من الكواكبي إلى موسى الصدر

رشيد درباس*

إنَّ السلمَ الأهلي في لبنان من أهمِّ

حروبِ المواجهة ضدّ إسرائيل.

الإمام موسى الصدر

 

يُعَرِّفون الاستبدادَ بأنه غرورُ المرء برأيه والتكبُّر عن قبولِ النصيحة. أما في علم السياسة والاجتماع فهو استبدادُ الحكومات أو المجموعات أقليات كانت أم أكثريات؛ ويشملُ أيضًا الحاكم المنتخب إذا أصبحَ غير مسؤول. هذه كُلُّها أوجُهٌ شرحها بوضوح عبد الرحمن الكواكبي في كتابه الشهير “طبائع الاستبداد”.

فإذا عُدنا إلى التاريخ القريب وجدنا أنَّ البلدان العربية التي نالت استقلالها وشكّلت دولًا لها مؤسّسات ذات طابع ديموقراطي، سرعان ما تهاوَت تحت وطأةِ استبدادِ الانقلابات العسكرية التي قادها “ضبَّاطٌ مُلهمون”، تحوَّلوا في ما بعد رموزًا أبدية للوطنية، الويلُ لمَن يُشَكِّكُ في قداستها وعصمتها وطهارة عائلاتها وذرياتها.

نجا لبنان من تلك اللوثة لسببٍ من طبيعةِ تأسيسه وتركيبه المُتَنَوِّع، وكان اللبنانيون يذهبون للاقتراعِ في الانتخابات النيابية والبلدية والنقابية وسواها، وينتظرون رئيسًا جديدًا فور انصرامِ ولاية السابق، كلُّ ذلك ضمن سياقٍ قلق استطاع أن يُحافظَ على شكل تداول السلطة رُغمَ الخضّات التي تعرَّضَ لها. بعد أحداث 1958، جاء الرئيس فؤاد شهاب بمحاولةِ تحديثِ الدولة، وسارَ في ذلك شوطًا بعيدًا، رُغمَ أنَّ “استبدادَ” المكتب الثاني لم يَكُن مُستَتِرًا، إلى أن وَقعَ الخللُ الأكبر بعد هزيمة 1967 التي حوَّلت لبنان إلى خاصرةٍ رخوة يرتَعُ فيها السلاح وتتشكّلُ المُنَظَّمات، وذلك على حسابِ اضمحلالِ الدولة وتواري أجهزتها، بعد أن طفا العوام إلى السطح، وصار كلُّ شارعٍ “دوقية” وكلُّ عطفةٍ ” إمارة”.

منذُ ذلك التاريخ تعيشُ دولةُ لبنان تحت حُكمِ الاستبدادِ على تنوُّعِهِ، فهو فلسطيني مرة، وسوري، وميليشياوي، وديني، فيما المواطنون يحاولون أن يلمّوا شتات حيواتهم، ويتكيَّفون مع البلاءات المُتتالية. يقتضي الإنصافُ ألّا نَصِمَ الشعب اللبناني بالخنوع، فقد أثبتَ العكس في مناسباتٍ كثيرة وانتفاضات رائعة، كان يحبطها أعداؤها بالقوّة المسلحة، كما كانت هي عاجزة أيضًا عن الدفاع عن نفسها لغيابِ النُخَب المُجَرَّبة، وهذا يؤكّدُ أنَّ عنصرًا أساسًا من عناصرِ الاستبدادِ هو السكوتُ الطويل عن مجابهته.

أعودُ إلى وضعنا الراهن، لأشير بأنَّ المُنغمسين في اللعبة العليا من القوى السياسية لا يأبهون إطلاقًا للآثار المباشرة الناجمة عن ذلك، رُغمَ أنّها تُطاولهم كلّهم بلا استثناء.

من حالاتِ الاستبدادِ الفكري أنَّ فريقًا كبيرًا، أخذ يجهر، بأنَّ لبنان كان جنّة، ثم حوّله “حزب الله” إلى جهنّم، ولذلك فهو يُريدُ أن يستقلَّ بجنّته الخاصة على مساحاتٍ ما، ويتركُ جهنّم لأهلِ جهنَّم، وهذا يأخذُني إلى أنَّ الجهالة تُشَكّلُ عنصرًا آخر من عناصر الاستبداد، إذ لو كانَ هذا الكيانُ قابلًا للانقسام لحصل ذلك قبل وقت طويل. أما إذا أردنا أن نتوخّى الواقعية والصراحة غير المُتَشَنِّجة، فإنَّ علينا أن نقرَّ بأنَّ لبنان الدولة والمؤسّسات والشعب حاول طويلًا التكيُّف مع التفوُّق الكبير ل”حزب الله”، ولكن ذلك باءَ بالفشل الذريع، بخلافِ ما كانَ عليه أيام الوجود السوري الذي كان يضبطُ الأمور وفقًا لمصالحه، ولكنه كان يأخذُ بعين الاعتبار المسائل الأساس التي تَحولُ دونَ اندثارِ الدولة. لقد قرّرَ الحزبُ أن يجعلَ من لبنان خطَّ المُمانَعة المُتَقَدِّم، حتى كاد أن يَنفردَ بهذا الشرف، إذ إن الحربَ المُدمّرة التي تشنُّها إسرائيل على  فلسطين كلّها -قطاعًا وضفةً- لم تدفع الفصائل حتى الآن،  إلى التفاهُم  في ما بينها، ولا هي بلورت مبادرة فلسطينية مُوَحَّدة، تتوجّه بها إلى الدول العربية والمجمتع الدولي، بل إن الطامة الكبرى، ستكون بتفويت الاستفادة من ذلك التعاطُف الدولي مع القضية حيال الإجرام الإسرائيلي.

هنا يقتضي التنويه بأنَّ الموقفَ الوطني اللبناني العام، المُؤيِّد للقضية الفلسطينية ما زال على حاله، مدموغًا بدماءِ الشهداء اللبنانيين وتضحياتهم.

ومع هذا، فإنَّ المُمانعة تفهم من لفظها، وهي رَفضُ الانخراط في أيِّ مشروعٍ تطبيعي مع العدو الإسرائيلي، وعدم التفريط بحقوق الشعب اللبناني في أرضه ومياهه وحرمة أجوائه، وهذا قاسمٌ مُشترك رضيت به الأحزاب والفئات والطوائف، بل إنَّ معضلةَ “سلاح الحزب” و”الاستراتيجية الدفاعية” قد تراجعت قليلًا عن بعض الخطاب السياسي، لأنَّ المسألة لا توصف الآن بأنَّ الحزبَ يُهَيمن على الدولة بقوّة السلاح، بل هو مُهَيمِنٌ عليها بقوة الوجود والتنظيم ووَهن المُعارضة، وحقوق النقض، وبالتفسيرات الدستورية، التي تُعطّلُ على غيرِ وَجهِ حق، الوصول إلى إملاء الفراغ الرئاسي، بحجّة أنه لن يقبل برئيس يطعن ظهر المقاومة. وهذه العبارة لا محلَّ لها من  الإعراب السياسي، لأنَّ أيَّ رئيس لا يملك  الصلاحيات الدستورية التي تُتيحُ له مثل هذا ، كما إنَّ أيَّ رئيس لن يكون نتاج غلبة فريق بَيَّتَ النية على الطعن، إذ إن التجارب تؤكّدُ أنَّ القوى السياسية تستطيعُ التوافُق على مواصفاتِ رجل، يكون همّهُ الأوّل إعادة مؤسّسات الدولة إلى مواقعها، وترميم الاقتصاد، ومحاولة إعادة الاعتبار للأسواق المالية اللبنانية وإقامة العلاقات الطبيعية مع الدول الشقيقة والصديقة من أجل إسهامها في ورشة إعمار تُعيدُ للبنان وظائفه المُستباحة. إنَّ الرئيسَ الجديد، أي رئيس، لن يكونَ رجل تصفية حسابات، بل سيكون تسوية مُتَجَسِّدة في رجل، ليُعيد السياسة إلى رشدها، والعدل إلى رصانته، والاقتصاد إلى حيويته، والوحدة الوطنية إلى نقائها.

وإذا أردتُ أن أستطردَ، فإنَّ “التمانُعَ المُشترك” يُمكِنُ أن يبقى زمانًا طويلًا إذا أصرَّ كلُّ فريقٍ على عدمِ التنازُل، فإذا كان ذلك كذلك، فإنَّ شكيمةَ وقوة “حزب الله”، لن تستفيدَ على الإطلاق من دولةٍ قيد الاحتضار تكون عبئًا عليه، وكذلك لن تستفيدَ منها طبعًا الأوهام الفيدرالية.

إنَّ اللبنانيين بغالبيتهم يعلمون أنه لو أعلن الحزب اليوم وقف عملياته العسكرية، فإنَّ إسرائيل ستستمرُّ في عدوانها من ضمن خطط يعلنها “نتنياهو” ووزير دفاعه ورئيس أركانه. لكنَّ اللبنانيين رُغمَ ذلك مُصمِّمون على الدفاع عن أرضهم بمختلف الوسائل، على ما ذهب إليه سماحة الإمام موسى الصدر حين قال: “لبنان صخرة تتحطَّمُ عليها مطامع الصهيونية”.

ربما يخالني القارئ مأخوذًا بغفلةِ التمنّي، ولكن المعطيات المادية التي تمثّلت بالموقف الأميركي السياسي والحربي، وبمحاولة امتصاص الانفجار الإقليمي من إيران، تدلّني إلى أنه، بعد كلِّ حملةٍ أو معركة، تجري الأطراف حساباتها، وتُعيدُ النظرَ بخططها، وتقويمًا لقواها الذاتية والحليفة، وذلك تمهيدًا لمرحلة جديدة تتلافى أخطاء الماضي، من بعد مُمارسةِ نقدٍ ذاتي لا بدَّ منه، إذ إن الظروف الموضوعية تفرضُ حقائقها على المشهد العام. ولنتذكّر أنَّ من طبائع الاستبداد أن تتشبَّثَ الفئاتُ بمواقفها وخطابها، في حين أنَّ مَن لا يُغَيِّرُ رأيه، عند اللزوم، لا يستطيع أن يُغَيِّرَ أيَّ شيءٍ على الإطلاق. وأُضيفُ بأنَّ الاستبدادَ يغلقُ آفاقَ التفكير والتطوُّر أمامَ الأُمَم.

منذ أن شرعت في كتابة هذه الكلمة كان حِبري يستنيرُ بمسيرة الإمام موسى الصدر الذي شاهدته للمرة الأولى في قاعة محاضرات كنيسة مار مارون في طرابلس، حين ألقى علينا محاضرةً تحدّثَ فيها عن المحرومين الذين رَفضَ أن يُصنِّفهم كفئةٍ طائفيةٍ أو مذهبية، بل كان يقول إن غالبيةَ الشعب اللبناني من المحرومين الذين سيزدادُ حرمانهم إذا تصدّعت الدولة. “فنحن لسنا قبائل ولا عشائر، بل ورودًا وشموعًا”.

في ذكرى تغييبه، تقفزُ كلماته كأنّها نواقيس الماضي والمستقبل “لبنان وطنٌ نهائيٌّ لجميع أبنائه، سيد حرّ مستقل عربي “الانتماء والهوية”… وهذا ما أصبح من بعده، قاعدةً دستوريةً مكتوبة.

  • رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى