عندما يُؤدّي طريقُ مَبدَإِ “مَسؤولِيَّةِ الحماية” إلى جُهَنَّم!

كابي طبراني*

قبل 25 عامًا، في أواخر نيسان (أبريل) 1999، ألقى رئيس الوزراء البريطاني آنذاك طوني بلير خطابًا مُسهَبًا في النادي الاقتصادي في شيكاغو، كانَ بمثابةِ الخطابِ الذي شَكّلَ السياسة الخارجية الأميركية للعقدِ الأوّل من القرن الحادي والعشرين. في هذا الخطاب الذي حملَ عنوان “عقيدة المجتمع الدولي”، اعتمد بلير على أفكارٍ من الإنجيل في الدعوةِ إلى أنَّ “تلك الدول التي تمتلِكُ القوّة، عليها أن تتحمّلَ المسؤولية”. وبعبارةِ “تلك الدول” كان يقصد الولايات المتحدة، قائلًا بصراحة: “نحن بحاجةٍ إلى تَدَخّلِكِ ومشاركتِكِ”.

ما الذي كانَ يعتقد بلير بأنَّ على أميركا أن تتحمَّلَ مسؤوليةَ القيام به؟ وَقفُ عملياتِ الإبادةِ الجماعية وغيرها من أشكالِ الفظائع الجماعية داخل البلدان الأخرى عند حدوثها. لم يَعُد من الممكن استخدامُ ادّعاءاتِ احترامِ السيادة كذريعةٍ لعَدَمِ التدخّلِ وحمايةِ أولئك الذين يُعانون على أيدي حكومتهم. في نهايةِ المطافِ سوفَ يتجسّدُ مبدأُ بلير في أفكارٍ مثل “التدخّل الليبرالي”، وأبرزها “مسؤولية الحماية”.

في وقتِ إلقاءِ الخطاب، كان بلير يُبرّرُ تصرّفات منظمة حلف شمال الأطلسي (الناتو) في ما كان لا يزال مقاطعة كوسوفو الصربية، حيث بدأ الحلف قبل شهر، في آذار (مارس) 1999، ضرباتٍ جوية ضد القوات الصربية. وكان الهدف هو منع صربيا من ارتكاب جرائم حرب والتطهير العرقي ضد ألبان كوسوفو في خضم الحرب الانفصالية في كوسوفو.

وقد وَصَفَ البعضُ حملةَ كوسوفو بأنَّها العلامة القصوى لـ”لحظة القطب الواحد” في واشنطن: كانت الولايات المتحدة تتمتّعُ بالقوّة على التصرّف والثقة في قدرتها على استخدامِ تلك القوة، لذا فقد تحمّلت مسؤولية القيام بذلك.

يبدو أنَّ اتخاذَ إجراءاتٍ لمساعدة أولئك الذين يُعانون من التطهير العرقي لن يحتاجَ إلى المزيدِ من المبرّرات. ففي نهاية المطاف، كان الدفاعُ عن العُزَّلِ هو الأساسَ المنطقي لعملية إخراج القوات العراقية من الكويت قبل ثماني سنوات. وكما قال الرئيس جورج بوش (الأب) آنذاك في خطابه أمام أعضاء الكونغرس عن حالةِ الاتّحاد في العام 1991 عشية تلك العملية العسكرية التي قادتها الولايات المتحدة: “إنَّ ما هو على المحك هو أكثر من دولةٍ صغيرةٍ واحدة؛ إنها فكرةٌ كبيرة: نظامٌ عالمي جديد، حيث تتجمّعُ الأمم المُتَنوِّعة معًا في قضية مشتركة لتحقيق التطلّعات العالمية للبشرية”.

علاوةً على ذلك، لم تكن هذه هي المرة الأولى التي يَتَّخِذُ فيها “الناتو” إجراءً في يوغوسلافيا السابقة. كان الحلفُ أطلقَ أيضًا حملةً جوية سمّاها “عملية القوة المُتعَمَّدة” في العام 1995 ضدّ جيش صرب البوسنة بعد أن ارتكبَ سلسلةً من الفظائع الإنسانية ضد المدنيين، بما في ذلك الإبادة الجماعية في “سربرنيتسا”.

لكن كانَ هناكَ اختلافٌ رئيس بين كوسوفو وتلك التدخّلات السابقة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة. لقد تمَّ تفويضُ التدخُّلَ في كلٌّ من حرب الخليج العربي والقصف ضد جيش صرب البوسنة من قبل مجلس الأمن الدولي. واتفقت جميع القوى الكبرى، بما في ذلك روسيا، على أنَّ هذا التحرّكَ ضروري. ولم تكن هذه هي الحال في حالة كوسوفو، حيث عارضت كلٌّ من الصين وروسيا التدخّل. كانت الصين تخشى أن تؤدي مهاجمة القوات الصربية إلى تعزيز سابقة استخدام الولايات المتحدة للقوّة العسكرية، وبشكلٍ متهوِّر، من أجل فَرضِ نظامها الجديد في مرحلةِ ما بعد الحرب الباردة. بالنسبة إلى روسيا، كانت صربيا حليفًا وثيقًا، وهو حليفٌ أرادت موسكو حمايته. واعتبرت روسيا أنَّ قيامَ حلف شمال الأطلسي بالتحرّك في كوسوفو على أيِّ حال يُشَكّلُ انتهاكًا كبيرًا لدرجة أن الرئيس فلاديمير بوتين استشهد بما أسماه “العملية العسكرية الدموية … التي شُنَّت ضدّ بلغراد بدون موافقة مجلس الأمن الدولي” كأحد مبرراته للغزو الشامل لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022.

على مدى العقد الذي أعقب خطاب بلير، ازدادَت أهميةُ مبدأ “مسؤولية الحماية”. وقد تمَّ تدوينه في الوثيقة الختامية لمؤتمر القمة العالمية لعام 2005، والتي نصّت على أنَّ كلَّ دولةٍ “تتحمّلُ مسؤوليةَ حمايةِ سكّانها من الإبادة الجماعية وجرائم الحرب والتطهير العرقي والجرائم ضد الإنسانية”؛ وأنَّ المجتمعَ الدولي يتحمّلُ أيضًا مسؤوليةَ القيامِ بذلك باستخدامِ “الوسائل الديبلوماسية والإنسانية وغيرها من الوسائل السلمية”؛ وأنَّ التدخّلات العسكرية بتفويضٍ من الأمم المتحدة تُستخدَم “إذا كانت الوسائل السلمية غير كافية وفشلت السلطات الوطنية بشكلٍ واضحٍ في حمايةِ سكانها”.

وقد تمّت الموافقة على هذا التعهّدِ لاحقًا في العام 2006 من قبلِ مجلس الأمن الدولي. وعلى الرُغمِ من أن التعهّدَ كان امتدادًا منطقيًا لفكرةِ “الحربِ العادلة”، إلّا أنه وسَّعَ مفهومَ الدفاع عن النفس الذي يُمثّلُ حَجرَ الزاوية في المادة 51 من ميثاق الأمم المتحدة، من خلالِ السماحِ للدولِ بالدفاع ليس فقط عن نفسها، فرديًا وجماعيًا، بل أيضًا عن السكّان الذين لا يستطيعون حماية أنفسهم في بلدانٍ أخرى. وقد وصفت الخبيرة في شؤون السياسة الخارجية والمسؤولة السابقة في وزارة الخارجية الأميركية آن ماري سلوتر “مسؤولية الحماية” بأنها “التحوُّلُ الأكثر أهمّيةً في تعريف السيادة” منذ مئات السنين، لأنها ترى أنَّ “السيادة لا تعني أنك تستطيع أن تفعل ما يحلو لك مع شعبك طالما أنك لا تؤذي دولة أخرى صاحبة سيادة”.

لكن هذا يشيرُ إلى توتّرٍ أساس في نداء بلير منذ 25 عامًا. مَن الذي يُقرّرُ متى ينبغي الاحتجاج وتبرير عمله ب”مسؤولية الحماية”؟ عندما تكونُ الدولُ التي تتمتّعُ بسلطةِ التدخّلِ هي أيضًا الدولَ التي تَتّخِذُ القرار بشأن ما إذا كانت ستستخدم هذه القوة وكيفية استخدامها، فإنَّ ذلك يخلق إمكانية الإهمال الانتقائي. هل تتحمّلُ الولايات المتحدة مسؤولية التدخّل لحماية المدنيين في اليمن بينما كانت حليفتها المملكة العربية السعودية تشنُّ قصفًا واسع النطاق وعشوائيًا في كثير من الأحيان على البلاد؟ وعلى نحوٍ مماثل، ألا تتحمّلُ الولايات المتحدة مسؤولية حماية المدنيين في غزة بينما تقصف حليفتها إسرائيل بشراسة غير مسبوقة ووحشية تلك المنطقة وتؤدي إلى إزالة أكثر مناطقها وقتل أكثر من 35 ألف شخص أكثرهم من الأطفال والنساء والكهول؟

كما إنَّ هذا المبدأ يخلُقُ إمكانيةَ إساءة الاستخدام، حيث يُمكِنُ التذرّعُ به لتبريرِ أيِّ شكلٍ من أشكالِ التدخّلِ تقريبًا. في نهاية المطاف، في الأسابيع التي سبقت الغزو الشامل لأوكرانيا في شباط (فبراير) 2022، اتّهَمَ بوتين وغيره من المسؤولين الروس مرارًا وتكرارًا كييف بارتكاب إبادة جماعية في شرق أوكرانيا. وفي خطابه الذي أعلن فيه الغزو، أعلن الزعيم الروسي: “كان علينا أن نُوقِفَ تلك الفظائع، وتلك الإبادة الجماعية لملايين الأشخاص الذين يعيشون هناك والذين علّقوا آمالهم على روسيا، علينا جميعًا”.

إنَّ احتمالَ إساءةِ الاستخدامِ هو السببُ وراء فقدانِ مبدَإِ “مسؤولية الحماية” هويته كعقيدةٍ توجيهية فعليًّا في أعقابِ تدخّلٍ آخر بقيادة حلف شمال الأطلسي، وهذه المرة ضد ليبيا. في العام 2011، سعى تحالفٌ من حلفاء “الناتو”، انضمّت إليه دولٌ غير أعضاء في “الناتو”، مرةً أخرى إلى وقف الصراع قبل أن يؤدّي إلى المزيد من المذابح. على الأقل، كان هذا هو الأساس المنطقي الذي قامت عليه عملية “الحامي المُوَحِّد” لحلف شمال الأطلسي. وعلى عكس كوسوفو، فقد حصلت على تفويضٍ من مجلس الأمن الدولي، مع امتناع روسيا والصين والهند عن التصويت.

لكن تدخّلَ حلف شمال الأطلسي، الذي كان مُبَرَّرًا بمسؤوليةِ الحماية، انتهى به الأمر إلى عمليةِ تغييرِ النظام التي أسفرت عن الإطاحة بالحاكم الليبي السابق معمر القذافي ومقتله. كان التصوُّرُ السائد هو أنَّ الولايات المتحدة وحلفاءها استخدما مسؤولية الحماية كغطاءٍ لتحقيقِ أهدافهما الجيوسياسية. وكما علّقَ سفير الهند لدى الأمم المتحدة آنذاك، هارديب سينغ بوري، بشكلٍ لاذع في الأشهر التي تلت ذلك، فإن “ليبيا أعطت مبدَأ مسؤولية الحماية سمعةً سيئة”.

ومن عجيب المفارقات أنَّ مثلَ هذا الرأي كان واضحًا أصلًا في أعقاب حملة كوسوفو التي أشاد بها بلير. وقد صوَّرَ رَسمٌ كاريكاتوري افتتاحي في ذلك الوقت مُواطِنًا كوسوفيًا مُرهَقًا وهو يَندُبُ قائلًا: “رجاءً أيها الناتو، أسدِ لي معروفًا! لا تُقَدِّم لي المزيدَ من الخدمات!” بعبارةٍ أخرى، بقصفِ صربيا، ألحق حلف شمال الأطلسي الأذى والنفع بالذين كان يحاول حمايتهم. وكما يقول المثل، الطريقُ إلى جهنّم مفروشٌ بالنوايا الطيبة. فمبدأُ “مسؤولية الحماية”، حتى لو كان مُصَمَّمًا بنوايا حسنة، كان لا بدَّ له دائمًا أن يسلُكَ هذا الطريق.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى