بينَ المَعرَكَةِ والمُباراة
رشيد درباس*
ولقد أعيانا يا إخواني رشُّ السُكَّرِ فَوْقَ الموتْ
الشاعر الفلسطيني الراحل توفيق زياد
كشفت عملية “طوفان الأقصى” أنَّ الشرقَ الأوسط لم يزل مصلحةً أميركية كبرى، وأنَّ إسرائيل هي إحدى وسائل حماية هذه المصلحة؛ فبعدما دعت “كونداليسا رايس” إلى الفوضى الخلّاقة، وبعدما شجَّع باراك أوباما على تولّي القوى الإسلامية (المُعتَدِلة) السلطة في مصر، تبيَّنَ أنَّ الأمورَ لا تسيرُ وفق الرؤية الأميركية، فراحت الدولة العظمى تُعلِنُ أنَّ اهتمامها انتقلَ إلى الشرقِ الأقصى وأنّها ستنصرفُ كلِّيًا إلى الصين لعلاجِ مشاكلها معها، لا سيما الاقتصادية منها، إضافةً إلى مأزق “تايوان”. لكن السابع من تشرين الأول (أكتوبر) كَشَفَ اللثام عن حقيقةِ العلاقةِ العضوية الأميركية-الإسرائيلية، حين استُنْفِرَ الرئيس “جو بايدن” استنفارًا غير مسبوق شاركه فيه بعض رؤساء الغرب، حتى صارت “تل أبيب” محجّتهم التي يبتهلون إليها بالمواساة والمساعدات والتذخير القاتل، ضدّ الشعب الفلسطيني كلّه، لا سيما أهل غزة الذين أصبحوا عراةً من المأوى، محجوبين عن الماء والطعام والدواء، عسى يدفعهم هذا إلى الترحُّلِ باتجاه سيناء، تخفيفًا عن الدولة العبرية من عبء ديموغرافي ثقيل.
أفشَلَ نتنياهو كلَّ تسويةٍ فغضبَ منه “بايدن”. لكن الكونغرس صفّقَ له على إجرامه عشرات المرات، فعادَ مُزدَهيًا وارتكبَ جريمتَي اغتيال الشهيدين فؤاد شكر واسماعيل هنية، رغبةً في أن تؤدّي فِعلتاه إلى اشتباكٍ أميركي-إيراني مباشر يعملُ له منذ زمن، ويأمل به في حال فوز دونالد ترامب. لقد قاده غروره إلى مُغالطاتٍ استراتيجية، لأنَّ الولايات المتحدة الأميركية، التي حشدت أساطيلها واستدعت قياداتها العسكرية العليا، ليست بواردِ الدخول في حربٍ مع إيران، بل هي تلفتُ نظرها إلى أنها لن تسمَحَ بإلحاقِ الضرر، لا بإسرائيل، ولا بالخطط الأميركية القائمة على الاستثمار في التناقُضات، بغضِّ النظر عن سياسةِ المحاور والأحلاف. والشاهدُ حروب الخليج؛ فبعد أن تمكّنَ صدّام حسين، بمساعدةٍ أميركية، من فَرضِ تسويةٍ قبلها الإمام الخميني على مَضَض، تحوَّلَ الأميركيون بعد ذلك إلى جيشِ اجتياحٍ أسقطَ صدّام حسين وسلَّم زمام العراق إلى إيران، ذلكم أنَّ الاستثمارات الأميركية ليست وليدة اتفاقيات ومعاهدات، بل هي منهزة فرص، ولعب على التناقضات، ولو كان هذا لحسابِ مصلحةِ أعداءٍ افتراضيين ضدّ حلفاءٍ افتراضيين، كما كانت علاقتها مثلًا مع (تنظيم “القاعدة”) بالتأسيس والرعاية ثم بتدميرها وقتل قادتها. ولنتذكّرْ أنَّ الاضطرابَ الخطير في العلاقات الإيرانية الخليجية كان مدعاةَ أرباحٍ اقتصادية وسياسية أميركية، من بَيعِ سلاحٍ باهظِ الثمن وغير صالحٍ للحسم، إلى زيادة إنتاج النفط، وفتح سفارات لإسرائيل في أكثر من عاصمة عربية… والحبل على الجرار كما يُقال.
إنَّ العالمَ بأسره يعرفُ معنى الانعطافات الأميركية، ومنها ما نراه الآن. كما يعرفُ أنَّ الانفراجةَ في العلاقات الإيرانية-الأميركية في عهد أوباما التي أفضت إلى الاتفاق النووي، وأنَّ تعقيداتٍ واغتيالاتٍ تبعَتها، من غير أن يؤدّي كلُّ ذلك إلى المواجهة المباشرة، بدليل أنَّ كلَّ محاولاتِ التفاهُم الخليجي-الإيراني فشلت فور كتابة نصوصها على طريقةِ القرد الذي أصرَّ على افتراس الجبنة حتى تكون القسمة عادلة، رافضًا اتفاق الطرفَين المختلفين بقوله (إذا أنتما رضيتما فالعدل لا يرضى)، وهذه من قصص الأطفال التي يقصر عن فهمها الكبار.كما لا يفوتنا أنَّ حجمَ الاستثمار يختلفُ بين مرحلةٍ وأخرى، وجهة مُسْتَثمرة وثانية، وفقًا لتطوّرات الأحداث والمواقف، وتقيُّدًا بمبدَإٍ أساس، هو أنَّ مصالحَ الولايات المتحدة ليست مصالح عقائدية بل مصالح ملموسة تطغى فيها الأرقام على المبادئ.
من هذا كله أذهبُ إلى ما هو سائدٌ منذُ مدة عن عبارة “قواعد الاشتباك” والاتهامات المُتبادَلة بخرقها. فالفكرةُ قائمةٌ على مفهومِ المباراة التي يقتضي لها حَكَمٌ نزيه، فَعَّال الصافرة، حازم البطاقات الصفر والحمر، فيما قواعدُ الاشتباكِ في الشرق الاوسط مرهونةٌ كُلِّيًا بالحَكَمِ الأميركي المُنخَرِطِ في اللعبة، والذي يُشجّعُ إسرائيل كلَّ مرة على خرقها، ثقة منه بأنه قادرٌ على امتصاصِ ردودِ الفعل. والدليلُ أنَّ الطيران الاسرائيلي يضربُ سوريا بصورةٍ مُنتَظمة من غير أن نسمعَ صافرةً أميركية أو حتى روسية؛ وأنَّ ضربَ القنصلية الإيرانية في دمشق، جرى استيعابه في شهر “نيسان/أبريل”؛ وأنَّ اغتيالَ القائد فؤاد شكر ورئيس حركة “حماس” اسماعيل هنية على جسامةِ كُلٍّ من الفعلَين وخطورتهما، يجري الإعدادُ لاستيعابهما، وذلك بالتصريحات الأميركية الرسمية وبالحشد الأسطولي المتوعِّدِ بأنَّ ضربَ إسرائيل يساوي ضرب أميركا. ومع هذا، وإلى أن تنجلي الأمور على ما سوف تنجلي عليه، فإنَّ قواعدَ الاشتباك، قد تحوَّلت إلى “قواعد ارتباك”، وقع فيها أطرافُ المباراة والحَكَم الفاسد معًا. أنا لا أُناقِشُ الأمرَ من زاوية الموقف السياسي، بل من حسابِ الربحِ والخسارة، لأنَّ المعاركَ تنتهي بالحسم، أما المباريات الماراتونية، فهي مُقتَصِرةٌ على تسجيلِ النقاط، وهي نقاطٌ دموية نازفة على طول العرب وعرضهم، وتُمثّلُ استنزافًا مُتماديًا لحقوقِ الشعب الفلسطيني، وإمعانًا في تهميشِ “دولِ الطوق”، ودفنًا لحلِّ الدولتين، في ظلِّ سياسةٍ مُستدامةٍ قائمةٍ على تشجيعِ تناحُرِ الأشقّاء وانقسامِ الفلسطينيين.
بعد السابع من تشرين الأول (أكتوبر) ارتجَّ الكيان الإسرائيلي وبوغِتت أميركا، فكانَ لا بُدَّ من شنِّ هذه الحرب الطويلة وخرق القواعد كلها، ما عدا واحدةً لم ولن تهتز، راسخةَ الأساسِ، هي صمود الفلسطينيين في أرضهم في وجه القتل والتشريد والتجويع والترحيل، وهذه هي المباراة التي لا تنفع فيها قواعد اشتباك، فأهلُ الأرض المقدّسة يفدونها بنسلهم ويروونها بالدم والعرق والدموع، وهم الإعلان الحقيقي عن أنَّ إسرائيل دولة فاشلة.
إنَّ هذا الكيان الذي قامَ على الاقتلاع والترحيل والإرهاب، هو كيانٌ حربي بطبيعته، لم يستطع طوالَ عقودٍ أن يجترِحَ حلًّا سلميًّا واحدًا لمعضلته، ولهذا فهو يُفضّلُ استعمالَ السلاح الذي لا تجفُّ موارده في كل مفصلٍ ومُنعَطف، ولكنه يكتشفُ في كلِّ مفصلٍ ومنعطف أنَّ الارضَ الحرّة مُتشبّثةٌ بشجرها.
إنَّ الاستثماراتَ الأميركية قائمةٌ على مساحةِ الكرة الأرضية، منها ما تُخطّطُ له الإدارة ومنها ما هو مُتاحٌ بطبيعته، كالحروبِ الأهلية والتعصُّبِ الديني، وإعسار الدول النامية وتَوَجُّس دول الحدود المشتركة من الأطماعِ المُتبادَلة، ومنها على وجهٍ أخصّ، ذلك الابتزاز النووي الذي تُمارسه أميركا على إيران ودول الخليج معًا، جاعلةً من نفسها مرجعًا للفصل بين الأهلِ والجيران، فيما هي في حقيقتها، تُديرُ تلك اللعبة الجهنمية لكي يصبَّ عائدها في بنكِ الاحتياط الفيدرالي، ومَدِّ إسرائيل بأسبابِ القوّة.
لا أستطيعُ أن أَتَكَهَّنَ سلفًا بما يُمكِنُ أن يستجدَّ من تطوّرات، ولكن ما استنتجته من خطاب الأمين العام ل”حزب الله” السيد حسن نصرالله أنَّ إيران وسوريا غير ذاهبتين إلى مواجهةٍ مباشرة مع إسرائيل، وربما مردّ ذلك التلويح بالاستعداد الأميركي للانخراط المباشر فيها إن حصلت. لكن بعض الردود (المدروسة والعقلانية) ربما أنشأت قواعد اشتباك جديدة، لكنها لن تؤدّي برأيي إلى أيِّ نتيجة، إلا إذا فككنا الاشتباك اللبناني الذي لا يستطيعُ أحدٌ أن يتجاهله. في الأدبيات الماركسية أنَّ قائد الثورة البولشفية (لينين) كان ينتقلُ في موسكو بين حَيّيْن، واحدٌ أرستوقراطي وآخر فقير، فوجد تبايُنًا كبيرًا في طريقة نشر غسيل فيهما، فصرخَ مُستهجنًا: “أأمتان؟” ربما كان للسؤال أن يُعيدَ طرح نفسه بعد استهجان النائب الحاج محمد رعد أن يدفعَ الجنوب خيرة شبابه، ويخسر عمرانه وزرعه واستقراره، فيما قسمٌ آخر من اللبنانيين يُقيمُ الأفراح والليالي الملاح غير آبهٍ بما يجري لسائر الأشقّاء في الوطن والدولة، لولا أن تداركه الأستاذ جبران باسيل بالتأويل والتفسير المُتعسّف، شارحًا أنَّ شهداءنا يسقطون من أجلِ هدفٍ نبيل، هو إتاحة الفرصة الآمنة للفريق اللبناني الآخر من أجل الرقص والغناء والذهاب إلى المطاعم، وقد خشيتُ أن يستطردَ قائلًا إنَّ هذا جُزءٌ من اتفاق مار مخايل.
لم تَعُد تنفعُ سياسةُ “رشّ السكر فوق الموت”، فالأطلس اللبناني جلد نعامة غلبت نعامة، كما قال أدونيس. أما المشهد اللبناني المُتباين، بل المُتناقض، فهو الإرهاص الخطر بتفكُّكِ الدولة، بعدما سقطت الخطابات المفوَّهة، والحجج المخلقة، فأخذ الاختلافُ شكلًا جديدًا وقواعد اشتباك جديدة قائمة على مجابهة القوة ببراعةِ الرقص.
- رشيد درباس هو وزير لبناني سابق يعمل بالمحاماة، كان سابقًا نقيبًا لمحامي شمال لبنان.
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “النهار” (بيروت).