العِراقِيُّ الغامِض
قِراءَةٌ مُتَأخِّرةٌ في عَقلِ صدّام حسين
(15)
صدَّام بين عفلق و…الإسلام!
سليمان الفرزلي*
ماتَ ميشال عفلق.
ضجَّت بغداد، ناحَت صُحُفُها على مؤسِّس “البعث”، نُكِّسَت الأعلام، أُلغِيَ الاحتفالُ بإعادةِ إعمار شبه جزيرة “الفاو”. لبِسَت الشوارعُ راياتٍ سود، وآياتٍ من الذكرِ الحكيم، يصدحُ مُرَتِّلها في الراديو، وعلى شاشة التلفزيون، مُرفَقةً بصور “الرفيق المؤسّس”، لوحده مرَّات، ومع “سيادة الرئيس القائد” في مناسباتٍ رسمية.
ثمّة مَن رَفضَ أن يُصدّقَ ما سمعَ عمَّن قرأ نعي القيادتَين القومية والقطرية، أنَّ ميشال عفلق نطقَ بالشهادتين، ومات على دين النبي العربي… وهو كتبَ ذلك بخطِّ يده، وأكّدَ الناعون، أنَّ الرجلَ وقَّعَ ما كتب، وأقرَّ به، مُضيفًا “أحمد” على اسمه!
سارَ الخبرُ مساره، يطرُقُ الأبوابَ والآذان، ويتمدّدُ على صفحاتِ الجرائد وفي الحناجر. انتَظَرَ الكُلُّ نشر الرسالة بخطِّ يد الرجل، فما نُشِرَت، ولا أعضاء القيادة القطرية رَؤوا الرسالة رأي العين، على مزاعِمِ أحدٍ منهم، كان انشقَّ عن القيادة، والحُكم، و”البعث”، و… ترك العراق.
فطوبى لمَن آمنَ ولم يَرَ!
اشتدّت العلّة عليه وازدادَ وَهنُ القلب، فأشارَ طبيبه الخاص بضرورةِ إجراءِ عمليةٍ جراحيةٍ عاجلةٍ للقلب المُتعَب.
في اواسط حزيران (يونيو) 1989 أقلعت طائرةٌ خاصة من مطار بغداد الدولي، على متنها ميشال عفلق وزوجته، وحطّت في مطار “شارل ديغول” حيث كان بانتظارهما السفير العراقي، فنُقلا إلى المستشفى العسكري “فال-دو-غراس”، في الدائرة الخامسة من العاصمة الفرنسية، الذي يُسمَّى “الصندوق الأسود لصحّة الزعماء”، (تأسس في 19/5/1796، وهو المستشفى العسكري الأبرز في العالم، محاطٌ بالكتمان، تحت إمرة وزارة الدفاع وقائد الجيش الفرنسي، تكلفة الليلة الواحدة فيه 1900 يورو).
لم يتجاوب القلب العليل، المُتعَب، لمَبضَعِ الجرَّاح. توقّفَ نبضه، وذهب حامله في صدره الى ربّه في 23 من حزيران (يونيو) 1989.
الطائرة التي حملته الى باريس عادت به الى بغداد، وهذه المرة كان صدام حسين بانتظاره.
كان ميشال عفلق على مشارف الثمانين من سنيه.
***
لم تمُرّ الأيام الثلاثة، قبل الجنازة، على صدام حسين كباقي الأيام. كان يتحضَّرُ للاحتفال بإعادة إعمار “الفاو”، فجاءه النبأ المُحزن ليُغيِّرَ كلَّ شيء، فالأقدارُ رسمت خطوطها، وأدركَ أنَّ عليه التعامُل معها بحنكة… ذلك أنَّ وفاةَ عفلق، كادت أن تُربِكَهُ، وتُشَكّلَ له معضلة، كان في غنى عنها، وعن تبعاتها، وهو الخارج للتوِّ من حربٍ طويلة، دامية ومدمّرة، مع الإيرانيين… فحسم أمره، واستخدَمَ الحادث الجلل، ليزيح الغمة عن صدره والاحراج، وليسمح له بالرد على كلِّ مَن نالَ من “إسلامه”، و”قوميته”، وعَيَّرَهُ بانتسابه إلى فكر وعقيدة “مُشركٍ”، كما كان الإعلام الإيراني يصفُ ميشال عفلق، فإذا بهذا “المُشرِك” يُشهِرُ إسلامه، ويموتُ على دين النبي الكريم، وها هو يُصلَّى عليه، ويُدفن، على سنَّة الرسول.
ففي حمأة النزال الدامي، شنَّت أبواق النظام الايراني الإعلامية، وفي مقدمها “إطلاعات”، و”كيهان”، حملات صوَّبت عليه، وعلى “إسلامه” وحكمه. وما لم يُكتب في الجرائد، ما كان يغيب عن عظات الإمام آية الله الخميني، ولا عن تصريحات علي أكبر هاشمي رفسنجاني، الذي كان عُيِّنَ، في آخر أيام الحرب، قائدًا أعلى للقوات المسلحة الإيرانية، (كان رفسنجاني وراء “تَجرُّع الإمام السمّ”، بموافقته على قرار مجلس الأمن الدولي الذي أنهى الحرب سنة 1988).
يوم الجنازة المهيبة، التي تليق بالزعماء والرؤساء، كان أشرف على تنظيمها بنفسه، مشى “سيادة الرئيس” مُحاطًا بأعضاء القيادتين القطرية والقومية، ومجلس قيادة الثورة، وعائلة الراحل، وممثلين رسميين عن مصر، ولبنان، والجزائر، ومئات المُشَيِّعين من كل أطراف المحافظات العراقية.
حمل صدام حسين النعش إلى مثواه، وأهَل الترابَ على الحفرة، التي أنزل فيها التابوت الخشبي، ولم يمضِ كثيرُ وقت، حتى نُقل الجثمان إلى ضريح بقبة زرقاء، وبناء مزخرف، أشبه بأضرحة الأولياء الصالحين ومزاراتهم، أقامه صدام حسين في الحديقة الغربية لمقر القيادة القومية الكائن في تقاطع “شارع الكِندي” مع “طريق القادسية” السريع.
في ذلك الضريح، أودع صدام حسين رسالة ميشال عفلق، (على ما قال ابنه إياد)، ومع “الرفيق المؤسس”، دَفَن “البعث”.
يومها أدرك صدام حسين بأنه أمامَ واقعٍ جديد، يسمح له بإعلان جمهوريته “دولة إسلامية”، ومعه، بشهادة “الأشراف”، إعلان نسبه “الهاشمي الحسيني”، إلى سلالة النبي الأعظم، والقرابة إلى الإمام علي بن أبي طالب!
(تابعت رغد بنت صدام حسين تثبيت نسب والدها باستصدار شهادة نسب من “نقابة الأشراف” في لندن). بذلك أظهرَ صدّام حسين نفسه أنه أرفع مقامًا من أعدائه الإيرانيين، وأوزَن من سائر الحركات الإسلامية، من “الإخوان المسلمين”، و”الأزهريين”، و”المرتدّين عن القومية العربية”، التي هي الأخرى ماتت بموت صوتها الأول جمال عبد الناصر.
هو الآن، فوق رئاسة العراق، وفوق الصدارة العربية، ويمتدُّ بنظره إلى العالم الإسلامي حاملًا راية “الله أكبر” مخطوطة بدمه، وبخطِّ يده.
كأن الدولة العباسية وُلِدَت من جديد، لتبقى إلى مئات السنين.
***
لم يَكُن الإيرانيون، وحدهم، مَن كانوا يُعَيِّرون صدام حسين “بقلَّة إسلامه”، على قول الشاعر العباسي أبي نواس!
فقد ضُرِبَ من بيت أبيه، ومن المُقرَّبين منه.
زعم حسن العلوي، وهو كاتب بعثي عراقي، أنه كان من الذين وَثقَ بهم صدّام حسين، وصادقهم، وقرَّبهم منه، وأَسَرَّ له بمكتوم صدره، فتسلّمَ رئاسة تحرير مجلة “ألف باء”، ثم عُيِّنَ مديرًا لوكالة الأنباء العراقية، إلّا أنَّ قربه من “سيادة الرئيس”، لم يَحمِه من العقاب، فكُفَّت يده عن الوكالة، ونُفي خارج العراق، لينضمَّ إلى صفوف المعارضة ضد “صديقه” ونظامه.
في حديثٍ تلفزيوني، ذكر حسن العلوي، ما مفاده، وننقل بعضه، كما جرى التداول به:
قلتُ لصدام حسين في ذات يوم: لخاطر الله، لماذا لا تُصبِحُ أنت أمين سر الحزب، ونتخلص من “هذا الاسم؟”.
قال لي: “من هو”؟
أجبته: “ميشال عفلق”.
رد عليّ مُستَفسِرًا: “اشبيه ميشال عفلق؟”.
قلت: “إسم أجنبي، هو زعيم حزبنا، ولكن بلدنا بلد إسلامي، ونحن أهل الدولة العباسية، وعاصمتها بغداد، هل نقبل واحد مثل ميشال عفلق يقودنا “اشلون يصير”، من هارون الرشيد إلى ميشال عفلق، ما تصير هذه، من فيصل الأول إلى ميشال عفلق، اشلون يصير، ما تصير هذه، من حمورابي إلى ميشال عفلق، ما تِرْهَمْ، ما تصير”….
بعد انفصال سوريا عن مصر، في أعقابِ خلاف جمال عبد الناصر مع شركائه البعثيين في دولة الوحدة (الجمهورية العربية المتحدة)، وقعَ في اليمن انقلابٌ عسكري أطاح الإمام البدر، بقيادة عبد الله السلال، الذي أصبح رئيسًا للجمهورية اليمنية في كنف عبد الناصر وقواته المسلحة.
في خطاب له، تعرَّض الرئيس السلال إلى موضوع: “استهجان أن يكون ميشال عفلق قائدًا عربيًا”، داعمًا بذلك حملة عبد الناصر ضد البعثيين، الذين جاؤوه لتجديد تجربة الوحدة، ثلاثية هذه المرة، بضمّ العراق إليها، فقال السلال: “ميشال … ما لنا ولهذا الاسم!”.
ويُخبرُ مَن كانَ حاضرًا مجلس العقيد معمر القذافي، في خيمته بطرابلس الغرب، أنه قال هازئًا: “أميشال وقائد مسيرة البعث العربي؟”.
ورُبَّ سائلٍ: هل هؤلاء رفضوا ميشال عفلق، لأنه اسمٌ أجنبي أم لأنه مسيحي؟
والجواب: لأنه كذلك!
ففي الوسط العربي القومي، المُسلِم وحده له الحق في تعاطي السياسة، وبكلامٍ جازمٍ قاطعٍ: إنَّ “مسألةَ الذميَّة”، أُلغِيت شفويًا، وبقيت في القوانين.
***
“أسلمَ” ميشال عفلق، أم لم يُسلِم، ليس أمرًا مُهمًّا في الشكل. لكنه بالنسبة إلى صدام حسين كان ضرورةً سياسية حيوية، لانعطافته الإسلامية، من خلال “حملته الإيمانية”، فهو لا يستطيع إعلان دولته “جمهورية إسلاميَّة”، يحمل علمها الوطني عبارة “الله أكبر”، من دون “أسلمة البعث”. فهو كانَ يريدُ “جمهورية العراق الإسلامية”، في مواجهة “جمهورية إيران الإسلامية”. في تصوُّره: “إسلامٌ عربي أصيل!”، في وجهِ “إسلامٍ فارسيٍّ هجين”
ملفتٌ أنَّ توجُّهَ صدام حسين بالنسبة إلى تعامُله مع ميشال عفلق، في نهايته، يتناقضُ مع تعامُلِ البعثيين السوريين الأوائل في بدايته. فقد قال جلال السيد أحد أوائل البعثيين في سوريا: “اخترنا ميشال عفلق لرئاسة الحزب لكونه مسيحيًا، مع أنه يوجد مَن هو أكفأ منه للرئاسة… لكننا، قصدنا بذلك عنوانًا لعلمانية الحزب”.
بصرفِ النظَرِ عن شكلية، وإشكالية، إشهار ميشال عفلق إسلامه، فإنَّ الإطارَ النظري لأفكاره المُعلَنة بقي يلفُّه الالتباس، على جدلية “العروبة والإسلام”، منذ أن ألقى محاضرته المشهورة، “في ذكرى الرسول العربي”، على مدرج جامعة دمشق، يوم الخامس من نيسان (أبريل) 1943، قبل أربع سنوات من تأسيس “حزب البعث”.
قد يكون أن إشهارَ صدام حسين إسلام ميشال عفلق، حَسَمَ الجدل في ما يتعلق بالهوية الشخصية للرجل، لكنه قطعًا لم يحسم جدلية الالتباس بين العروبة والإسلام.
في كتاباته الأولى في أواسط ثلاثينيات القرن الماضي، قدَّم ميشال عفلق صورةً عن الأزمة التي تنشأ بين المجتمع وقائده، أو رسوله، الذي يحمل لهم أفكارًا تفوقُ قدرةَ الجماهير على فهمها وإدراكها. وقد يكون تأثّرَ في ذلك بالتوجُّهات الفلسفية السائدة وقت وجوده في جامعة السوربون، وأبرزها مُمثَّلٌ بالفيلسوف الوجودي الأول، الدانماركي سورين كيرغارد، الذي وضع كتابات نقدية حول “الديانة المنظمة”، وعن “المسيحية” وفلسفة الدين. (عاكسها لاحقًا جان – بول سارتر في مفهوم “الوجودية الإلحادية”).
أما التوجُّه الآخر، فهو ما جاء به الفيلسوف الفرنسي هنري بيرغسون في كتابه “المنبعان للأخلاق والدين” (1932)، الذي أثار ضجة في الأوساط الثقافية الباريسية، باعتباره مُناقضًا لعلمانية الدولة الفرنسية.
قد يكون عفلق في كتاباته الرمزية الأولى، (مُتأثّرًا بمدرسة أندريه جيد، قبل أن ألهى نفسه عن الاشتغال بكتابة القصة وقرض الشعر، إلى الاشتغال بالسياسة)، فاستبقَ ما سيواجهُ لاحقًا من فجوةٍ بين أفكاره وفَهمِ الآخرين لها، إلى أن وَقَعَ “في الأَسرِ الإسلامي” على يد صدام حسين، لاعتبارات لا علاقةَ لها بالدين على الإطلاق، بل بدافعٍ سلطويٍّ محض.
مما لا شكَّ فيه، أن محاضرة ميشال عفلق “في ذكرى الرسول العربي”، أُسيءَ فيها الفهم، وأُسيءَ فيها القصد، كما إنَّ مفاهيمها المُزدَحِمة بالمُصطلحات، كانت “فوق مفهومية” عامة الناس، وخارج إطار الحركية الحزبية، لأنه طرح المسألة في إطارِ “التجدُّد الإسلامي”، وليس جعل “البعث” إسلامًا جديدًا، لأنها أُلقِيت قبل سنواتٍ من تأسيس “حزب البعث”، كما شاع في مرحلة الوصول الى السلطة. فقد قال في محاضرته تلك: “إنَّ حركة الإسلام، المُتمثّلة في حياة الرسول الكريم، ليست، بالنسبة إلى العرب حادثًا تاريخيًا فحسب، تُفسَّرُ بالزمان والمكان، وبالأسباب والنتائج، بل إنها، لعُمقِها، وعنفها، ووسعها، ترتبطُ ارتباطًا مباشرًا بحياة العرب المُطلَقة، أي أنها صورةٌ صادقةٌ، ورمزٌ كاملٌ خالدٌ، لطبيعة النفس العربية، وممكِناتها الغنية، واتجاهها الأصيل، فيصحُّ، لذلك، اعتبارها مُمكنة التجدُّد دومًا في روحها، لا في شكلها وحروفها. فالإسلام هو الهزَّةُ الحيويةُ، التي تحرِّك كامن القوى في الأمة العربية، فتجيش بالحياة الحارة، جارفةً سدودَ التقليد وقيود الاصطلاح”.
هنا وقع كثيرون في الالتباس، كما يظهر من تفسير قدَّمه عبد البر عيون السود، أحد أوائل المقربين من ميشال عفلق، فقال: “إن إعجاب عفلق بالحركة التاريخية للإسلام كان قويًا لدرجة أنَّ “البعث” يجب أن يُعيدَ على نحوٍ جديد هذه التجربة الإنسانية”.
هذه العبارة تساوي القول بأنَّ “البعث هو الإسلام الجديد”، لو لم يستدرك عيون السود مُوَضِّحًا: “وبعبارةٍ أخرى، فإنَّ “البعث”، في أساسه، يستطيع أن يستلهم تلك التجربة العظمى”.
هناكَ فروقٌ كبيرة، بين أن “يستلهِمَ من تجربةِ الإسلام”، وبين “أن يُجدّدَ تجربة الإسلام القديمة”، وبين “إعادة التجربة على نحوٍ جديد”، أو “المُمايزة بين محمد والمحمديين”، وما إلى ذلك، بحيث راكمَ المفسِّرون لأطروحة عفلق، في محاضرته عن “ذكرى الرسول العربي”، جملةً من التناقضات والالتباسات يصعبُ تفكيكها، خصوصًا في ضوءِ التجربة البعثية في السلطة، لا سيما في العراق حيث واجهت امتحانًا قاسيًا لم تُفلح فيه.
على الجانب الآخر، من النقاش حول “العروبة والإسلام”، أي من جانب العرب غير المُسلمين، هناك مفكرون توصّلوا إلى استنتاجٍ باستحالةِ “قبولهم التام”، في الإطار الإسلامي، على الأقل كما كان الوضعُ في أواخر سني الدولة العثمانية.
في هذه الجدلية، يتساءل أنسي الحاج، رحم الله روحه: “هل تكون مجاراة الأكثرية المُسلِمة في إسلامها، هي الصورة الفضلى لمُمارسة المسيحية اليوم في العالم العربي؟”.
أمّا ” عفلق والإسلام ” فقد كان للكاتب والشاعر الراحل، فيه مقالٌ حول كتاب “علامات الدرب”، الذي اشتمل على سيرتي الذاتية، نشره في “جريدة الأخبار” البيروتية في 30 آذار (مارس) 2013 جاء فيه ما مفاده: “…عن اعتناق أو عدم اعتناق عفلق للإسلام، الأمر الذي ما زال مُلتبسًا لمعظم المهتمّين، يقول الفرزلي، الذي تحاور مع عفلق في الموضوع مرارًا في بيروت، إنّ الأخير في كلامه على الإسلام “لم يكن يقصد هذا الإسلام القائم بكلّ تفرّعاته ومدرجاته وطقوسه، بل كان يعتبر هذا الإسلام في واقعه الراهن مرضًا من الأمراض العديدة المُستَشرية في الأمّة. فالإسلام عنده هو الحالة المحمّديّة التي استنهضها الرسول العربي في روح الأمّة (…) أمّا الإسلام الراهن فهو صيغة للعيش في الماضي، ولا تُعبّرُ عن مستقبل الأمّة (…) كان عفلق يحلم بأن يكون البعث العربي الاشتراكي هو الإسلام الجديد ليؤدّي الرسالة التي عبّر عنها في مرحلة سابقة دين محمد. فالإسلام له ما قبله في التعبير عن روح الأمّة، وسوف يكون له ما بعده، بل تَجَسَّد فيه من ضمنه ما بعده في فترات معيّنة، وكان يعتبر أنّ البعث هو واحدٌ من هذا الما بعد من ضمنه”.
(…) ويختم الفرزلي بالقول: “إنّ إسلام ميشال عفلق هو هذا الذي فهمته منه، سواء صحّ أم لم يصحّ ما ادّعاه نظام صدّام حسين عن اعتناقه الإسلام تبريرًا لجنازةٍ إسلاميّة على الطقوس البغداديّة، لأنّ ذلك يبقى في الشكل ولا يلامس الجوهر”.
ويمضي أنسي الحاج في مقاله: “يخرج سليمان الفرزلي بانطباعٍ مؤلمٍ هو أنّ عفلق كان يعيش غربةً روحيّة داخل حزبه. ويخرجُ القارئ بانطباعٍ أشدّ إيلامًا هو أنّ عفلق كان يعيش غربةً روحيّةً داخل حزبه وداخل أمّته. وقد لا نبالغ إذا قلنا وداخل ذاته. بصرف النظر عن إسلامه أو عدمه. غربةُ المثاليّ الحالم في واقعٍ فظّ وانتهازيّ، وغربةُ المفكّر والمُنظّر في جغرافيا من الدسائس والدبّابات. لا نعتقد أنّ هناك بين عقائديي العالم العربي مَن انتشرت عقيدته وحكمت أكثر من “البعث” ولا مَن كان منفيًّا في انتصاره أكثر من ميشال عفلق”.
في المحصلة، إنَّ إعلان صدام حسين المُتأخِّر عن تحوُّل عفلق من المسيحية الى الإسلام، هو إعلانٌ أن الإسلام هو كل العروبة، وهذا يعني أن “البعث” هو حزبٌ ديني، وليس حزبًا علمانيًا، وأنه “حزب إسلامي”، وليس “حزبًا عربيًا”، وأنَّ الإنسان العربي، هو “المسلم” فقط، وأنَّ الخيارات المتاحة للعرب “غير المسلمين”, هي أن يعتنقوا الإسلام، أو أن يرحلوا عن البلاد، أو أن يبقوا ذمِّيين، ومواطنين من الدرجة الثانية، عُرضةً لشتى أنواع المُضايقة، والاضطهاد.
إسلام عفلق معناه، أنه لا مكان في العالم العربي لغير المسلمين!
***
لم يكن مضى وقتٌ طويل على انتماء صدام حسين إلى “البعث”، عندما برزت “المسألة الإسلامية” في السياسة العراقية. ظهرت تلك المسألة بأوجُهٍ مُتباينة في فترةِ التوتّرِ بين “دولة الوحدة” في دمشق، بقيادة جمال عبد الناصر، وبين جمهورية عبد الكريم قاسم في بغداد. فالتدخُّل الفاضح الذي قامت به أجهزة عبد الناصر وعبد الحميد السراج في شؤون العراق الداخلية، عبر محاولة الانقلاب التي قادها من الشمال العقيد عبد الوهاب الشوَّاف، في الثامن من آذار (مارس) 1959، أطلق موجة من الاضطراب المتطرف تصدَّره الشيوعيون في عرضٍ جامحٍ لقوتهم، باسم الدفاع عن الجمهورية.
أعمالُ القتل والانتقام التي تلت محاولة الشواف، أطلقت في العراق موجة من ” العنف والعنف المضاد”، استمرّت إلى اليوم، فصار اللجوءُ إلى القسوة والعنف وسيلةً سياسية، للحكم وللمعارضة، منذ ذلك الحين. حتى أنَّ عبد الكريم قاسم استفظع ما حدث، وساوره الخوف من “المَدِّ الشيوعي”، الذي تمادى واستفحل باسم الدفاع عنه، فلجأ إلى شَقِّ صفوف الشيوعيين، وتسليط أجهزة الأمن عليهم… لإضعافهم.
بهذا التصرُّف، ساعد قاسم، الحركة البعثية والقومية المعادية للشيوعيين، ربما عن غير قصد منه، أو لخطَإٍ في التقدير، أو ربما لاعتقاده أنه يستطيع أن يُقيمَ توازنًا بين الفريقين لصالحه، فيحكم من خلالهما، يقوِّي جماعة ويُضعِف جماعة حسب الظروف. لكن ذلك الأسلوب انقلب وبالًا عليه.
بحكم وجودي في “العمارة”، جنوب العراق، مُدَرِّسًا لدى وزارة المعارف، كنتُ شاهدَ عيان على الوضع العراقي الناشئ. من المعروف أنَّ “العمارة” تسكنها غالبية شيعية، وموئل للشيوعية الراديكالية، بحيث يمكن القول بأنَّ “الحركات القومية العربية” كانت شبه معدومة. فتقاسم الشيوعيون المجتمع الشيعي، مع أتباع الحوزة الدينية في” النجف” الى جانب قلة قليلة من “المثقّفين العروبيين”، الذين يوالون الحركات القومية، لكنهم ليسوا ناشطين أو فاعلين فيها.
في تلك المرحلة من تمايُزِ عبد الكريم قاسم عن الشيوعيين، أصدر المجتهد الأكبر في “الحوزة النجفية”، السيد محسن الحكيم فتوى تقول: “الشيوعية كفرٌ وإلحاد”.
لفتني أنَّ تلك الفتوى طُبعت على ملصقاتٍ جدارية، تَمَّ توزيعها في جميع أنحاء البلاد. وقد عَرَفتُ، أن الأجهزة الأمنية لنظام عبد الكريم قاسم، قامت بتوزيع تلك الفتوى على نطاقٍ واسع، كما راحت تُلاحقُ الشيوعيين وأنصارهم، وكان منهم أساتذة في” ثانوية العمارة”، وفي المدارس المتوسطة، ودور المعلمين والمعلمات.
أَيقَنتُ، وقتها، أنَّ تلك الحملة، تمّت بالتنسيق بين الزعيم قاسم، وبين” مرجعية النجف”، ولم تمضِ أشهرٌ قليلة، حتى وقع الانقلاب العارفي–البعثي، فشكَّل البعثيون كتائب من “الحرس القومي”، قامت بالتنكيل بالشيوعيين بتصرُّفاتٍ انتقامية دموية، مما كاد يوصل العراق إلى شفا حربٍ أهلية مدمِّرة. وفي ذلك الوقت، أي في مطلع صيف 1963، بعد انتهاء العام الدراسي، غادرتُ العراق، قبيل انقلاب عبد السلام عارف على شركائه البعثيين.
لا بدَّ من الإشارة هنا إلى أنَّ غلواء” الحرس القومي البعثي” في الانتقام من الشيوعيين، جعلهم واقعيًا حُلفاءً للتوجُّهات الإسلامية، سواءَ منها التابعة لحوزة “النجف”، أو تلك التابعة للتيار القومي الناصري، و”جماعة الإخوان المسلمين”، وقلّة من المشايخ السنَّة الأزهريين. ومما لا شك فيه أنَّ البعثيين، ومنهم بعض المُجاهرين بإسلاميتهم، استفادوا من المُنعَطف الذي اتخذه عبد الكريم قاسم ضدّ الشيوعيين، واستفادوا أيضًا من تجاوبِ القيادات الدينية، الشيعية والسنّية، معه. فلو تُرك الأمر، للحرس القومي البعثي، حسب مساره الانتقامي بالعنف، لربما كان العراق انحدر إلى التفتُّت والاحتراب الداخلي.
لكن أحدًا لا يستطيع أن يُنكِرَ أنَّ ذلك التحوُّل تمَّ تحت راية فتاوى مرجعيات دينية متجذِّرة. هذا كان أول لباس ديني (وربما طائفي) لحزب “البعث” غطّى به رداءه العلماني الفضفاض.
ليس شيئًا بسيطًا أو عابرًا، أن يعودَ “البعث” القهقرى إلى أربعينيات القرن الماضي، ليستعيدَ “جدلية العروبة والإسلام”، التي ظنَّ ميشال عفلق أنه وضَّحها في محاضرة “ذكرى الرسول العربي” في العام 1943.
يحارُ المراقب، أو الدارس لظاهرة “حزب البعث” في العراق، عندما يواجه هذا التناقُضَ الغامض بين الفكر والممارسة، خصوصًا تحت رئاسة صدام حسين.
لفَهمِ ذلك التناقُض، لا بدَّ من العودة إلى الأدبيات البعثية، السورية والعراقية، في مطلع ثمانينيات القرن العشرين، وفي بدايات الحرب العراقية–الإيرانية. بعد أقل من سنتين على حرب “قادسية صدام ضد إيران الإسلامية”، جاء في بيان المؤتمر التاسع لحزب البعث (1982) حول الموضوع الديني، قوله: “إنَّ الظاهرةَ الدينية ظاهرةٌ انقسامية، وليست توحيدية للشعب العربي، في حين أنَّ حركة القومية العربية أثبتت قدرتها، في الخمسينيات والستينيات، على حشدِ كلِّ الشعب العربي، بكلِّ أديانه وطوائفه، في النضال ضد القوى والدوائر الإمبريالية في بلدان العالم الثالث، وضدّ المصالح الاستعمارية، والأخطار الصهيونية. كذلك، فإنَّ الظاهرةَ الدينية في العصر الراهن، هي ظاهرةٌ سلفية ومُتخلِّفة، في النظرة وفي الممارسة، وهي تأتي في عصرٍ سمته الأساسية، وشروط التقدّم والقوة فيه، تقوم على العلم والتكنولوجيا، وخلق الثروة، واستخدامها استخدامًا كاملًا، وتوزيعها على أُسُسٍ عادلة”.
يسألُ قارئُ هذا البيان، كيف يستقيم تحليله، ويسري مفعوله، مع توجُّه صدام حسين بعده بوقتٍ قصير إلى احتضان الخيار الديني، والسعي الدؤوب إلى تظهيره بكلِّ لبوس ديني مُتاح؟
حقيقةُ الأمر أنَّ هناك شيئًا غير مفهوم، وما زال محفوفًا بالغموض إلى اليوم، لناحيةِ التناقُضِ بين القول والفعل، مما يضع المسألة ضمن ثلاثة احتمالات لا رابعَ لها:
- إمّا أنها مؤشِّرٌ على صراعٍ داخليٍّ في “حزب البعث” الحاكم بين جناحَين؛
- وإمّا تقسيمٌ للأدوار للتعمية والتضليل؛
- وإمّا محاولةٌ لتسعيرِ الخلافات الحزبية بغية مغادرة “الفكرة البعثية” نهائيًا وإلى الأبد.
في حالِ أرجحيةِ الاحتمالِ الثالث، يكون صدام حسين قد “اجتثَّ البعث”، قبل أن تخطر الفكرة للمندوب السامي الأميركي، فيما كان الرئيس العراقي متواريًا.
والمُحَيِّرُ أيضًا، أنَّ “البعث” جزمَ في بيانه، أنَّ الظاهرة الدينية لا يمكن بالنتيجة إلّاَ أن تكونَ “طائفية تعصُّبية”، والأهم من ذلك اعترفَ بوجودِ “رفاقٍ” يعتبرون “التديُّن” بديلًا أخلاقيًا أو عقائديًا عن” حزب البعث العربي الاشتراكي”. فلنقرأ ما جاء في هذا الشأن، وردُّ الحزب عليه (خلال المؤتمر التاسع): “إذا كانت مفاهيم وممارسات التديُّن قد اعتُبِرت من قبل بعض الرفاق، بديلًا أخلاقيًا أو عقائديًا عن “حزب البعث العربي الاشتراكي”، وسبيلًا لحلِّ المسائل الجوهرية في الحياة، فلماذا اختاروا حزب البعث العربي الاشتراكي؟ ولماذا بعدَ أن قطعوا شوطًا طويلًا في الحزب، يُريدون فرضها عليه، أو إشاعتها فيه، من دون أن يكونَ لذلك أساسٌ في عقيدة الحزب، وفي تقاليده؟”.
لعلَّ خُلاصةَ مطالعة الحزب هذه، هي أجرأ ما فيه، لأنها دانت السائرين في الاتجاه الديني (بديلًا من العقيدة البعثية)، واعتبرتهم “متآمرين”، و”مشبوهين”، و”غير أهل للقيادة”.
أيكون أنَّ القائلين بهذا الكلام، أرادوا تجريدَ صدام حسين من أهليته للقيادة، خصوصًا بعدما ظهرت إخفاقات عسكرية على الجبهة مع إيران؟
هذا سؤالٌ ما زال بحاجة إلى إجابة، خصوصًا، أنَّ صدام حسين بعد تلك الفترة كان مُتَوَجِّسًا من مخطّطات، سواء داخل “البعث”، أو داخل القوات المسلحة، فراحَ يُصَفِّي الأشخاص، الحزبيين والعسكريين، الذين كان يُرجح في إطار هواجسه، أنَّ لديهم استعدادًا للحلول محله!
النتيجة، أو الخلاصة، تأتي في خاتمة البيان الختامي للمؤتمر: “إنَّ النضالَ ضدّ انحرافات الظاهرة الدينية، هو اليوم في مقدّمة المهمات، التي يتعيَّنُ على حركة الثورة العربية خوضها، وإنَّ الذي لا يُدرِكُ هذه المهمة، يكونُ إمّا سطحيًّا أو عاجزًا عن التحليل العميق للأمور، وبالتالي، لا يصلح للقيادة، أو هو مشبوهٌ، ومتآمرٌ، يريدُ تقويضَ الكيانات العربية، وتقسيمها بين الكتل الدولية”.
إنَّ الصراعَ مع إسرائيل والصهيونية يتقدَّم راهنًا على الجدلية حول العروبة والإسلام، وجوهر الصراع يكمُنُ في أنَّ إسرائيل تصرُّ على أنها “دولة يهودية”، حتى ولو حكمها علمانيون، وبالتالي فإنه “لا يفلُّ الدولة الدينية” سوى دولة، أو دول، أو حركات دينية مضادة.
فهل هي مجرّد مصادفة أن تتقدَّمَ الحركات الإسلامية وحدها لمواجهة الدولة اليهودية في فلسطين المحتلة؟!
(الحلقة السادسة عشرة يوم الأربعاء المقبل بعنوان: الخليجي)
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.