لبنان: العَقدُ الاجتماعي الطائفي الذي وَحَّدَ البلاد على مرِّ العصور تمَّ تقويضُهُ
مايكل يونغ*
في رحلتهِ الأخيرة إلى بيروت، أعلن المبعوث الرئاسي الفرنسي، جان إيف لودريان، الذي يُحاوِلُ حَلَّ مسألة الفراغِ الرئاسي في لبنان المستمر منذ عامين تقريبًا، أنه إذا لم تَنتَخب البلاد رئيسًا للجمهورية بحلول تشرين الثاني (نوفمبر)، فستكون لديه حينها مخاوف بالنسبة إلى استمرارِ وجودِ لبنان السياسي.
لو دريان مُحِقٌّ في قلقه، لكن مخاوفه تأتي مُتأخّرة. لجميع المقاصد والأغراض، لم يَعُد العَقدُ الاجتماعي الطائفي الذي أبقى لبنان مُوَحَّدًا لمدة قرن تقريبًا ذا معنى بالنسبة إلى العديدِ من المجتمعات. تعملُ البلادُ بطريقةٍ تلقائية، حيث تستمر الطبقة السياسية في حُكمِ بؤرٍ استيطانية طائفية، مع عَدمِ الاهتمام بحلِّ مشاكل لبنان، ناهيك عن تعويض مئات الآلاف من الأشخاص الذين فقدوا مُدَّخرات حياتهم في الانهيار المالي لعام 2019.
إنَّ عدمَ قدرةِ البرلمان والسياسيين في لبنان على الاتفاقِ على رئيسٍ للجمهورية هو علامةٌ على الانهيارِ الذي حَدثَ فعليًّا أكثر من كونه نذيرًا لوَضعٍ قد يحدُثُ في المستقبل. والسبب الرئيس وراء ذلك هو أنَّ الدولة اللبنانية تتعايشُ بشكلٍ غير مُريح مع ميليشيا مُسَلّحة طائفية، “حزب الله”، الأكثر تماسُكًا من الحكومة المركزية الضعيفة، والتي ولاؤها الأساسي لقوّةٍ خارجية (إيران).
مع فَرضِ “حزب الله” أولويّاته على الطوائف اللبنانية الأُخرى، فقد أثارَ شكوكًا واسعة النطاق حولَ استمرارِ العَقدِ الاجتماعي الطائفي. في العام 2019، قامَ الحزب بحمايةِ الطبقةِ السياسية التي نهبت البلاد، خوفًا من أنه إذا نجحَ السكانُ في الإطاحة بالزعماء الطائفيين، فإنَّ ذلك من شأنه أن يُقَوِّضَ أدوات “حزب الله” للسيطرة على النظام السياسي.
كما عرقلَ “حزب الله” أيضًا التحقيق في ما ربما كان أسوأ جريمة في تاريخ لبنان، عندما انفجرت نيترات الأمونيوم في مرفَإِ بيروت في آب (أغسطس) 2020، ما أدّى إلى تدميرِ جُزءٍ كبيرٍ من العاصمة. وعندما اقتربَ التحقيقُ كثيرًا من الحزب وشركائه، أظهر الثُنائي الشيعي، “حزب الله” وحركة “أمل”، أنه على استعدادٍ لإثارةِ حربٍ أهلية طائفية إذا مضى التحقيق قُدُمًا.
في تشرين الأول (أكتوبر)، بعدَ يومٍ واحدٍ من مهاجمة “حماس” بلدات ومستوطنات وقواعد إسرائيلية بالقرب من غزة، فَتَحَ “حزب الله” جبهةً ضدّ إسرائيل من جنوب لبنان. وقد أدّى ذلك إلى دمارٍ واسع النطاق في قرى جنوب لبنان، لكن لم يَتَحَدَّ أحدٌ تقريبًا الحزب لأنه جرَّ لبنان إلى حربٍ كان ينبغي له تجنُّبها.
وأخيرًا، والأكثر دلالة، رَفَضَ “حزب الله” وحلفاؤه السماح بانتخاب رئيس ماروني غير المُرشّح الذي يؤيدونه، سليمان فرنجية، الذي لا يحظى بدعمٍ كبيرٍ داخل طائفته. بمعنى آخر، انتَحَلَ حزبٌ شيعي الآن حقَّ فَرضِ ماروني يرفضه معظم الموارنة. وفي نظامٍ طائفي، من المُحتمل أن تكون هذه الغطرسة محفوفة بالمخاطر للغاية.
ليس من المفاجئ إذن أن تبدو غالبية الموارنة اليوم غير مُتعاطفة مع الدولة. الحديثُ عن إدخالِ نظامٍ سياسيٍّ جديد في لبنان منتشرٌ بين الموارنة، حيث يدعو البعض إلى اللامركزية الإدارية، والبعض الآخر إلى الفيدرالية، بينما يدعو البعض الثالث علنًا إلى التقسيم. ويبدو أنَّ القليل منهم لديه أي ارتباط بالدولة الوحدوية المُختَلّة إلى حدٍّ كبير والتي بالكاد تبقى على قيد الحياة.
مع ذلك، في قلب هذا السخط هناك مشكلة أخرى. لقد تأسست الجمهورية اللبنانية الثانية بعد “اتفاق الطائف”، الذي أدخلَ تعديلاتٍ دستورية كانت بمثابة الأساس لدستورٍ جديدٍ بعد آب (أغسطس) 1990. ومنحت هذه التعديلات صلاحيات كبيرة لرئيس الوزراء السنّي ورئيس البرلمان الشيعي على حساب رئيس الجمهورية الماروني، الذي تمَّ تقليصُ صلاحياته. في حين كان ذلك ضروريًا في ضوءِ التحوّلات الديموغرافية في لبنان، إلّا أن الكثيرين من الموارنة اعتبروا الطائف بمثابة هزيمة لطائفتهم.
منذ رحيل الرئيس الأخير ميشال عون من قصر بعبدا، تمَّ استخدامُ الطائف وتشويهه والإساءة إليه بطريقةٍ لم يَعُد بمثابة الأساس الذي يمكن إعادة بناء الدولة عليه. لقد جعلَ كلٌّ من رئيس مجلس النواب ورئيس حكومة تصرف الأعمال الوضع أسوأ.
تجاهل رئيس مجلس النواب نبيه بري، وهو حليفٌ بارز ل”حزب الله” ويدعم فرنجية، أحكامًا دستورية واضحة تُجبِرهُ على إبقاءِ البرلمان مُنعَقِدًا حتى يتمّ انتخابُ رئيسٍ للجمهورية. بدلًا من ذلك، اقترحَ إجراءَ حوارٍ وطني حول الرئاسة، الذي سيقوده بنفسه، من أجلِ إجراء تصويتٍ برلماني لاختيارِ مُرشَّحٍ مُتَّفَقٍ عليه مُسبَقًا. ولا يوجدُ أيُّ أساسٍ في الدستور لهذا الابتكار غير الديموقراطي.
بالمثل، استمر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي في إدارة الحكومة في غيابِ رئيسٍ للجمهورية. وفي حين أنَّ الحكومة لا تستطيع العمل إلّا بصفة تصريف أعمال في غيابِ رئيسِ حمهوريةٍ مُنتَخَب، فقد فسّرَ ميقاتي هامش مناورته على نطاق واسع. فهو يدير البلاد على النحو الذي أشار ضمنًا إلى أنَّ ملءَ الفراغِ الرئاسي ليس ضروريًا على الإطلاق.
لقد أدّى سلوكُ بري وميقاتي إلى تنفير العديد من المسيحيين. والأخطر من ذلك هو أنَّ كلا الرجلَين، من خلال إعادة تفسير دستور الطائف بشكلٍ جذري وغير مُبَرَّر، والذي يُبقي رئيس الجمهورية لاعبًا محوريًا في النظام، يقوِّضان أسسَ ما تبقّى من نظامٍ سياسي توافُقي.
قد لا يكون لدى برّي مشكلة في هذا الأمر، حيث أنّ الحزبين الشيعيين يرغبان بالتأكيد في إعادة صياغة الدستور لصالحهما. ولكن من المؤكد أن ميقاتي، وهو سنّي، يُضغَطُ عليه لفِعلِ ذلك. ومع تآكل الطائف، يتمّ تقويضُ النصّ الذي أعطى رئيس الوزراء السني سلطةً كبرى في النظام.
وإذا لم يعد الطائف يخدمُ كأساسٍ مقبولٍ لإحياء الدولة اللبنانية المُحتَضِرة، فإنَّ لبنان سوف يتفتّت أكثر، مع تزايد احتمالات اشتعال العنف.
- مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @BeirutCalling
- كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وترجمه إلى العربية قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.