الأردن، بينَ سَيفِ “ديموقليس” الإسرائيلي و”مِحوَرِ المُقاومة” الإيراني

العدوان الإسرائيلي على قطاع غزة والقمع المستمر في الضفة الغربية يضع الأردن في موقفٍ لا يُحسَدُ عليهِ مع ضغوطٍ من كُلِّ صوب.

مظاهرة حاشدة في عمّان ضد استيراد الغاز من إسرائيل.

محمد أبو هواش*

ينظُرُ كلٌّ من حكومة وشعب الأردن إلى الحرب الإسرائيلية المستمرّة على قطاع غزّة كتهديدٍ وجودي. على الرُغمِ من الاتهاماتِ المُحِقّة بارتكابِ إبادةٍ جماعيةٍ ضدّ الفلسطينيين، يُطيلُ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أمَدَ العدوان ويوسّعه ويُصَعّده، ما يزيدُ الضغوط على الأردن المجاور. من النزوحِ القسري المُحتَمَل للفلسطينيين من الضفّة الغربية، والتهديدِ بحربٍ إقليمية، إلى الاعتماد على إسرائيل في قطاع الطاقة والمياه، والاستياء الشعبي من قرار الحكومة بالحفاظ على العلاقات الثنائية، يواجه المسؤولون في عمّان عوامل مُتضاربة عدة قد تُزعزِعُ الاستقرار إذا لم يتم التعامل معها بدقة وبرؤيةٍ طويلة المدى.

التهديدات الخارجية

قَلَقُ الأردن وغضبه من سلوكِ إسرائيل مُبرَّر. في حين أثارت سياسات الحكومات الإسرائيلية المُتعاقبة قلقًا في عمّان في السنوات الأخيرة، أوصلت حكومة نتنياهو الأمور إلى مستوى جديد. تحت غطاء حملتها العسكرية المدمّرة في قطاع غزّة، اتخذت حكومة تل أبيب خطواتٍ غير مسبوقة لتعزيز قبضتها على الضفّة الغربية من خلال سياسات الضمّ. وتسبّبت بأكثر عامَين دمويةً بالنسبة إلى الفلسطينيين منذ عقود، ودفعت السلطة الفلسطينية إلى حافة الانهيار، وهجّرت قسرًا العديد من القرى، وسمحت للمستوطنين اليهود المتطرّفين بالاعتداء على المجتمعات الفلسطينية. في الأسابيع التي أعقبت السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ألقى المستوطنون الصهاينة منشوراتٍ في قرى الضفة الغربية تُحذّرُ السكّان وتدعوهم إلى الهرب نحو الأردن أو مواجهة الطرد الجماعي أو الموت.

خلقت هذه الأحداث والإجراءات مخاوفَ من إحياء المُخطّط الإسرائيلي السابق لتحويل المملكة الأردنية الهاشمية إلى “وطنٍ بديل” للفلسطينيين، أي العودة إلى خيار “الأردن هو فلسطين”. أمّا العناصر المتطرّفة، التي تدعو إلى تدمير الحرم الشريف في القدس وبناء “الهيكل الثالث” في مكانه، فقد انتقلت من هامش السياسة الإسرائيلية وأصبح لديها أعضاء أقوياء في الحكومة الحالية. وبما أنَّ العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني هو الوصي على الأماكن المقدّسة الإسلامية والمسيحية في القدس، فإنَّ هذه المخططات تُشَكّلُ استفزازات للأردن والأمتين العربية والإسلامية. كما إنها تضعُ عَمّان في موقفٍ متوتّرٍ وصعب.

وفي الوقت نفسه، يجد الأردن نفسه في موقفٍ صعب إقليميًا نتيجةَ الحشدِ العسكري ولو بشكل جُزئي، لـ”محور المقاومة” بقيادة إيران من أجل مواجهة إسرائيل. وباعتباره حليفًا وثيقًا للولايات المتّحدة ولديه علاقات قديمة مع إسرائيل، يُخاطِرُ الأردن بالوقوعِ في مرمى النيران المُتبادلة ما بين الجهتين. لقد رسمَ الأردن خطًّا واضحًا بينه وبين المحور من خلال استخدامِ أراضيه لإحباط الهجمات على إسرائيل التي شنّتها إيران ردًا على هجوم إسرائيل على السفارة الإيرانية في دمشق، ولكنّه ينخرطُ أيضًا بمحادثات مباشرة مع إيران لثنيها وحلفائها عن التعدّي على السيادة الأردنية مُجدّدًا. في نيسان (أبريل) الماضي، أعلنت الميليشيات العراقية المُرتبطة بالمحور عن خططٍ لتجنيد 12 ألف مقاتل داخل الأردن وتسليحهم استعدادًا لمواجهةٍ أوسع مع إسرائيل. كما شاركت سوريا في أنشطةٍ تُهَدّدُ الأردن كاستخدامِ أراضيه لتهريب الأسلحة والمخدّرات غير المشروعة.

ولتجنُّبِ خسارة مكانته في المنطقة، يريدُ الأردن صَدَّ اتهامات المحور الذي يعتبره متواطِئًا في جرائم الحرب الإسرائيلية ضدّ الفلسطينيين، أو في دعم الولايات المتّحدة لها. ويستخدم المحور استمرار علاقة الأردن مع إسرائيل لتبرير عمليات التهريب والتجنيد السرّية في المملكة.

لكنَّ التهديدَ باندلاعِ حربٍ إقليميةٍ شاملة يلوحُ في أفُقِ الأردن، الذي سيواجهُ صعوبةً في التهرّب من التداعيات بسبب موقعه الجغرافي بين إسرائيل وإيران. بعد أيامٍ على اغتيال إسرائيل لفؤاد شكر وإسماعيل هنية، الزعيمين البارزين في “حزب الله” و”حماس”، أرسلت عَمّان وزير الخارجية أيمن الصفدي إلى طهران لحثّها على توخّي الحذر والتأكيد على رفضِ الأردن لأيِّ انتهاكٍ لسيادته.

أحدُ أهمِّ العوامل التي تربُطُ الضغوطَ الخارجية والداخلية على الأردن هو اعتماده المتزايد على إسرائيل في الواردات الإستراتيجية، أي المياه والغاز الطبيعي. منذ توقيع اتفاقية السلام بينهما في العام 1994، وافقت إسرائيل على بيع الأردن 50 مليون متر مكعب من المياه سنويًا بسعر ثابت. في العام 2021، وافق رئيس الوزراء الإسرائيلي البديل آنذاك يائير لبيد على مضاعفة كمّية المياه المُباعة للأردن سنويًا، وهو الترتيب نفسه الذي وافقت الحكومة الحالية على تمديده حتى نهاية العام 2024. وتُسلِّطُ نهايته الوشيكة سيفَ “ديموقليس” فوقَ رؤوس المسؤولين في عمّان، الأمر الذي يجب أن يدفع المملكة لإعادة النظر في الاعتماد على تل أبيب لتزويد المملكة بهذه الواردات المهمة.

يعتمدُ الأردن أيضًا على إسرائيل لتوفير 40 في المئة من حاجاته من الغاز الطبيعي من خلال خطّ أنابيب الغاز المُتّصِل بحقلِ “ليفياثان” في البحر الأبيض المتوسّط. في الشهر الفائت، أعلن وزير الطاقة الإسرائيلي إيلي كوهين عن خططِ إسرائيل لمُضاعفةِ صادراتها من الغاز إلى الأردن ومصر “لتعزيز العلاقات الديبلوماسية”.

ولكن من منظورِ الشعبِ الأردني، فإنَّ زيادةَ واردات الغاز من حقل “ليفياثان” تُعَمِّقُ النفوذَ الإسرائيلي على عمّان. ولهذا السبب يُعارضُ الشعبُ الأردني بشدّة استمرار التنسيق مع إسرائيل بشأنِ المياه أو الطاقة، ويخشى أن تقطع إسرائيل هذه الموارد يومًا لِلَيِّ ذراعِ عَمّان.

تبرزُ نقطةُ ضغطٍ أخرى وهي عمليّات وكالة الأمم المتّحدة لإغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين (الأونروا)، التي لها دورٌ كبيرٌ داخل الأردن وتتعرّضُ لضغوطٍ مالية شديدة منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر). وعلى الرُغمِ من أنَّ غالبيةَ الفلسطينيين المقيمين في الأردن تحمل الجنسية الأردنية، تواصل الأونروا دعم ملايين الفلسطينيين في المملكة عبر تقديم خدمات التعليم والرعاية الطبّية وغيرها. وهي أيضًا واحدة من أكبر جهات التوظيف في المملكة.

منذ السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، صعّدت إسرائيل حربها على الأونروا، وتسبّبت في أزمةِ تمويلٍ بعد أن علّقت 16 دولة تمويل الوكالة، ما زادَ الضغوط الاقتصادية والاجتماعية المحلّية داخل الأردن. وعلى الرُغم من أنَّ جميعَ الدول المانحة، باستثناءِ الولايات المتّحدة، استأنفت التمويل منذ ذلك الحين، شكّل هذا الحادثُ سابقةً خطيرةً اضطرَّ الأردن إلى التعامل معها. في الأشهر الأخيرة، بذل الملك عبد الله الثاني جهودًا كبيرة لحشد الدعم للأونروا، بما في ذلك جمع 150 دولة ومنظّمة دولية في البحر الميت لزيادة التمويل والدعم الديبلوماسي للوكالة.

العلاقات الأردنية الإسرائيلية والانتخابات المُقبلة

وسط التدمير الإسرائيلي المستمرّ لقطاع غزّة، ارتفعت حدّة خطاب المسؤولين الأردنيين تجاه الدولة العبرية إلى مستوى غير مسبوق منذ المحاولة الفاشلة لنتنياهو لاغتيال القيادي في “حماس” خالد مشعل في عَمّان في العام 1997. في حينها، هدّد الأردن بإلغاءِ اتفاقية السلام مع إسرائيل، وإغلاقِ السفارة الإسرائيلية وإحالةِ عملاء الموساد المُعتقلين إلى محكمة عسكرية مُتلفزة. واليوم، كما في العام 1997، قرّرت القيادةُ الأردنية خفضَ مستوى العلاقات مع إسرائيل، وهدّدت حتّى بقطع العلاقات الديبلوماسية إذا هُجِّرَ الفلسطينيون جماعيًا من قطاع غزّة أو الضفّة الغربية. ويدعَمُ الأردن أيضًا جنوب أفريقيا في دعوى الإبادة الجماعية التي قدّمتها ضد إسرائيل أمام محكمة العدل الدولية. لكنه لم يقطع العلاقات بالكامل مع إسرائيل ويستمرّ في شراء الطاقة والمياه منها.

وحتى قبل الحرب، عارض 94 في المئة من الأردنيين اعترافَ بلادهم بإسرائيل واستمرار العلاقات الرسمية معها. وهذا يضعُ المشاعر العامّة في تناقُضٍ مباشر مع قرار الحكومة بالالتزام بمعاهدة “وادي عربة”، التي حدّدت شروط السلام بين إسرائيل والأردن. وقد اشتدّ هذا التوتر منذ بدأت إسرائيل الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، فاحتشدَ الأردنيون من مختلف الأطياف السياسية اعتراضًا. ويجتمع اليساريون والإسلاميون وزعماء العشائر تحت رايةٍ واحدة ويُنسّقون العمل من خلال “الملتقى الوطني”، الذي أُنشِئ في العام 2022، ومن أهدافه المُعلنة “دعم المقاومة وحماية الوطن”.

ومع اقترابِ الانتخابات البرلمانية المُزمَع إجراؤها في أيلول (سبتمبر) المقبل، من المتوقّع أن يشتدَّ النقاشُ العام بشأنِ موقف الأردن من إسرائيل وفلسطين. ومن المؤكّد أنَّ الائتلافَ الفائز، بمعزلٍ عن موقفه الإيديولوجي، سيدخلُ إلى البرلمان بوعودٍ كبيرة للدفاع عن القضية الفلسطينية. ولكن سرعان ما ستتعرّضُ الحكومة الأردنية لصدمةٍ قاسية نظرًا للخيارات المحدودة المُتاحة لها بسبب النفوذ الكبير الذي تتمتّع به إسرائيل على إمدادات المياه والكهرباء في البلاد، فضلًا عن الضغوطِ الأميركية.

إنَّ إلغاءَ اتفاقية السلام مع إسرائيل التي دعا إليها الكثير من الأردنيين ردًّا على الإبادة الجماعية في قطاع غزّة، قد يؤدّي إلى نقصٍ كبيرٍ في إمدادات المياه في الأردن. عدا عن أنَّ رفضَ استيراد الغاز قد يُحيلُ الأردن إلى القضاء الدولي لأنَّ مزوّدَ الكهرباء الرئيس في الأردن، أي شركة الكهرباء الوطنية (NEPCO)، وقّع اتفاقية مُلزِمة لشراءِ الغاز من حقلِ “ليفياثان” الإسرائيلي لمدة 15 عامًا، أو حتى العام 2030. وبالتالي، سيفشلُ البرلمان المُقبل بالتأكيد في إحداثِ تغييرٍ مُجدٍ في العلاقة مع إسرائيل في المدى القصير، مما سيؤدّي إلى زيادة خيبة الناس.

مع ذلك، في الأمد البعيد، يُمكِنُ للأردن أن يتّخذَ خطواتٍ للحَدِّ من نفوذِ إسرائيل على إمدادات المياه والكهرباء في المملكة. وهو يعملُ بالفعل على بناءِ منشأة ضخمة لتحليةِ المياه لتلبيةِ الارتفاع المُتَوَقّعِ في الطلب. وتخطّطُ الحكومة أيضًا لبناءِ محطّةٍ للطاقة النووية قد تلغي الحاجة إلى استيراد الغاز من إسرائيل بعد انتهاءِ مدّة الاتفاقية الحالية.

إنَّ تحقيقَ الاستقلالية في مجال المياه والطاقة سيُقلّصُ نفوذَ إسرائيل على الأردن، ويُمَكِّنُ عَمّان من العملِ بثقةٍ أكبر على الساحتين الإقليمية والعالمية. وهذا يتطلّبُ اتخاذَ إجراءاتٍ لتأمينِ مستقبل المملكة. لكن إلى حينه، من المرجّح أن يُواصِلَ الديبلوماسيون الأردنيون العملَ بتوازُنٍ ما بين الجهات المختلفة في المنطقة.

  • محمد أبو هواش هو باحثٌ مساعد أول في مجلس الشرق الأوسط للشؤون الدولية. وكان يعمل سابقًا في قسم التواصل والإعلام في سفارة المملكة الأردنية الهاشمية في واشنطن، حيث أجرى بحوثًا حول الجغرافيا السياسية في الشرق الأوسط ودعم مبادرات الديبلوماسية العامة الرسمية للأردن في أنحاء الولايات المتحدة كافة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى