إنحلالُ إسرائيل: المُستَقبَلُ المُظلِمُ الذي يَنتَظِرُ الدولةَ العِبرية بَعدَ حربِ غزة
في مسارِها الحالي، تنحرِفُ إسرائيل في اتجاهٍ غير ليبرالي إلى حدٍّ كبير. إنَّ التحوُّلَ اليميني المُتطرّف الحالي، الذي يدفعه الساسة فضلًا عن العديد من ناخبيهم، قد يجعلُ إسرائيل تتحوّلُ إلى نوعٍ من الدولة الدينية القومية العِرقية، التي يديرها مجلسٌ قضائي وتشريعي يهودي ومُتَطرّفون دينيون يمينيون، وهي ليست أقل من نسخةٍ يهودية من الدولة الدينية الإيرانية.
إيلان بارون وإيلاي سالتزمان*
عندَ إنشاءِ إسرائيل في أيار (مايو) 1948، تصوّرَ مؤسّسوها دولةً تُحَدِّدها القِيَمُ الإنسانية وتحترمُ القانون الدولي. وأصرَّ إعلانُ الاستقلال، الوثيقة التأسيسية لإسرائيل، على أنَّ الدولةَ “ستَضمَنُ المُساواةَ الكاملة في الحقوق الاجتماعية والسياسية لجميعِ سكّانها بغضِّ النظر عن الدين أو العِرق أو الجنس” وأنها “ستكونُ وَفِيَّةً لمبادئ ميثاق الأمم المتحدة”. ولكن منذ البداية، لم تتحقّق هذه الرؤية قط ــ فبعدَ ما يقربُ من عَقدَين على توقيعِ الإعلان، عاشَ الفلسطينيون في إسرائيل تحت الأحكام العرفية. ولم يتمكّن المجتمع الإسرائيلي قط من حلِّ التناقُضِ بين الجاذبية العالمية لمُثُلِ الإعلان والإلحاحِ الضَيِّق لتأسيس إسرائيل كدولةٍ يهودية لحماية الشعب اليهودي.
على مدى عقودٍ، برزَ هذا التناقُضُ الجوهري مرارًا وتكرارًا، الأمرُ الذي أدّى إلى اضطراباتٍ سياسية شكَّلَت وأعادت تشكيل المجتمع والسياسة الإسرائيليَين ــ من دونِ حَلِّ التناقُضِ على الإطلاق. لكن الآن، بعد الحرب في غزة والأزمة القضائية التي سبقتها، أصبحَ من الصعبِ أكثر من أيِّ وقتٍ مضى الاستمرار على هذا النحو، لأنَّ هذا المسار يدفع إسرائيل إلى نقطةِ الانهيار.
إنَّ البلادَ تسيرُ بشكلٍ متزايد على مسارٍ غير ليبرالي وعُنفي وتدميري. وما لم تُغَيِّر مسارَها، فإنَّ المُثُلَ الإنسانية التي قامت عليها سوف تختفي تمامًا مع انجرافِ إسرائيل نحوَ مُستَقبلٍ أكثر قتامة، حيث تُحَدِّدُ القيمُ اللاليبرالية كلًّا من الدولة والمجتمع. إنَّ إسرائيل في طريقها إلى أن تُصبِحَ أكثر استبداديةً في معاملتها ليس فقط للفلسطينيين بل وأيضًا لمواطنيها. وقد تخسَرُ بسرعةٍ العديدَ من الأصدقاء الذين ما زالوا لديها وتُصبِحُ منبوذة. ومع عُزلتِها عن العالم، قد تستهلكها الاضطرابات في الداخل مع اتِّساعِ الشقوق التي تُهدّدُ بتفكيكِ البلاد نفسها. الواقع أنَّ الوضعَ الخطير الذي تعيشه إسرائيل يجعلُ هذه التوقّعات المستقبلية ليست غريبة على الإطلاق ــ لكنها ليست حتمية أيضًا. لا تزالُ إسرائيل تتمتّعُ بالقدرة على انتشالِ نفسها من حافةِ الهاوية. لكنَّ التكلفةَ المُتَرَتِّبة على عدم القيام بذلك قد تكون باهظة للغاية بحيثُ لا يُمكِنُ تَحَمّلها.
نهايةُ الصهيونية
ضَرَبَ هجومُ “حماس” الدموي في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) إسرائيل في وقتٍ كانت تُواجِهُ أصلًا حالةً من عَدَمِ الاستقرارِ الداخلي الهائل. فقد سمحَ النظامُ الانتخابي في البلاد، الذي يعتمِدُ على التمثيلِ النسبي، في العقودِ الأخيرة دخولَ المزيدِ والمزيدِ من الأحزاب السياسية المُتَطَرِّفة إلى الكنيست، (البرلمان الإسرائيلي). منذُ العام 1996، كانت هناك 11 حكومة مختلفة، بمعدّلِ حكومةٍ جديدةٍ كل عامين ونصف العام – ستٌّ منها كانت بقيادة رئيس الوزراء الحالي بنيامين نتنياهو. وفي الفترة ما بين العامين 2019 و2022، اضطرّت إسرائيل إلى إجراءِ خمسِ انتخاباتٍ عامة. ولعبت الأحزاب السياسية الصغيرة أدوارًا رئيسة في تشكيل الحكومات وإسقاطها، حيث مارست نفوذًا غير مُتناسِب. وبعد الانتخابات الأخيرة، في تشرين الثاني (نوفمبر) 2022، شَكّلَ نتنياهو حكومةً بدعمٍ من الأحزاب السياسية وقادةٍ من أقصى اليمين، ما أدّى إلى وصولِ قوى في السياسة الإسرائيلية كانت كامنة لفترة طويلة على هامش السلطة.
في العام 2023، دفع نتنياهو وحلفاؤه من اليمين المُتطرِّف نحو مشروعِ قانونٍ للإصلاحِ القضائي يهدفُ إلى الحدِّ بشكلٍ كبير من إشرافِ المحكمة العليا على الحكومة. وكان نتنياهو يأملُ أن يحميه الإصلاحُ المُقتَرَح من قضيةٍ جنائية جارية ضده. وأراد حلفاؤه المتشدّدون أن يمنعَ الإصلاحُ تجنيد الآلاف من طلاب المدارس الدينية، الذين تمَّ إعفاؤهم منذ فترة طويلة من الخدمة العسكرية. وصَمَّمَ الصهاينة المُتَدَينون الإصلاح لمَنعِ قدرة المحكمة العليا على الحدِّ من بناء المستوطنات.
أثارت الإصلاحاتُ القضائية المُقترَحة احتجاجاتٍ ضخمة في جميع أنحاء البلاد، وكَشَفَت عن مُجتمعٍ مُنقَسِمٍ بعُمقٍ بين أولئك الذين يُريدونَ أن تظلَّ إسرائيل دولةً ديموقراطية ذات قضاءٍ مُستَقِلٍ وأولئك الذين يريدون حكومةً يُمكنها أن تفعلَ ما يحلو لها تقريبًا. أدّى المتظاهرون إلى توقّف الأعمال في المدن، وهَدّدَ جنود الاحتياط بعدم الخدمة إذا تمَّ تمريرُ مشروع القانون، وألمحَ مستثمرون عديدون إلى أنّهم سيسحبون أموالهم من البلاد. مع ذلك، تمَّ تمريرُ نسخةٍ أولى من مشروع القانون في الكنيست في تموز (يوليو) 2023 ولكن تمَّ إلغاؤها من قبل المحكمة العليا في بداية هذا العام. في الوقت الحاضر، يحاولُ الائتلافُ الحاكم إحياءَ بعض عناصر الإصلاح القضائي حتى مع استمرار الحرب في غزة.
لقد كشفَ الإحتجاجُ على الإصلاح القضائي بالتأكيد عن مخاوف داخل إسرائيل بشأنِ طبيعة الديموقراطية في البلاد، لكنه لم يُثِر تساؤلاتٍ حولَ مسؤولية إسرائيل تجاه الفلسطينيين الذين يعيشون تحت الاحتلال. الواقع أنَّ كثيرين من الإسرائيليين يرون أنَّ مُعاملةَ بلادهم للفلسطينيين مُنفَصلةٌ عن عملها كديموقراطية. لطالما تسامحَ الإسرائيليون، إن لم يكن مُرَخَّصًا، مع العنف الذي يمارسه المستوطنون اليهود ضد الفلسطينيين. في انتهاكٍ للقانون الدولي، تَفرُضُ إسرائيل على الفلسطينيين الذين يعيشون تحتَ حكمها في الضفة الغربية والقدس الشرقية ما يُشبهُ الأحكام العرفية. كما أشرفت الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة على توسيع المستوطنات اليهودية في الضفة الغربية، الأمر الذي يُعرِّضُ للخطر إنشاء دولة فلسطينية ذات سيادة في المستقبل. وقد كشفت الحرب في غزة، حيث قتلت القوات الإسرائيلية نحو 40 ألف شخص، وفقًا لتقديراتٍ مُتَحَفّظة، عن دولةٍ تبدو عاجزةً أو غير راغبةٍ في دعم الرؤية الطموحة التي تضمّنها إعلان استقلالها.
وكما اعترفَ العديدُ من التقدُّميين داخل إسرائيل منذ فترة طويلة، فإنَّ وحشيةَ الاحتلال العسكري وضرورات كون إسرائيل قوة عسكرية مُحتَلّة لها تأثيرٌ مُفسِدٌ في المجتمع الإسرائيلي بأكمله. وقد لاحظ يشعياهو ليبوفيتز، العالم والفيلسوف الإسرائيلي، “الفخر الوطني والنشوة” التي أعقبت حرب الأيام الستة في العام 1967، ورأى مُنعَطَفًا أكثر قتامةً في المستقبل. وحذّرَ في العام 1968 من أنَّ هذا الاحتفال بالوطن لن يؤدّي إلّا إلى “نقلنا من القومية الفخورة الصاعدة إلى القومية المُتطرِّفة المسيانية”. وزَعَمَ ليبوفيتز أنَّ مثلَ هذه المشاعر المُتَطرّفة من شأنها أن تؤدّي إلى تراجُعِ المشروع الإسرائيلي، ما يؤدّي إلى “الوحشية” وفي نهايةِ المطاف “نهاية الصهيونية”. والآن أصبحت هذه النهاية أقرب مما يرغب العديد من الإسرائيليين في الاعتراف به.
إسبارطة مع قلنسوة يهودية
في مسارِها الحالي، تنحرِفُ إسرائيل في اتجاهٍ غير ليبرالي إلى حدٍّ كبير. إنَّ التحوُّلَ اليميني المُتطرّف الحالي، الذي يدفعهُ الساسة فضلًا عن العديد من ناخبيهم، قد يجعل إسرائيل تتحوّلُ إلى نوعٍ من الدولة الدينية القومية العرقية، التي يديرها مجلسٌ قضائي وتشريعي يهودي ومُتَطرّفون دينيون يمينيون، وهي ليست أقل من نسخةٍ يهودية من الدولة الدينية الإيرانية. لقد أدّت التغيّرات الديموغرافية والاجتماعية السياسية في إسرائيل، بما في ذلك الزيادة السريعة في عدد السكان المُتَدينين المتطرِّفين، والميلُ نحو اليمين بين الشباب اليهود الإسرائيليين، والانخفاض في عددِ اليهود الإسرائيليين الذين يعتبرون أنفسهم علمانيين، إلى إنتاجِ هيئةٍ سياسيةٍ أكثر تَدَيُّنًا تنظرُ إلى استمرارِ وجود إسرائيل كجُزءٍ من صراعٍ لا يُمكنُ التوفيق فيه بين اليهودية والإسلام.
ومن بين الساسة القوميين المُتَشَدّدين الذين يدعونَ صراحةً إلى دولةٍ يلعبُ فيها الدين دورًا أكثر تحديدًا وكبيرًا بتسلئيل سموتريتش، وإيتامار بن غفير، وآفي ماعوز ــ وهم جميعًا من اللاعبين الرئيسيين في حكومة نتنياهو الائتلافية. وهم يمثّلون شريحةً جديدةً نسبيًا ولكنها مُتزايدة النفوذ من الحركة الصهيونية الدينية المعروفة باسم “الحردال” (الحريديم القوميين)، والتي تعتقدُ أن الله وَعَدَ اليهود بأرضِ إسرائيل التوراتية بأكملها، وترفُضُ الثقافة والقيم الغربية، وتُعارِضُ بشكلٍ أساس المعايير المقبولة لليبرالية الإسرائيلية، مثل حقوق المُثليين جنسيًا، وبعض الفصل بين الكنيس والدولة، والمساواة بين الجنسين. وتتبوَّأُ شخصياتٌ مُرتبطة ب”الحردال” حاليًا مناصب وزراء في الحكومة الإسرائيلية، ويشغلون مناصب قوية في الكنيست، وهم قادةٌ بارزون للمدارس الدينية والأكاديميات التحضيرية العسكرية المعروفة باسم “المشينوت”. وتُشيرُ الاتجاهات السياسية والديموغرافية إلى أنَّ اليمين المُتطرّف في إسرائيل سيظلُّ مؤثِّرًا انتخابيًا، بل ومُهَيمِنًا، في المستقبل المنظور.
لكنّ الكثيرين من الإسرائيليين الذين يُعتَبَرون غير مُتَدَينين بَدَؤوا أيضًا الانخراطَ في هذه الإيديولوجية القومية العرقية المتطرّفة على نحوٍ متزايد. ومنذُ هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، أصبح اليمين الإسرائيلي أكثر تطرُّفًا. وبالنسبة إليهم، وللعديد من الآخرين في إسرائيل، أثبتت مذبحة “حماس” أنه لا يمكن التوصُّل إلى تسويةٍ مع الفلسطينيين أو أنصارهم. ويرى هؤلاء المحافظون أنَّ إسرائيل تعيشُ في حالةِ حربٍ أبدية، ولا يمكن أن تتصوَّرَ السلام ــ دولةٌ أشبه بـ”إسبارطة مع قبّعةٍ يهودية”.
إنَّ هذا الموقف قد يتصلّبُ إلى إجماعٍ واسع النطاق بين اليهود الإسرائيليين ويُنتِجُ إسرائيل غير ليبرالية بالكامل، حيث تؤدّي الحربُ في غزة إلى التآكل الكامل للمعايير والمؤسّسات الديموقراطية التي أضعفها نتنياهو وحلفاؤه. لقد وَفَّرَت الحربُ بالفعل للحكومة ذريعةً لتقييد الحريات المدنية؛ على سبيل المثال، رَوَّجَت لجنة الأمن القومي في الكنيست أخيرًا لتشريعٍ سمحَ للشرطة إجراءَ عملياتِ تفتيشٍ من دون أوامر. كما كانت هناك زيادة في العنف الذي ترعاه الدولة ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية، ويُنظَرُ إلى نشطاء السلام الإسرائيليين بشكلٍ مُتزايدٍ على أنهم خونة. إنَّ إسرائيل التي يُهيمِنُ عليها اليمين المتطرِّف ستُصبحُ أكثر استبدادًا، مع تقييد الحريات المدنية، وخصوصًا حقوق النوع الاجتماعي. ستُمارِسُ الدولة تأثيرًا ضارًا على التعليم العام، مع استبدالِ الفهم المدني الشامل للديموقراطية الإسرائيلية بفَهمٍ أكثر قومية وغير ليبرالي.
إنَّ إسرائيل غير الليبرالية ستُصبحُ أيضًا دولةً منبوذة. لقد أصبحت إسرائيل بالفعل معزولةً على نحوٍ مُتزايد على المستوى الدولي، وتسعى العديد من المنظمات الدولية إلى اتخاذِ تدابير قانونية وديبلوماسية عقابية ضدّها. لقد وَجَّهَت قضيةُ الإبادة الجماعية في محكمة العدل الدولية ورأيها الأخير بشأن عدم شرعية الاحتلال، ومذكّرات الاعتقال التي أصدرتها المحكمة الجنائية الدولية بحقِّ نتنياهو ووزير الدفاع يوآف غالانت، والعديد من المزاعم ذات المصداقية بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات لحقوق الإنسان، ضربةً قويةً لمكانة إسرائيل العالمية. وحتى مع دعم الحلفاء الرئيسيين، فإنَّ التأثيرَ التراكُمي للرأي العام السلبي والتحدّيات القانونية والتوبيخ الديبلوماسي من شأنه أن يؤدّي بشكلٍ متزايد إلى تهميش إسرائيل على الساحة الدولية.
إنَّ إسرائيل غير الليبرالية سوف تظلُّ تتلقّى الدعمَ الاقتصادي من عددٍ قليلٍ من البلدان، بما فيها الولايات المتحدة، ولكنها سوف تكونُ معزولةً سياسيًا وديبلوماسيًا عن الكثير من بقية المجتمع العالمي، بما في ذلك معظم دول مجموعة السبع. وسوفَ تتوقّف هذه البلدان عن التنسيق مع إسرائيل في المسائل الأمنية، والحفاظ على اتفاقياتٍ تجارية مع إسرائيل، وشراء الأسلحة الإسرائيلية الصنع. ومن المرجَّح أن ينتهي الأمر بإسرائيل إلى الاعتمادِ كُلِّيًا على الولايات المتحدة وتُصبحُ عرضةً للتحوّلات في المشهد السياسي الأميركي في وقتٍ حيث يُشكّكُ المزيد والمزيد من الأميركيين في دعم بلادهم غير المشروط للدولة اليهودية.
إنَّ العقدَ الاجتماعي بين الدولة والمجتمع في إسرائيل مُعلَّقٌ حاليًا في الميزان. وإذا ما تمكّنَ نتنياهو وحلفاؤه من تحقيقِ ما يُريدون، فإنَّ الديموقراطية الإسرائيلية سوفَ تُصبِحُ جوفاءَ وإجرائية، مع تآكل الضوابط والتوازُنات الليبرالية التقليدية بسرعة. وهذا من شأنه أن يضعَ البلاد على مسارٍ غير مُستدامٍ من المُرجّحِ أن يؤدّي إلى هروبِ رؤوس الأموال وهجرة الأدمغة – وتعميق التوتّرات الداخلية.
إسرائيل المُنقَسِمة
مع تزايُدِ الاستبدادِ في إسرائيل، فإنَّ هذا التحوُّلَ غير الليبرالي لن يخفي الشقوقَ المُتزايدة داخل المجتمع الإسرائيلي. سوف تفقُدُ الدولة بشكلٍ متزايد احتكارها للاستخدام المشروع للقوة، وقد تشتعلُ الانقسامات إلى حدِّ حربٍ أهلية. وقد تُنذِرُ المواجهة العنيفة الأخيرة في مركز احتجاز “سدي تيمان”، حيث تمَّ اقتيادُ الجنود المُشتَبَه في اعتدائهم على أحد الإرهابيين من “حماس” للاستجواب، بما ينتظرُ الدولة العبرية في المستقبل. فقد هاجم جنودٌ احتياطيون ومدنيون، وحتى نائب برلماني من أقصى اليمين، الشرطة العسكرية داخل القاعدة، غاضبين من احتجازِ أفرادٍ عسكريين بسبب إساءة معاملتهم لسجينٍ فلسطيني. وفي المستقبل، قد تصبحُ مثل هذه الحوادث أكثر شيوعًا. وتشملُ العلاماتُ الأُخرى للتفتُّت الجاري بالفعل داخل جهاز الأمن الإسرائيلي نموَّ ميليشيات المستوطنين –المجموعات التي لم تكن الدولةُ راغبةً في قمعها على الرُغمِ من هجماتها العنيفة على الفلسطينيين—وحقيقةَ أنَّ الجنودَ أبلغوا بشكلٍ غير قانوني حراس أمن بوقف تسليم المساعدات الإنسانية إلى غزة.
وقد ينهارُ حُكمُ القانون في إسرائيل. إن إسرائيل قد تظلُّ دولةً اقتصادية فعّالة إلى حدٍّ ما. سوف تحمي الملكية الخاصة. وسوف تظل هناك جامعات ومستشفيات ونظامٌ تعليمي عام من نوعٍ ما. وسوف يظل الاقتصاد المُتطوّر ــالذي يشكّلُ جوهرَ ادّعاء إسرائيل بأنها “دولة ناشئة”ــ قادرًا على العمل لفترةٍ من الوقت. لكنَّ الدولة سوف تعملُ من دون سيادة القانون، بما يتماشى مع الديموقراطية الجوفاء التي يُفضّلها اليمين المتطرّف. وسوف يتحوّل الأمن إلى نظامٍ مُجزَّإٍ بلا إشرافٍ ولا قيادة موحَّدة، مع تآكلِ احتكارِ الاستخدام المشروع للقوة. وسوف تزعَمُ مجموعاتٌ مختلفة الحقَّ في ممارسة العنف، بما فيها ميليشيات المستوطنين المسلحين، والمدنيين الذين يتحالفون مع اليمين المتطرّف، وقوات الأمن القائمة.
إنَّ هذا المستقبل ليس من صنع الخيال العلمي المتشائم. فقد أدّى الصراع في غزة إلى تكثيفِ الانقسامات السياسية داخل البلاد، وخصوصًا بين الجماعات اليمينية التي تدعو إلى اتخاذ تدابير عسكرية وأمنية متطرّفة تتجاهَلُ القانون الإنساني الدولي تمامًا، وبين الجماعات الأخرى التي تدعو إلى اتباعِ نهجٍ أكثر تصالحية تجاه الفلسطينيين. كما أدّت الحرب إلى تعميقِ الانقسامات بين اليهود العلمانيين والمُتدَيِّنين. وقد أدى الجدل الرئيس داخل إسرائيل بشأن ما إذا كان ينبغي إجبار اليهود المتشدّدين المُتدَينين على الخدمة في الجيش ــكما هو الحال مع جميع الإسرائيليين الآخرينــ إلى تأجيجِ هذه التوتّرات. فقد قضت المحكمة العليا الإسرائيلية أخيرًا بأن الحكومة لا تستطيع تجنُّب تجنيد اليهود المُتشددين، ولا بُدَّ وأن تمتنع عن تمويل المدارس الدينية التي لا يلتحق طلابها بالمؤسسة العسكرية وفقًا لما تقتضيه القوانين القائمة ــ وهو القرار الذي حفّزَ محاولات إحياء تشريعات الإصلاح القضائي.
من الممكن أن يُنذِرَ هذا الضعف للسلطة المركزية للدولة بتفكُّكٍ أكثر إثارة للصدمة. إنَّ الحكومة الإسرائيلية لن تكونَ قادرةً على الوفاء بأيٍّ من مسؤولياتها السياسية التقليدية الأخرى، بما في ذلك توفير الأمن ونظام تشريعي مستقر للحكم يضمن المساءلة. كما إنَّ وجودَ مجموعات أمنية متنافسة وإشراف برلماني مُتراخٍ من شأنه أن يُضعِفَ الردع الأمني الإسرائيلي الشامل ويُقوّضَ أيَّ نظامٍ متماسك للحكم في المؤسسة الأمنية الإسرائيلية. وفي ظل هذه الظروف فإنَّ إسرائيل قد تكون على خلافٍ مع نفسها. فقد تتحوّلُ إلى كيانٍ مُقَسَّمٍ إلى أجزاء، حيث تعمل العناصر اليمينية الدينية والقومية على بناءِ دولتها الفعلية، على الأرجح في مستوطنات الضفة الغربية. أو قد تشهد إسرائيل تمرّدًا للمتطرّفين الدينيين والقوميين المتطرفين، الأمر الذي من شأنه أن يُقسِّمَ إسرائيل في حرب أهلية عنيفة بين اليمين الديني المسلح وأجهزة الدولة القائمة. وفي غياب الحرب الأهلية فإن هذا الوضع سوف يظل غير مستقر، وسوف ينهار الاقتصاد، الأمر الذي يجعل إسرائيل دولة فاشلة.
طريقٌ بعيدًا من الفوضى
إنَّ ثقلَ الأحداثِ والقوى السياسية السائدة يدفعُ إسرائيل في هذه الاتجاهات الخطيرة. فهي تتحوّلُ إلى دولةٍ لا يعرفها مؤسّسوها. لكنها لا تحتاجُ إلى السير في هذا الطريق. لتجنُّبِ هذه النتائج، تحتاج إسرائيل إلى استعادة الاستقرار السياسي في البلاد من خلالِ دَعمِ أُسُسها الدستورية، وتعزيزِ سيادةِ القانون، والوصولِ إلى تسويةٍ دائمةٍ للصراع مع الفلسطينيين، وتعزيزِ مكانتها في المنطقة.
يتعيَّن على إسرائيل أن تُنشِئَ لجنةً دستوريةً مُستَقلّة لمُعالجةِ عدمِ الاستقرارِ السياسي في البلاد وتوفيرِ أساسٍ مَتينٍ لمُستَقبلِ الديموقراطية الإسرائيلية. وسوفَ تحتاجُ اللجنة إلى صياغةِ دستورٍ لن يكونَ من السهلِ تغييره مثل القوانين الأساسية ــالقوانين الأربعة عشر التي تُشَكِّلُ في مجموعها أقربَ شيءٍ إلى الدستور في إسرائيل ــ وسوف يتعيّنُ عليها أن تلتزمَ بالقِيَمِ الإنسانية الأصلية التي قامت عليها الدولة. وقد أُنشِئِت مثل هذه اللجنة في الماضي، وسوف يتطلّب إحياؤها تعاونًا كبيرًا بين ما تبقّى من الوسط السياسي، واليسار السياسي، والأحزاب السياسية العربية الإسرائيلية. ومن المُثيرِ للاهتمامِ أنَّ يوآف غالانت، وزير الدفاع الإسرائيلي الحالي، دعا إلى أن يكونَ إعلانُ استقلال إسرائيل هو النصّ الأوّل في مثل هذه الوثيقة الدستورية.
كما تحتاجُ إسرائيل إلى فَرضِ سيادةِ القانونِ بشكلٍ أفضل داخل إسرائيل وفي الضفة الغربية، ما يعني أنَّ الدولة لم تَعُد قادرةً على التسامُحِ مع العنف الذي يُمارسهُ المستوطنون تجاه الفلسطينيين. علاوةً على ذلك، يجب أن ينتهي الاحتلال العسكري للفلسطينيين، ويجب الشروعُ في عمليةِ سلامٍ مُلزِمةٍ تشملُ مفاوضين مُحايدين من أطرافٍ ثالثة. وعلى الأقل، يجب على إسرائيل الالتزام بمعالجة الرأي الأخير لمحكمة العدل الدولية بشأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية.
ولضمانِ الاستقرارِ الداخلي بشكلٍ أفضل، تحتاجُ إسرائيل إلى إضفاءِ الشرعية على مكانتها في الشرق الأوسط، والبناءِ على المكاسِب التي تحقّقت في اتفاقيات أبراهام وتعزيز العلاقات مع المملكة العربية السعودية وغيرها من الأنظمة في المنطقة. ولحمايةِ علاقاتها مع دول مجموعة السبع والمجتمع الدولي الأوسع، يجب على إسرائيل أن تؤكّدَ التزامها بالقانون الدولي، بما في ذلك من خلال جعل العمليات العسكرية أكثر شفافية، وضمان المُساءلة عن أيِّ انتهاكاتٍ للقانون الدولي، والتصديق على نظام روما، الذي أنشأ المحكمة الجنائية الدولية في العام 2002.
إنَّ الخطواتَ الموصوفة أعلاه قد تُواجِهُ مُعارَضةً لا يُمكِنُ التغلُّبُ عليها في إسرائيل، لكن هذه المُعارضة لن تؤدّي إلّا إلى تأكيد مخاوفنا بشأنِ مستقبل إسرائيل. من المؤكّد أنَّ إسرائيل تواجهُ أعداءً حقيقيين وخطرين، مثل “حماس” وإيران، مذنبين بانتهاكات حقوق الإنسان. لكن المسار الذي تسلكه إسرائيل ليس مسارًا رابحًا وجيدًا. ففي مسارها الحالي، قد تتحوّلُ الدولة إلى شيءٍ من شأنهِ أن يُدَمّرَ الرؤية اليهودية الإنسانية التي ألهمت العديد من مؤسّسيها وأنصارها في جميع أنحاء العالم. لم يَفُت الأوان بعد على إسرائيل لإنقاذ نفسها من زوالها وإيجادِ طريقٍ آخر للمضي قُدُمًا.
- إيلان بارون هو أستاذ السياسة الدولية والنظرية السياسية والمدير المشارك لمركز دراسة الثقافة والمجتمع والسياسة اليهودية في جامعة “دورهام” البريطانية.
- إيلاي سالتزمان هو أستاذ مشارك في الدراسات الإسرائيلية ومدير معهد جوزيف وألما جيلدنهورن للدراسات الإسرائيلية في جامعة مريلاند الأميركية.
- يَصدُرُ هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازيًا مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.