أينَ إيران من خطّةِ بايدن “الإسرائيلية” لوَقفِ الحَربِ في غزّة؟

محمّد قوّاص*

بَعدَ ساعاتٍ من كَشفِ الرئيس الأميركي جو بايدن، الجمعة الماضي، عن خطّةٍ إسرائيلية للتوَصُّلِ إلى صفقةٍ تنتهي بوقفِ إطلاقِ نارٍ دائمٍ في غزّة، جرى الكشفُ عن تواصُلِ واشنطن مع السعودية وتركيا ومصر وقطر، لتوفيرِ مظلّةٍ لمشروعِ الرئيس الأميركي وبيئةٍ حاضنةٍ له. حَمّلَ بايدن حركة “حماس” مسؤولية مصير مبادرته، وسلّطَ من أجل ذلك ما تملكه أنقرة والدوحة والقاهرة من نفوذٍ على التنظيم الفلسطيني.

مع ذلك، بقي شريكٌ أساسي لم تلحظه بيانات واشنطن.

تملكُ إيران نفوذًا مُقَرِّرًا، أو مُرَجِّحًا، في ثلاثِ جبهاتٍ مُشتَعلة:

– غزّة طبعًا، من خلالِ علاقةٍ تاريخيةٍ علنيةٍ مكشوفةٍ مع حركتَي “حماس” و”الجهاد الإسلامي في فلسطين”.

– لبنان، من خلالِ الإمساكِ الدقيق (المُشتَرَك مع واشنطن) بإيقاعِ الحرب من جنوب لبنان. وقد حرصَ وزير الخارجية الإيراني الراحل حسين أمير عبد اللهيان على دقّة الأمر، وجاء القائم بأعمال وزير الخارجية علي باقري كني يُكملُ هذه المهمّة، ومتوقّعٌ أن يخلفه في المنصب بعد الانتخابات الرئاسية المقبلة.

– البحر الأحمر، الذي تهدّده نيران ميليشيات “الحوثي” في اليمن، والتي ثبت أنها مُنضَبِطة داخل الأجندة الإيرانية، ومُطيعة لحسابات طهران في رَفعِ السقوفِ وخفضها.

واضحٌ أنَّ إيران، على ما هو مُعلَن، غير مَعنيّةٍ باتفاقٍ يُنهي الحربَ في غزّة من دونِ أن تكونَ شريكًا في مداولاته، ورقمًا صعبًا في مآلاته. فالأمرُ لا يحتاجُ إلى تحليلٍ مُعَمّقٍ ومعلوماتٍ خاصة، ذلكَ أنَّ المرشد الأعلى آية الله علي خامنئي أدلى بدَلوِهِ في دعوةِ “الشعب الفلسطيني إلى عدمِ التعويلِ على وَقفِ إطلاق النار”. بموازاةِ هذا الموقف، أو بالأحرى نتيجةً له، ارتفعت وتيرةُ التصعيدِ في البحر الأحمر وجنوب لبنان. وسواءً صدرت تهديدات من داخل إسرائيل بإحراق لبنان وإعادته إلى العصر الحجري، أم زَعَمَ “الحوثيون” كذبًا تدمير حاملة طائرات أميركية، فإنَّ إيران تُعَوّلُ على تلك “الجعجعة” لإنتاجِ “طحين” المكاسب وأفضلها.

منذُ عملية “طوفان الأقصى”، تستفيدُ طهران من غموضٍ تُريدُهُ بنّاءً يرفدُ حساباتها داخلَ صراعٍ لم تحسب حسابه. عَجّلت في نفي تورّطها بذلك الهجوم، على لسان المرشد الأعلى نفسه، لتُقدّم نفسها شريكًا مُؤهَّلًا لخَفضِ التصعيدِ في المنطقة. ثم أعطت ضوءًا أخضر لاشتعالِ جبهاتِ العراق ولبنان واليمن، قبل أن تُسكِتَ أنشطة ميليشياتها التابعة في العراق، وتضبطَ تدخّلَ “حزب الله” في لبنان على الرُغمِ من خسائره الموجعة، وتُطلق العنان للحدود المُمكنة لنيران جماعة “الحوثي” في اليمن. في المقابل، امتنعت عن استخدامِ سوريا مُنطلقًا لنيرانها الداعمة لغزة، ذلكَ أنَّ إسرائيل امتلكت في السنوات الأخيرة، وخصوصاً في الأشهر الأخيرة، هيمنةً نارية كاملة إلى درجة قصف القنصلية الإيرانية في دمشق.

تعترفُ واشنطن ضمنًا بالحقيقة الإيرانية في حرب غزّة و”أعراضها الجانبية”. وتَعرِفُ طهران حاجة الإدارة الأميركية، قبل أشهرٍ من الانتخابات الرئاسية، إلى التخلّصِ من أيِّ أعباءٍ تمنعُ إعادةَ انتخابِ جو بايدن لولايةٍ جديدة، أبرزها تلك الحرب العصيّة على الحسم في غزّة. وفق هذه المعادلة، تُعيدُ إيران تأكيد حضورها بقوة داخل ملف غزّة، حتى لو جرى التفاوض في القاهرة والدوحة، وتطلّ تركيا بقوة على غزّة وعلى “حماس” وبتشجيعٍ أميركي.

للمفارقة، تتحوَّلُ إدارة بايدن، حتى قبل اندلاعِ حدث غزّة، إلى طرفٍ مُتساهِلٍ “مُتَفهّمٍ” لظروفِ البرنامج النووي الإيراني. فحتى حين كشفت المنظمة الدولية للطاقة الذرية آثارَ تخصيبٍ لليورانيوم بنسبة 83 في المئة في العام الماضي (تحتاج القنبلة إلى 90 في المئة)، خرج وليام بيرنز، مدير وكالة المخابرات المركزية، مُقلّلًا من أهمية هذا الأمر، “مؤمنًا” بأنَّ “لا صناعةَ لقنبلةٍ نووية ما دام المرشد الأعلى في إيران قد أفتى بتحريمِ ذلك”. كان ذلك في شباط (فبراير) 2023، في الشهر نفسه الذي أعلن البنتاغون تخوّفه من أنَّ إيران باتت على بُعدِ أيام من العتبة النووية الكبرى.

أثارَ الأمرُ قلقَ شركاء الولايات المتحدة الأوروبيين في اتفاقِ فيينا النووي لعام 2015. أظهرت فرنسا وألمانيا وبريطانيا وجهًا خشنًا مُتشدّدًا، يُطالبُ بإدانةِ إيران داخل مجلس المحافظين التابع للوكالة الدولية للطاقة الذرية. كانت تلك الدول تُمارِسُ قبلَ ذلك دور الوساطة للتخفيف من جفاء واشنطن وعناد طهران. في المقابل، حتى عندما قدّمت الدول القلقة الثلاث مشروعًا، الاثنين، لإدانةِ إيران للبتّ فيه في الاجتماعات الحالية، لم يصدر عن واشنطن ما يرفد الحلفاء ويبارك سعيهم.

المُعادلةُ مُعقّدةٌ مُتَشعّبة. إسرائيل تُرسلُ وفودًا عسكرية أمنية إلى واشنطن لعرض ما تعتبره “خطرًا نوويًا” إيرانيًا عاجلًا. واشنطن تصغي من دون أي تصعيد في هذا الملف مع إيران. الوكالة الدولية للطاقة الذرية متوتّرة في تقاريرها، فيما يُحذّرُ مديرها الإيطالي رافائيل غروسمان من أنَّ مستوى تخصيب اليورانيوم في إيران قد وَصلَ إلى 60 في المئة، وهي نسبة – بحسب قوله – لا تصلُ إليها أية دولة تُديرُ برنامجًا نوويًا لأغراضٍ مدنية. ويذهبُ الرجل إلى التحذيرِ من أنَّ إيران باتت جاهزةً لإنتاج قنبلتها، قبل أن يعودَ ويُفسّر بركاكة أنَّ ذلك لا يعني أنَّ طهران بصددِ فعل ذلك.

تراقبُ طهران هذا المشهد وكأنّهُ حقلٌ يقتربُ من موسم القطاف. كانَ المرشد الأعلى أكّد عدمَ انخراطِ بلاده بحدث “الطوفان”، حتى أنَّ “رويترز” نقلت بعد شهر من “الطوفان” عن مصادر إيرانية “تأنيبهِ” إسماعيل هنّية، رئيس المكتب السياسي لحركة “حماس”، بسبب تنفيذ العملية من دون علم طهران. قال حينها: “لن نقاتل بالنيابة عنكم”.

تَغيّرَ المشهدُ عن لحظاته الأولى وتغيّرت لهجة المرشد الأعلى. فقد اكتشف، الاثنين، فضائل “الطوفان” ويكاد يقول “كُنّا وراءه”. قال إنَّ “هجومَ “حماس” جاء في اللحظة المناسبة للمنطقة”. باتت طهران تنتظرُ لحظتها المُلائمة لاحتلالِ مقعدها على طاولةٍ بدأت تنبسطُ معالمها لرَسمِ أوّلِ خطوطٍ لخرائطِ المنطقة. تُصغي واشنطن للجلبة في طهران، وتُراقب فتح “البازار” الإيراني، فتهدئة المنطقة ومعركة الرئاسة تحتاجان لخدماتٍ إيرانية، عادةً ما تكونُ غاليةَ الثمن.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى