شي يُحاوِلُ مرّةً أُخرى رَفعَ سنِّ التقاعُدِ في الصين
على مدى العقد الفائت، أدّت التحوّلات الديموغرافية في الصين إلى زيادة أهمّيةِ سنِّ التقاعد، حيث يتقلّصُ عدد سكان البلاد الآن من حيث القيمة المطلقة، ويتناقص عدد السكان في سنِّ العمل بشكلٍ أسرع.
عبد السلام فريد*
في تموز (يوليو) الفائت، عقد الحزب الشيوعي الصيني جلسته العامة الكاملة الثالثة، وهي اجتماعٌ يُعقَدُ كل خمس سنوات لمناقشة السياسة الاقتصادية. من بين التغييرات السياسية الأولى التي خرجت من الجلسة الكاملة حتى الآن خطةً لرَفعِ سنِّ التقاعد في الصين، وهي الخطوة التي طال انتظارها ولكنها قد تكون مُتأخّرة للغاية لمعالجة العجز في المعاشات التقاعدية والانحدار الديموغرافي في البلاد. الواقع أنَّ التطوُّر المُتعرّج لسياسة سنِّ التقاعد في الصين يُشكّلُ نافذةً على الصعوبات التي تواجه صناعة السياسات في المشهد الاقتصادي الحالي في الجمهورية الشعبية. في حين يفترضُ بقية العالم غالبًا أنَّ الرئيس شي جين بينغ يستطيع الحكم بموجب مرسوم، فإنَّ حتى القضايا المباشرة نسبيًا مثل سن التقاعد تحدَّت هذه الصورة للحاكم المُستَبِد الذي يستطيع فعل أي شيءٍ ل”إنجازِ الأمور”.
إنَّ بلوغَ سنّ التقاعُد الإلزامي في الصين هو حاليًا من بين أدنى الأعمار في العالم: 60 عامًا للرجال، و55 عامًا للكوادر النسائية، و50 عامًا للعاملات. في العام 1951، عندما دخلت هذه الحدود حَيِّزَ التنفيذ لأول مرة، كانت منطقية. فبعد عقودٍ من الغزو والحرب والحرب الأهلية والاضطرابات الداخلية، كان متوسِّطُ العمر المُتَوَقَّع في الصين في ذلك الوقت 43 عامًا.
إنَّ التمسُّكَ الطويل الأمد بسن التقاعد المُبكِر يُمكِنُ تفسيره بالقلق الأكبر الذي ظل يساور الصين لعقود من الزمان: التحدّي المتمثّل في ضمان التوظيف في مجتمعٍ يضمُّ عددًا كبيرًا للغاية من الناس ووظائف قليلة للغاية. فقد هيمنت العمالة الفائضة على عقول المُخطِّطين الاقتصاديين وصنّاع السياسات في الصين قبل فترة طويلةٍ من ظهورِ عصرِ الإصلاح في العام 1978. والحزب الشيوعي قلقٌ بشكلٍ خاص بشأنِ العمّال الشباب العاطلين من العمل، حيث أنَّ قدرتهم على تأجيج الاحتجاجات والاضطرابات الاجتماعية تفوق إلى حدٍّ كبيرٍ خطر المتقاعدين الغاضبين في الشارع.
لكن على مدى العقد الماضي، أدّت التحوّلات الديموغرافية في البلاد إلى زيادة أهمية سن التقاعد، حيث يتقلّصُ عدد سكان الصين الآن من حيث القيمة المطلقة، ويتناقص عدد السكان في سنِّ العمل بشكلٍ أسرع. ويرجعُ هذا إلى الانخفاضِ الحاد في معدل المواليد ومتوسط العمر المتوقَّع المثير للإعجاب لكبار السن في الصين، والذي يبلغ الآن 78 عامًا متجاوزًا نظيره في الولايات المتحدة. ومن شأن رفع سن التقاعد أن يزيد من حجم السكان العاملين ويطيل المدة التي يدفعها العمال لنظام التقاعد المُحاصَر.
في حين أن الإعلان في الجلسة العامة الكاملة الثالثة عن عزم الحزب على القيام بذلك يبشّرُ بالخير لظهورِ سياسةٍ مُفصّلة ثم تنفيذها، فمن الجدير بالذكر أن الإعلانات السابقة حول تغيير سياسة التقاعد قد فشلت. في العام 2015، أعلنت وزارة الموارد البشرية والضمان الاجتماعي عن خطةٍ وشيكةٍ وسيتم تنفيذها من العام 2017 إلى العام 2022. لم يتم الإعلان عن أيِّ خطةٍ من هذا القبيل على الإطلاق. كما كانت التعهّدات الدائمة في الوثائق الحكومية والخطط لتغيير سن التقاعد على نحوٍ مُماثل مُخَيِّبة للآمال.
لكن مع ذلك، تضمّن قرار الجلسة العامة الكاملة لهذا العام إشارةً واضحة للغاية إلى أنَّ شي سيتابع الإنجازات، مع تحديدِ موعدٍ نهائي لتنفيذ أهداف الجلسة العامة الكاملة بحلول العام 2029، في الوقت المناسب للذكرى الثمانين لتأسيس جمهورية الصين الشعبية. ومن الجدير بالذكر أن هذا الموعد النهائي يشير أيضًا إلى أنَّ شي يعتزم الخدمة لولايةٍ رابعة كأمينٍ عام للحزب الشيوعي الصيني ورئيسٍ للبلاد.
وهناكَ سببٌ آخر لتَوَقُّعِ التنفيذ هذه المرة وهو أن اللغة الرسمية للقرار تشيرُ إلى درجةٍ مُعَيَّنة من التواضع والاعتراف بأنَّ هذا التغيير في السياسة ليس موضعَ ترحيبٍ عام. ويشيرُ القرار إلى أنَّ السياسة ستشمل “المشاركة الطوعية مع المرونة المناسبة”. وفي حين يبشر هذا بالخير في ما يتعلق بالتنفيذ النهائي للسياسة، فمن المرجح أن يكون هذا النهج التدريجي إشكاليًا لسببين. أولًا، سيكون بطيئًا للغاية في معالجة الضغوط الديموغرافية التي تجعله ضروريًا؛ وكما يشير موقع “كايكسين” (Caixin)، فإنَّ الإفتراضَ هو أنَّ الصين إذا أرادت أن تُمدّدُ سنّ التقاعد إلى القاعدة الدولية التي تبلغ حوالي 65 عامًا، فسوف يستغرق ذلك عقودًا من الزمن.
ثانيًا، من شأن السياسة الطوعية التي تسمح للناس باختيار موعد التقاعد أن تؤدّي إلى تفاقُم بعض التوتّرات الاجتماعية حول سياسات التقاعد والمعاشات التقاعدية الحالية في الصين، والتي تعودُ بالنفع بشكل غير متناسب بالفعل على الجهات الفاعلة الاجتماعية القوية. ترتبطُ سياسة سن التقاعد في الصين ارتباطًا وثيقًا بنظام التقاعد غير المتوازن وغير العادل، والذي ينقسم إلى ثلاثة أنواع رئيسة: معاشات التقاعد للموظفين في المناطق الحضرية، ومعاشات التقاعد الأساسية للمُقيمين في المناطق الريفية والحضرية، ومعاشات التقاعد للموظفين المدنيين وموظفي الحكومة. وفي حين أن التغطية الإجمالية عالية، إلّا أنَّ هناك اختلافات كبيرة في المزايا. معاشات التقاعد للموظفين الحكوميين والقطاع العام هي الأكثر سخاءً، بمتوسط دفع شهري يبلغ حوالي 6100 يوان، أو 860 دولارًا. وعلى النقيض من ذلك، كان متوسط دفع الموظفين الحضريين في العام 2022 حوالي 3150 يوان، أو 443 دولارًا، وبلغ معاش التقاعد الضئيل لسكان المناطق الريفية والحضرية 205 يوان، أو أقل بقليل من 30 دولارًا. وبحسب تقريرٍ حديثٍ صادرٍ عن صندوق النقد الدولي، في العام 2015، تلقى موظفو القطاع العام المتقاعدون، الذين شكّلوا 2% من المتقاعدين، حصة المدفوعات نفسها التي حصل عليها المتقاعدون الريفيون في الصين، الذين شكلوا 62% من إجمالي المتقاعدين.
ومن المرجح أن تؤدّي تغييراتُ سنّ التقاعد، عندما تكون طوعية وتدريجية، إلى اختيار الأشخاص الذين يعملون في وظائف مربحة وأقل إرهاقًا جسديًا البقاء فيها لفترة أطول. وسوف يتقاعدون أيضًا وهم يحصلون على معاشات تقاعدية سخية. وعلى النقيض من ذلك، سوف يحتاج أولئك الذين يعملون في وظائف صعبة أو شاقة إلى العمل لفترة أطول، فقط للاستمتاع بمعاشات تقاعدية أقل سخاءً.
إنَّ التغيير في سنِّ التقاعد من شأنه أن يؤدّي إلى تفاقم التوترات بين الأجيال. فإذا تمكن العمال الأكبر سنًا الذين يتمتعون بوظائف ورواتب جيدة من البقاء في هذه المناصب لفترةٍ أطول، فسوف يتحمّل العمال الأصغر سنًا العبء الأكبر من زيادة البطالة، في وقتٍ بلغت البطالة بين الشباب مستويات غير مسبوقة بالفعل. ويخشى البعض أيضًا أن يؤدّي تأخير التقاعد إلى الضغط على ثقافة رعاية الأطفال الأسرية في الصين، حيث يتولى الأجداد غالبًا دورًا رئيسًا في تربية أحفادهم، وخصوصًا في غياب دور الحضانة الجيدة والميسورة التكلفة للأطفال الرُضَّع والأطفال الصغار.
إنَّ التغييرات التي تطرأ على أنظمة التقاعد والمعاشات التقاعدية تشكل في كثير من الأحيان عقبة ثالثة في طريق السياسة في الديموقراطيات، حيث يميل المواطنون الأكبر سنًا إلى التصويت والتوحُّد في قدرتهم على منع تغيير السياسات. إنَّ مقاومة تغيير السياسات في الصين أقل وضوحًا، ولكن ثبت أن التصدّي لها هو بالقدر نفسه من الصعوبة. والوقت وحده هو الذي سيخبرنا ما إذا كانت هذه المرّة مختلفة.
- عبد السلام فريد هو مراسل “أسواق العرب” في بكين.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.