لا ينبغي إلقاءُ اللوم على الافتقار إلى الإرادة في تَراجُعِ هَيمَنَةِ الولايات المتحدة

بول بوست*

هل انتهى عَصرُ الزعامة العالمية الأميركية؟ من الحَربِ إلى المجاعة، يشتعلُ العالمُ ويُلقى اللومُ على الافتقار إلى الإرادة السياسية من جانب واشنطن.

في مقابلةٍ أُجرِيَت معه أخيرًا، أرجعَ الأمين العام السابق لحلف شمال الأطلسي، “أَندِرس فوغ راسموسن”، موجةَ الصراعاتِ التي تجتاحُ العالم إلى “تردّدِ الولايات المتحدة في القيادة فعليًا”. وأضاف راسموسن أنه “إذا لم تُمارِس الولايات المتحدة القيادة العالمية، فإنَّ الأشرارَ سوف يستغلّون الوضع”. بعبارةٍ أخرى، لا يقتصر الأمر على أنَّ نهاية “السلام الأميركي” (Pax Americana) هي التي تؤدي إلى إضعاف النظام الأمني العالمي فحسب، بل إنَّ السلامَ الأميركي ينتهي لأنَّ الولايات المتحدة أصبحت الآن أضعف من أن تتمكّنَ من القيادة.

لنتأمّل كيف تبدو إدارة بايدن غير راغبة في إنتقاد سلوك إسرائيل في الحرب في غزة، والذي يُعتَبَرُ هزيمةً ذاتية. علاوةً على ذلك، أكّدَ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو أنَّ حكومته لن تسعى إلى حلِّ الدولتين عندما تنتهي الحرب ضد “حماس”، وهو رأيٌ يتعارَضُ بشكلٍ مباشر مع السياسة الأميركية القائمة منذ فترة طويلة وكذلك الموقف المُعلَن لإدارة بايدن بشأن إرساءِ سلاٍم مُستدام في أعقاب الصراع الحالي. وعلى الرُغم من ذلك، ظلَّ الرئيس الأميركي جو بايدن ثابتًا في دعمه لنتنياهو، حتى إلى حَدِّ تحويلِ الذخائر المُوَجَّهة أصلًا إلى أوكرانيا إلى إسرائيل.

أو لنَعُد بضعَ سنواتٍ إلى الوراء، إلى الانسحاب الأميركي الفوضوي من أفغانستان في آب (أغسطس) 2021، والذي صَوَّرَهُ بعضُ النقاد على أنه علامة على أنَّ واشنطن لم تعد مُستَعِدّة لتحمُّلِ تكاليف دعم النظام العالمي. وحتى لو لم يكن الهدفُ الوظيفي المُتمثّل في إنشاءِ دولةٍ مستقرّة في أفغانستان قابلًا للتحقيق، فإنَّ الحفاظَ على بصمةٍ عسكرية هناك كان ليُثبِت أنَّ الولايات المتحدة مُلتَزِمة بالحفاظ على بعض مظاهر الاستقرار. حتى أنَّ البعضَ ذهبَ إلى حَدِّ الادِّعاء بأنَّ الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ربما اكتسب المزيد من الجرأة بسبب قرار بايدن، وبالتالي ساهم في قراره بشنِّ غزوٍ شامل ضد أوكرانيا.

في حين أنَّ دقّةَ هذه الادِّعاءات مشكوكٌ فيها،  حيث من المعروف عن بايدن أنه بعيدٌ كل الُبعد من الانعزالية في ميوله، فإنَّ تعليقات راسموسن تشير إلى افتقار بايدن إلى الحزم خلال وقت الأزمة هذه. وعلى الرُغم من الحماقات التي ارتكبها الرئيس السابق جورج بوش (الإبن)، فربما يحتاج بايدن إلى قدرٍ أكبر قليلًا من الحسم الذي أظهرته إدارة بوش؟

ولكن هناك وجهة نظر أخرى. بدلًا من إظهار الافتقار إلى الإرادة لديه، يُمكِنُ النظر إلى بايدن على أنه استراتيجي كبير ذكي يُدرِكُ الحدود الجديدة لقوة الولايات المتحدة. إنَّ النظام الدولي يَتَغَيَّرُ الآن، وهو يَتَّسِمُ حاليًا بنشوءِ تعدّديةٍ قطبية وزيادةٍ عدوانية “أشباه الدول”. وبدلًا من أن تَعكسَ سياسات بايدن التردّد، فإنها قد تُظهِرُ أنه في مواجهة هذا الواقع الهيكلي الجديد، فقدت الولايات المتحدة القدرة على الاستجابة لكلِّ هذه الأزمات المُتزامنة. إنَّ تردُّدَ بايدن ليس علامةً على الضعف. بل على العكس، فهو يبذل قصارى جهده، نظرًا للقيود المفروضة على الموارد التي يواجهها.

ليس هناك مَن يَنكُرُ أنَّ القاعدة المادية للقوّة العالمية الأميركية تتعرّضُ لضغوطٍ شديدة. فبادئ ذي بدء، لا تملك الولايات المتحدة ببساطة ما يكفي من الذخائر لتزويد كل البلدان التي تحتاج إلى دعمها عسكريًا. حتى أحد إنجازات بايدن المُمَيَّزة في السياسة الخارجية -صفقة الغواصات بين دول تحالف “أوكوس”، أوستراليا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة- يبدو أنه يُعَوِّقه عدم وجود العمالة الأميركية الكافية لبناء السفن. ومن الناحية الاقتصادية، تم تقويض قدرة الولايات المتحدة على استخدام الإكراه الاقتصادي، العقوبات، كأداةٍ سياسية بشكلٍ متزايد بسبب قدرة روسيا على إيجاد مشترين بديلين راغبين.

علاوة على ذلك، فإن الانقسامات المحلّية تضع أميركا في موقف أقل قدرة على تمثيلِ القِيَمِ التي عززت القيادة الأميركية ل”النظام الدولي الليبرالي” لفترةٍ طويلة. من تقييد حقوق الإنجاب (الإجهاض) إلى الخلافات حول حرية التعبير في الجامعات، تجد الولايات المتحدة صعوبةً في الحفاظ على صورتها كمَعقَلٍ للحرية العالمية وحامية حقوق الإنسان. وهذا بدوره يؤدي إلى إضعاف قدرتها على تنميةِ واستغلالِ القوّة الناعمة في مختلف أنحاء العالم.

إنَّ فقدانَ القدرة أمرٌ سيِّئ إذا كانَ الاعتقادُ أن توفيرَ المنافع العامة العالمية، مثل الاستقرار والسلام، يتطلّب تصرّفات قوّة عالمية، قوّة مُهَيمِنة، مثل أميركا. إذا نُظِرَ إلى الولايات المتحدة باعتبارها “أمة لا غنى عنها” والتي يجب أن “تقوم بالمحاولة” دائمًا ــ لأن “المحاولة والفشل أفضل من عدم المحاولة على الإطلاق” ــ فهذا أمرٌ مُثيرٌ للقلق حقًا.

لكنَّ تضاؤلَ قدرة واشنطن على الحزم في الشؤون العالمية ليس بالضرورة أمرًا سيِّئًا. فبادئ ذي بدء، ربما يكون هذا بمثابة تنبيه لحلفاء الولايات المتحدة الأوروبيين إلى أنهم بحاجة إلى بذلِ المزيد من الجهد لحلِّ مشاكل العالم، بدلًا من الاعتماد دائمًا على الولايات المتحدة للقيام بذلك. وفي حالة دعم أوكرانيا، فمن المعترف به جيدًا -حتى من قبل المسؤولين الأوروبيين- أنهم لا يستطيعون تعويض خسارة الدعم الأميركي. لكن بدلًا من مجرّد الاعتراف بهذا الوضع وقبوله، ربما يتعيَّن على دول أوروبا أن تتخذ الخطوات اللازمة لضمان قدرتها على الاعتماد على نفسها، إذا لزم الأمر. في نهاية المطاف، فإنَّ مثل هذا الإجراء من شأنه أن يُلبّي الطلب القديم للعديد من الرؤساء ووزراء الدفاع الأميركيين، وليس فقط الرئيس السابق دونالد ترامب.

في الواقع، في مقالة ذات بصيرة إلى حد ما من أوائل التسعينيات في بداية ما يسمى باللحظة الأحادية القطبية لواشنطن، كتب الباحث في العلاقات الدولية كينيث والتز أن التحمّلَ الأميركي، حتى في الحالات التي تمتلك فيها القدرة، يمكن أن يكونَ أمرًا جيدًا. واعترفَ والتز بأنَّ “المُحَدَّدات والقيود القديمة تنطبق الآن بشكل ضعيف على الولايات المتحدة”، نظرًا لقوتها العسكرية والاقتصادية المُهَيمنة في أعقاب الحرب الباردة. لكنه أعرب عن أمله في أن تختار الولايات المتحدة، باعتبارها القوة العظمى الوحيدة المتبقّية، “ليس السياسة الانعزالية التي أصبحت مستحيلة، بل التحمّل الذي يمنح البلدان الأخرى الفرصة أخيرًا للتعامل مع مشاكلها الخاصة وارتكاب أخطائها”. ومن الجدير بالذكر أن والتز لم يكن متفائلًا بحدوث ذلك.

بعد مرور ثلاثين عامًا، ربما تفتقر الولايات المتحدة حقًا إلى الإرادة السياسية اللازمة للقيادة العالمية، كما أعرب راسموسن مُتَأسِّفًا. ومع ذلك، قد يكون الأمر أيضًا أنَّ تردّدَ الولايات المتحدة في القيادة لا يرجعُ إلى افتقارها إلى الإرادة بقدر ما هو افتقارها إلى القدرة. فهي ليست في الوضع نفسه الذي يسمح لها بمراقبة العالم والعمل كمزوّدٍ وحيد للنظام العالمي كما كان الأمر عندما كتب والتز مقالته المُتَبصِّرة.

الآن لم يعد التحمّل خيارًا، بل ضرورة، ما يعني أنه سيتعيّن على أصحاب المصلحة الآخرين تكثيف جهودهم وتحمّل العبء. وفي هذا الصدد، يبدو أن بايدن يستغلُّ الوضع الصعب على أفضل وجه. ولا يخطئنَ أحد، فالولايات المتحدة لا تزال دولة قوية. لكن امتلاك القوة ليس هو نفسه التمتّع بالقوة المُطلَقة.

  • بول بوست هو أستاذ مشارك في قسم العلوم السياسية في جامعة شيكاغو وزميل غير مقيم في مجلس شيكاغو للشؤون العالمية.
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى