مرغريت النمسا رائدةُ النهضة الفَنِّية
هنري زغيب*
يَلْفِتُ في السيَّداتِ الحاكماتِ عادةً أَنهُنَّ اشتُهِرنَ بِذَاتهِنَّ وبأَعمالِهِنّ وإِنجازاتِهِنَّ لا بأَنَّهُنَّ زوجاتُ أَزواجِهِنَّ الحكَّام.. منهنَّ، بل ربما في صدارتِهِنَّ، سيدةُ الدولةِ الحازمةُ: الأَرشيدوقةُ مرغريت (1480-1530) التي لعبَت دورًا حاسمًا في عصرها، وهي المرأَة السرية في أُسرة هابسبورغ (حاكمة النمسا من 1282 إِلى 1918، وهنغاريا وبوهيميا من 1526 إِلى 1918، وإِسبانيا والأَمبراطورية الإسبانية من 1516 إِلى 1700).
من هي؟
هي الابنةُ الوحيدةُ لحاكم الأَمبراطورية الرومانية المقدَّسة مكسيميليان الأَول وماري التي من سيِّدات بورغونيا. وُلِدَت في الفترة العابرة بين عُصُور القرون الوُسطى وعصر النهضة. ولأَنها سليلةُ آل هابسبورغ، الأُسرة ذات الفضل في تاريخ أُوروبا، كان لها سُطُوع باهر في جعلها إِحدى أَشهر الزوجات الحاكمات في سيرة الممالك.
الحاكمة الحازمة
تزوَّجَت تباعًا من: ولي العرش الإِسباني الأَمير خوان (1478-1497)، وإذ توفي شابًّا تزوَّجَت من فيليبِرت الثاني دوق سافُوْيْ (1480-1504)، وعند وفاته شابًّا كذلك ترمَّلت وهي في الرابعة والعشرين، بدون أَولاد. عندئذٍ عيَّنَها والدُها حاكمةَ أُسرة هابسبورغ في اتحاد بينيلُوكس (هولندا والنمسا واللوكسمبورغ). وبما كان لها من ذكاء فطري مبكِّر خارق، وحسٍّ سياسي ثاقب، أَمَّنت لشعب ذاك الاتحاد ازدهارًا واستقرارًا سياسيًّا وطيدًا. ولثِقته الكاملة بها، ولَّاها والدُها وصيةً على ابن شقيقها شارل الخامس (شارلكان: 1500-1558). وحين تولّى هذا عرش الأَمبراطورية راح يوفد عمَّته مرغريت في مهمات صعبة جعلت منها مع الوقت ذات نفوذ دبلوماسي رائد في أُوروبا. لكنها اكتسبَت أَيضًا شهرةً واسعةً أُوروبيًّا بأَنْ كانت إِحدى أَهم الشخصيات التي رعت الفنون في شمالي أُوروبا، وجامعةَ أَعمالٍ شهيرةٍ من كبار الفنانين، بينها رسومٌ وضعوها لها واحتلت حيِّزًا واسعًا من جدران قصرها.
الوصية الناجحة
سكنت مرغريت، أَيام وصايتها، في ميشيلِن Mechelen (مدينة بين بروكسيل وآنتيربْ، شمالي بلجيكا اليوم، كانت عاصمة هولندا بين 1507 و1530). وكان قصرها يدعى “بلاط سافُوْيْ” (منطقة في أُوروبا غربيَّ الأَلب)، وهو يدلُّ على رباطها القوي مع زوجها الثاني فيليبِرْتْ الذي أَصابت معه شهرة واسعة في ما تمكَّنَت من تحقيقه. وامتلأَ قصرها، كسائر عادة القصور فترتئذٍ، لوحاتٍ لأَسلافها وأَقاربها والأُمراء الآخرين من خارج الأُسرة، مع أَنها ليست مَدينةً في الحُكْم إِلَّا لاثنين فقط: مكسيميليان والدها، وشارلكان ابن شقيقها.
راعية الفنون
أَفردَت مرغريت للَّوحات المرسومة عنها جناحًا آخر خاصًّا في القصر، كما لتفصل صُوَرها عن صور جميع الآخرين، أَو بالأَحرى كي تتميَّزَ عنهم. لذا جعلَت معظم اللوحات عنها في قاعة المكتبة التي ملأَتْها أَيضًا منحوتاتٍ ورسومًا وعددًا من الأَعمال الفنية. وبين أَبرز ما وضعت في المكتبة: تمثالان نصفيَّان لزوجها فيليبِرْتْ، بإِزميل النحات الأَلماني كونراد مِيْتْ (1480-1550)، وهو من جيل التيار القوطي القديم وكان أَحد أَبرز الرسامين والنحاتين في قصرها. والتمثالان يمثلان الزوجين متلاقيَي النظرة، وعلى سيمائهما ملامح أَرستقراطية أَليفة. وكانت شهرة مِيْتْ أَنه، في عصر النهضة، نجح في نحت التمثال كامل الملامح بدقَّة ما يرسم وجهًا على قماشة.
سيِّدة النهضة الفنية
كانت مكتبة مرغريت مفتوحة للزوار الدبلوماسيين وسكان القصور الشبيهة. وكانوا يلاحظون في ملامح لوحاتها سيماء الوصية الصارمة على عرش أُسرة هابسبورغ. وفي السيماء ذاتها لوحة عنها بريشة الرسام الأَنتربيّ جوس فان كليف (1485-1541)، وهو انضم إِلى رسامي البلاط بعد إِقامته في أَنتيربْ سنة 1511.
وكانت أُسرة ماري (والدة مرغريت) البورغوندية تقرَّبت من أُسرة هابسبورغ بعد زواجها من ماكسيميليان، وتولت مرغريت أَيضًا عُمدة أُسرة والدتها كما يظهر من ملابسها في بعض لوحاتها بريشة أَحد رسامي بلاطها: البلجيكي برنارد فان أُورلي (1487-1541)، وهو وُفِّقَ في رسْمها فكانت تلك صُوْرَتَها الرسمية، حتى أَنه وضع لاحقًا نُسَخًا عدة عنها، كانت تُهدى إِلى الأُمراء والأَنسباء وزوَّار البلاطات الأُخرى.
الزواج القصير إِنما السعيد
صحيح أَن زواجها الثاني من فيليبِرْتْ كان قصيرًا (ثلاث سنوات: 1501-1504)، لكن جميع مؤَرِّخي الفنون يذكرون أَنه كان زواجًا سعيدًا ولو انه لم يُعْقِبْ. لذا كانت ترفض طلَب والدها أَن تتزوَّجَ ثالثةً، مع أَنها خلال زواجها القصير كانت تعيش في ظل زوجها من دون فرادة شخصية، وأَكثر: كانت بعد وفاته تفرض أَن تسمى “زوجة” الملك لا “أَرملته”، مع أَنها ظهرت في عدد من اللوحات، وحتى التماثيل، في ثوب الحداد الأَسْوَد، ما يشير إِلى إِصرارها على ظهورها أَرملة وفية.
ومن أَواخر علامات سلطتها القوية: ضريحها وسْط المجمّع الديريّ الملَكيّ في بْرو (منطقة في الجنوب الشرقي من فرنسا). وهي أَنشأَت هذا المجمَّع في عدة أَبنية دَيرية، تخليدًا ذكرى زوجها فيليبِرت. والمجمَّع، وفيه كنيسة، كان في دوقية زوجها (اليوم بات عقاريًّا في فرنسا)، وفيه ضريحُها وضريحُ زوجها ووالدته مرغريت دو بوربون (1438-1483). ونجح النحات مِيْتْ في نحت تماثيلهم بالشكل القوطيّ الشهير.
الأَرملة الوفية
الضريح من ثلاثة أَقسام منفصلة: فيليبِرت في الوسط، عن يساره زوجتُه، وعن يمينه والدتُه، إِنما يبرز تمثال مرغريت بشكل واضح ومتقن أَكثر من التمثالين الآخرَين. فهي ساطعة بحجم التمثال، وبقبّعتها الأَرشيدوقية النمساوية، وتلك من رموز إِرثها الوالدي، ما يعطيها هيبة ملكة ذات حضور لافت، يعكس ما كانت عليه من قوة ونجاح كسيدة قائدة رائدة، ويلفت أَنْ على صدرها وضع النحات قلادةً حفر عليها وجه زوجها، وجعل وجهها ملتفتًا صوب زوجها الذي هو الآخر جعله يلتفت إِليها.
إِنه الحب الحقيقي الخالد، يولد في الحياة المحدودة المكان، ويبقى نابضًا حتى بعدما الحبيبان يدخلان الزمان الأَوسع بعد زمن الوفاة.
- هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
- يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.