزالُ ضمنَ “محور المقاومة”. فبعدَ مرورِ أكثر من عشرةِ أشهرٍ ونيِّف على هجمات “حماس” في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) 2023، يبدو أنَّ النظامَ قد حَسَبَ وأدركَ أنه لا يستطيعُ تحمُّلَ أيّ تصعيد. فالجيشُ السوري مُنهَك، وعلى عكس “حزب الله” في جنوب لبنان، ليست لديه جبهةً واضحة مع القوات الإسرائيلية في القنيطرة. وقد يؤدّي الدورُ الأكثر نشاطًا إلى إثارةِ أعمالٍ انتقاميةٍ إسرائيلية أكثر قسوةً ضدّ النظام، الذي أصبح هدفه الأساسي هذه الأيام هو البقاء، وليس المقاومة.
لقد تمَّ إضفاءُ الطابع الرسمي على الدور السلبي لسوريا في شهر آب (أغسطس)عندما قال الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصر الله: “إن سوريا ليست مُطالبة بالدخول في القتال نظرًا لظروفها الداخلية”، قبل أن يُضيفَ أنَّ البلاد يجب أن تلعبَ دورًا داعمًا.
وفي حالةِ غزوِ إسرائيل للبنان، فمن المُرجَّحِ أن يزدادَ دَعمُ سوريا، وإن كانَ بحذر. والخيارُ الذي قد تُفضّلهُ دمشق ليس التصعيد، بل توسيع دورها كجبهةِ دعم، وخصوصًا كممرٍّ بين إيران و”حزب الله”. ولن يكونَ الرئيس السوري بشار الأسد بحاجةٍ إلى ضغوطٍ كبيرة من كلا الطرفَين للسماح بحدوث هذا، بل إنه من المرجّح أن يوافق على مثل هذا القرار طَوعًا. ففي نهاية المطاف، لا يزالُ النظامُ يَعتبِرُ “حزب الله” أصلًا رئيسًا في التأثير على السياسة اللبنانية والإقليمية. ومن المتوقّع أن تردَّ إسرائيل بقوة من أجل قطع شريان الحياة لأسلحة “حزب الله”، ولو أنها قد تتجنّب النظام السوري طالما لم يقترب الصراع من مرتفعات الجولان المحتلة، وطالما ظلَّ المجال الجوي السوري مفتوحًا للضربات الجوية الإسرائيلية.
على الرُغمِ من المخاطر التي جلبتها الحرب في غزة، فقد استفادَ النظامُ السوري من الاهتمام الدولي المُتَجَدِّد بالشرق الأوسط. فقد عادت روسيا، التي كانت مشغولة بحربها في أوكرانيا، إلى المنطقة، وسوريا على وجه الخصوص، بشكلٍ محدود. والمثال الأكثر بروزًا على ذلك هو أن موسكو وَسَّعت في الشهر الفائت مراكز المراقبة التابعة لها في القنيطرة، على طولِ خطِّ فكِّ الاشتباك بين القوات المسلحة السورية والإسرائيلية.
كما ربحَ النظامُ السوري بطُرُقٍ أخرى أيضًا. فعلى مقربةٍ من القنيطرة، في منطقة السويداء ذات الغالبية الدرزية، واجَهَ النظامُ احتجاجاتٍ اندلعت في آب (أغسطس) 2023. وقد عَبّرَ المُحتَجّون عن مظالم اقتصادية، ولكن أيضًا عن مطالب سياسية. واستجابت دمشق بحذَر، واختارت الانتظار حتى تنتهي الاضطرابات، والاعتماد على استغلالِ الانقسامات بين الزعماء الدينيين، وزيادة الضغوط الاقتصادية. ومن خلال تجنُّبِ العنف، تجنَّبَ النظامُ رَدَّ فعلٍ قويًا من الدروز المُتمرّدين تاريخيًا، أو في أسوَإِ السيناريوهات، التدخُّل الأجنبي. في نهاية المطاف، أدّى الجمعُ بين تكتيكات النظام وحرب غزة، التي صرفت الانتباه عن الاضطرابات المحلّية، إلى تقليصِ حَجمِ وتواتر الاحتجاجات ــ من آلاف الأشخاص إلى مئات، التي لا تحدث الآن إلّا أيام الجمعة.
وفي ما يتّصِلُ بالتطبيع بين الدول الإقليمية وسوريا، تَجدَّدَ الاهتمامُ من جانبِ تركيا والدول العربية، وحتى الدول الأوروبية، بإصلاحِ العلاقات مع الحكومة في دمشق. وقد خلقت حربُ غزة سياقًا جديدًا حيث حوّلَ أولئك الذين يسعون إلى الانخراط في الشرق الأوسط انتباههم أيضًا إلى سوريا، نظرًا لدورها المركزي في صراعات المنطقة. مع ذلك، تظلُّ هذه المشاركات تُركّزُ على قضايا قائمة منذ فترة طويلة مثل الأمن واللاجئين والاستقرار الإقليمي.
إنَّ المثالَ الأكثر أهمية على مثل هذه الاتصالات المُتجَدِّدة هو، بلا شك، العلاقات مع تركيا. فقد سعت محاولة الوساطة التي قامت بها العراق هذا الصيف إلى تجديد الحوار السوري-التركي القديم بوساطة روسية. وربما كانت حرب غزة والصعوبات التي خلقتها للولايات المتحدة بمثابةِ فُرصةٍ لدمشق وأنقرة وموسكو للضغط على “قوات سوريا الديموقراطية” التي يُهيمن عليها الأكراد ويدعمها الأميركيون، كلٌّ منها لأسبابها الخاصة. مع ذلك، تظلُّ القضايا الأساسية المطروحة من دون تغيير. فالأمنُ يُشَكّلُ مَصدَرَ قلقٍ رئيس لدمشق وأنقرة، يليه الديموغرافيا والاقتصاد وعوامل أخرى. ونظرًا لثقلِ تركيا ووزنها السياسي، فإنَّ المسار التركي يُشكّلُ أهمّيةً بالغة. وإذا نجحَ، فقد يُحَوِّلُ مسارَ الصراع السوري على الأرض وعلى الصعيد السياسي.
على الصعيد العربي، لا تزال عملية التقارب السورية-العربية كما كانت قبل عام: مُجَمَّدة. فقد تعثّرت محاولة إحيائها في نيسان (أبريل) الماضي. ورُغمَ أنَّ هذا الأمرُ يُمثّلُ انتكاسة، إلّا أنها لم تكن انتكاسة كبرى بالنسبة إلى لدمشق نظرًا لأنها تنطوي على عمليةٍ سياسيةٍ بقائمةٍ من المطالب من نظام الأسد. في المقابل، يُفَضّلُ النظامُ تعزيزَ العلاقات الثنائية، وقد حدثَ تقدُّمٌ طفيفٌ ولكنه ملموس في هذا الصدد، وخصوصًا مع المملكة العربية السعودية. فقد منحت المملكة جُزءًا كبيرًا من حصّة الحجّ للنظام في كانون الثاني (يناير) 2024، وانتزعتها من المعارضة، وعَيَّنَت سفيرًا لها في دمشق في أيار (مايو)، رُغمَ أنه لم يصل بعد إلى سوريا. وأخيرًا، قال القائم بالأعمال السعودي في دمشق: “علاقاتنا مع سوريا تتحسَّن وستعودُ إلى ما كانت عليه قبل العام 2011”.
كانَ التطوُّرُ الأكثر إثارةً للدهشة هو الدفعة الجريئة التي بذلتها إيطاليا في تموز (يوليو) الفائت، إلى جانب النمسا وكرواتيا وقبرص وجمهورية التشيك واليونان وسلوفاكيا وسلوفينيا، لحَملِ الاتحاد الأوروبي على “تغيير استراتيجيته” تجاه سوريا. وبعد فترةٍ وجيزة، عيَّنَت إيطاليا مبعوث وزير الخارجية، ستيفانو رافاجنان، سفيرًا جديدًا لها في دمشق. وتكمُنُ أهمّية الأمر في أنَّ سياسةَ سوريا قيد المناقشة الآن في بروكسل وقد يؤدي ذلك إلى قيامِ الاتحاد الأوروبي بتحديثِ سياسته تجاه سوريا، التي يعود تاريخها إلى العام 2017. ويُمثّلُ هذا إنجازًا ديبلوماسيًا صغيرًا للنظام، وإن لم يَكُن إنجازًا كاملًا، لأَّن تحديث السياسة لا يعني بالضرورة التقارب. وحتى إذا زاد الانخراط الأوروبي مع النظام، فإنَّ تعقيدَ القضايا العالقة هو لدرجةٍ يصعبُ معها تصوّر أي تقدُّم.
مع ذلك، فإنَّ الوضعَ اليوم أكثر مُلاءَمَةً مما كان عليه في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وفي الوقت نفسه، إذا كانت إسرائيل عازمةً على القضاء على التهديدات الصادرة عن حدودها الشمالية، فمن غير المرجح أن تختفي فُرَصَ الحرب في المستقبل القريب. حتى الآن، استفاد النظام من تجديد الاتصالات السياسية المُتنَوِّعة، وخصوصًا الثُنائية، بدلًا من المفاوضات السياسية الواسعة النطاق. وإذا كان هناك درسٌ واحدٌ يُمكِنُ تعلُّمه منذ العام 2021، عندما اخترق الأردن لأوَّلِ مرة جدارَ عزلة سوريا، فهو أنَّ التقدُّمَ في سوريا ومعها بطيء، هذا إذا حدث على الإطلاق. لقد أصبحَ الوَضعُ الراهن راسخًا للغاية، وأصبحت تداعيات الحرب مُعَقَّدة للغاية، لدرجةِ أنه على الرُغمِ من وجود نوافذ عَرَضية للفُرصة للتقدُّم على جبهاتٍ مختلفة، إلّا أنها نادرًا ما تؤدّي إلى أيِّ إنجازات كبيرة.
- أرميناك توكماجيان هو باحث غير مقيم في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط في بيروت. تُركّزُ أبحاثه على الحدود والصراع، واللاجئين السوريين، والعلاقات بين الدولة والمجتمع في سوريا.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.