العِراقِيُّ الغامِض
قراءة متأخرة في عقل صدام حسين
(4)
المُرَبِّي
سليمان الفرزلي*
فِكرَةُ “المُرَبِّي” كانت “هاجسَ” صدّام حسين، قبلَ تَسَلُّمهِ الحكم من أحمد حسن البكر، الرئيس الرابع للجمهورية العراقية، في سنة 1979، وطوال فترة رئاسته، حتى إعدامه شنقًا في 30 كانون الأول (ديسمبر) 2006.
والشاهِدُ على ما نقول، محاضرُ جلساتِ “مجلس قيادة الثورة”، أو مجلس الوزراء، التي أوردها ستيف كول في “فخ أخيل” نقلًا عن الوثائق الرسمية المنقولة من بغداد إلى واشنطن، التي بدأت الإدارة الأميركية وضعها في التداول.
من القراءة المُتأنّية لتلك الوثائق، تتشكّلُ وتَظهَرُ صورةَ “صدّام حسين المُرَبِّي”، فخلال تلك الاجتماعات، كانَ كَمَن يُلقي دروسًا في أُصولِ الحُكمِ على تلاميذه. وفي الصور التي كانَ يبثُّها التلفزيون العراقي، عن اجتماعاتِ مجلس الوزراء، ويُكرّرها في نشراته الإخبارية، كانَ الوزراءُ ينكبُّون باهتمامٍ على تسجيلِ ما يقوله “الرئيس–المُعَلِّم” على أوراقٍ أمامهم، كما يفعلُ طلّاب الجامعات خلال المحاضرات.
إنَّ “هاجِسَ المُرَبِّي”، في شخصيةِ صدّام حسين، هو ردُّ فعلٍ ناقدٍ، ومعترضٍ، على بيئة خاله ومُرَبيهِ الأوّل، منذ أن كان طفلًا، حتى بلوغه الحلم والصبا، وهي بيئةٌ مشوَّهةٌ ثقافيًا وفكريًا. وقد أدرك صدام حسين، في قرارة نفسه، أنَّ التأسيسَ الركيك في ثقافته الابتدائية، التي كوَّنت شخصيته الثقافية، من الصعبِ بمكانٍ تصحيحه عندما كبرَ وبلغَ سنَّ الشباب، وهذه مأثرةٌ تُحسَبُ له، وإن كانَ النجاحَ لم يحالفه كما يجب، فراحَ، بمهارةٍ وحنكة، يحوِّل ذاك النقص إلى “غموضٍ” أُشكِلَ على المُقرَّبين منه والأبعدين.
لهذا كله، لم يتمكّن الذين تناولوا صدام حسين في كُتُبِهم، عربًا كانوا أم أجانب، وأشبعوه تحليلًا وتعليلًا، من الكَشفِ عمّا استترَ من شخصيةِ الرجل، إنما قاربوه من ” شخصيته المُعدَّلة” في طريقه إلى السلطة أو حتى خلال تمسّكه بها.
والعلّة الكامنة في تلك المحاولات، التي كثرَ تعدادها، أنها، كلُّها، حاولت تفسير ما هو غير قابلٍ للتفسير في عقلِ صدّام حسين، وأفعاله، وتصرّفاته، وخططه السياسية.
لذلك، فإنَّ النقصَ الذي عاشه في بيئة خاله وهو فتى، جعله يتّخذُ لنفسه، وهو في السلطة، صفةَ “المُرَبِّي” مُسقِطًا علّة تلك البيئة، من خلال تجربته الشخصية، على العراقيين أجمعين، إلى درجةٍ أنه ابتكرَ أُسلوبًا تربويًا فريدًا كان مُقتنعًا به كلَّ القناعة، وهو على الرُغم من ثغراته وضيق الوقت في تسريعه، يبقى مأثرةً أخرى تُسَجَّلُ له في تاريخ العراق الثقافي.
إذا كان برنامج محو الأمّية في العراق لم يَحظَ بفرصةٍ كاملةٍ لكي يأتي بالثمار المرجوة، بسبب الحرب مع إيران، إلّا أنَّ مشروعه التربوي الأهم، كان “جعل الصغار يُربُّونَ الكبار”، أي تدريب تلاميذ المدارس على عاداتٍ جديدة، يفرضونها بالممارسة على أهاليهم، لكن هذا المشروع لم يلقَ اهتمامَ أصحابِ الشأنِ في المدارس.
هاتان المُحاولتان تُحسَبان في رصيدِ صدّام حسين الإيجابي، على الرُغمِ من إخفاقهما في التحوّلِ الاجتماعي في العراق إلى ألأفضل.
أسرُدُ، هنا، بعضَ الشواهد التي عشتُها بنفسي في مطلع ستينيات القرن الماضي، عندما عملتُ مدرِّسًا لطلّاب المرحلة المتوسطة والثانوية في مدينة “العمارة”، جنوب العراق، على زمن حكم الزعيم عبد الكريم قاسم، ووزير المعارف في حكومته العقيد إسماعيل عارف.
بَعدَ انتهاءِ حصصهم، كان الأساتذة يتجمّعون في قاعةٍ للاستراحة مُخَصَّصة لهم، قبل استئناف الحصص التعليمية التالية، فيأتي نادلٌ يحملُ إبريقَ ماءٍ من الألومنيوم، وبيده كوبٌ واحدٌ يطوفُ به عليهم ليشرب منه كلّهم. لم يكن مشهدًا مُريحًا أن ينتقلَ هذا الكوب على شفاهِ عشرين أستاذًا هم نُخبة في مجتمعهم. وقد أعطيتُ ملاحظةً للزملاء العراقيين حول الموضوع، وقلتُ لهم إننا في مدارسنا الابتدائية في لبنان، كانوا يُعلّموننا أصولَ العناية الصحّية، فيُحظّرونَ علينا الشربَ من كوبِ غيرنا، أو تنشيفَ وجهنا بمنشفةٍ ليست لنا، أو أن نأكلَ بملعقةِ غيرنا، أو أن نُنظّفَ أسناننا بفرشاةِ غيرنا، وإلى ما هنالك من وصايا صحّية…
قلتُ ذلك لأنني أردتُ أن أقدّمَ لهم تفسيرًا لامتناعي الدائم عن مشاركتهم شرب الماء بهذه الطريقة خلال الاستراحة.
فانبرى للرَدِّ على ما أبديته، زميلٌ منهم له ميولٌ شيوعية معروفة، ويحملُ فكرًا تقدّميًا، وحديثه مُمتعٌ ذكيٌّ وظريف، فقال لي: “يا أستاذ، إنَّ شُربَ الماءِ من كوبٍ واحدٍ هو آخر اهتماماتنا، فنحنُ في العراق لدينا مشاكل ومصاعب أهم من ذلك بكثير”!
من بابِ الإنصاف، وإحقاق الحق، يجب القول بأنَّ صدّام حسين حاولَ أن يطرقَ هذا الموضوع من خلال التربية، بصفته “المُرَبّي الأول”، في الدولة، فأوصى بتوجيهِ التلامذة الصغار نحو التخلّي عن عاداتٍ غير صحّية من نوعِ الشُربِ الجماعي من كوبٍ واحد، أو تناولِ الطعامِ بالأيدي من “ماعونٍ” واحد (صحن واحد)، وما شابهَ ذلك. بل عمدَ مرةً الى توزيع عشرات الألوف من سكاكين، وملاعق، وشُوَك الطعام على عائلاتٍ فقيرة في المدن والأرياف لهذه الغاية.
بل هو أرادَ أن يجعلَ من “حزب البعث” الحاكم جهازًا تربويًا. ففي المقابلة التي أجريتها معه في منزله يوم 14 نيسان (أبريل) 1981، وكانت الحربُ مع إيران في أشهرها الأولى، ظهرت انقساماتٌ عربية حولها، ومن تلك المواقف ما اتخذه ياسر عرفات، رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وعارض فيه موقف العراق. قلت له:
“ألا تخشى أن ينتشرَ في العراق مناخٌ مُعادٍ للفلسطينيين والقضية الفلسطينية، بسبب موقف منظمة التحرير، فالمعروفُ عن العراقيين أنهم أشدُّ العرب حماسةً لتلك القضية؟”.
فأجاب بقوله: “والله ذلك ممكنٌ… لولا المُرَبّي”!
لما لاحظ المفاجأة على وجهي، استدرك وقال: “المُرَبّي… هو حزب البعث العربي الاشتراكي” .
ربما قدَّم هذا الاستدراك بعد برهةِ صمت، لئلا يُفهم من كلامه أنه هو شخصيًا “المربّي”.
بالفعل خطر لي أن جوابه بهذه الطريقة المُتقطّعة على دفعتين، توخّى منها أن يُظهرَ نفسه بصورة “المُربّي”، حتى لو أعلن تاليًا أنَّ “المُربّي هو حزب البعث”. فمنذ “مجزرة دار الخلد” ضد بعض القيادات الحزبية المرموقة، خلال الأسبوع الأول من وَضعِ يده على السلطة في صيف 1979، صارَ صدّام حسين هو “حزب البعث”. فإذا كان الحزب هو المُرَبّي، كما قال، فهذا يعني أنه هو فعلًا المُرَبّي!
إنَّ لجوءَ صدام حسين، خصوصًا داخل الحزب، وداخل عائلته أيضًا، الى الشدّة والقسوة والعنف والقتل، يحملُ في طيّاته “فكرة المُرَبّي”، باعتبار أنَّ الأهلَ يلجَؤونَ أحيانًا إلى استخدامِ الشدّة مع أطفالهم كوسيلةٍ تأديبية لها غاية تربوية. وهذه أيضًا من سماتِ الحُكّامِ الديكتاتوريين في كل التجارب العالمية، لتقديمِ سببٍ مُوجِبٍ لتفرّدهم بالسلطة في إطارٍ تربويٍّ غايته في نظرهم تقويم اعوجاجٍ سابق!
قبيل محاولة اغتيال عُدَي النجل الأكبر لصدام حسين في منطقة المنصور من بغداد يوم 12/12/1996، ألقى الرئيس العراقي كلمةً انتقدَ فيها بالتورية بعض التصرّفات الشاذة لنجله، ذكر فيها عبارة “عقوق الأبناء”، وكأنه يقوم بنقدٍ ذاتي لفشله في تربية ابنه بينما يُحاوِلُ هو تربية أولاد الناس.
كان في تلك الكلمة طَعمٌ من المرارة، إلى درجةٍ حملت بعض عارفيه الى الظنِّ بأنَّ المحاولة التي تعرّضَ لها عُدي بعد ذلك، ونُسِبَت إلى “حزب الدعوة” الشيعي المعارض، هي من تخطيط صدام حسين نفسه لتأديب ابنه ووَضعِ حدٍّ لتجاوزاته، إلّا أنها تعدَّت حدودها المطلوبة قليلًا فكادت تودي به، لكنها عطبته وأقعدته على كلِّ حال.
إنَّ هذا التفسير ليس صحيحًا على الأغلب، لكن مجرد مروره ببالِ المشغولين بغوامض صدام حسين المُتداخلة والمُتجذّرة، يعطي فكرة عن المدى الذي يمكن أن يذهب إليه، من حيث الوصول الى غاياته المُضمِرة.
هذا أيضًا يدخل في باب تفسير ما هو غير قابل للتفسير!
(حلقة الأربعاء المقبل بعنوان “المُرتاب”).
- سليمان الفرزلي هو كاتبٌ وصحافي لبناني ترأّس تحرير صحف عدة في بيروت، منها “الأحرار”، و”الكفاح”، و”بيروت”، و”عالم النفط”، و”الصياد”، وعمل في عدد من الصحف الصادرة في لندن وباريس، منها “الدستور”، و”الحوادث” قبل أن يصدر مطبوعته الخاصة “الميزان” في تسعينيات القرن الماضي. وله أيضًا مؤلّفات أبرزها كتاب سيرته “علامات الدرب” الصادر مطلع العام 2013 عن “اللبنانيون المتحدون للصحافة والنشر” في لندن، و”حروب الناصرية والبعث” الصادر مطلع العام 2016 عن دار “أنطوان هاشيت (نوفل)” في بيروت. وهذه المطبوعات يمكن الاطلاع عليها كاملة على موقعه الإلكتروني: www.sferzli.com
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.