أَقنِعَةُ الإنكارِ الإسرائيلي: البَحرُ يُكَذِّبُ الغَطَّاس

سليمان الفرزلي*

ليسَ جديدًا على إسرائيل أنّها تعتمدُ أساليبَ إعلامية ودعائية مُطَعَّمة بعِرقٍ من التجربة النازية خلال الحرب العالمية الثانية، لكنها طبعةٌ مُعدَّلة، بمعنى أنها ليست سلاحًا استراتيجيًا ثابتًا، إنّما سلاحٌ تكتيكي مُتَحَوِّلٌ حسب الحاجة الآنية، أو حسب صعوبة المأزق الذي يستدعي الإنكار. والأهم من ذلك، أنَّ الكيانَ الصهيوني ووسائله الكثيرة والفاعلة حول العالم، ينطقون ما يريدون بلسان قادة حلفائهم الرئيسيين، وأحيانًا بألسنةِ حلفائهم الهامشيين، حسب نوع الضرورة، حيثُ يُرادُ للشيء غير المعقول الذي يرتكبه أو يقوم به، خصوصًا تجاه الشعب الفلسطيني، أن يبدو لفترةٍ من الزمن، قد تكون قصيرة، وكأنه معقولٌ بفعلِ عملية تجميل لازمة للإنكار السريع.
وآخرُ مثالٍ على ذلك، أنَّ الكيانَ الصهيوني عندما شعر بأن دعوى دولة جنوب إفريقيا ضده أمام محكمة الجنايات الدولية في لاهاي، قد أحدثت موجةً عالميةً عارمة من الاستنكار لعمليات الإبادة والتدمير والتهجير التي قامت بها قواته في غزَّة، وأيقنَ أنَّ مرافعته أمام محكمة لاهاي كانت ضعيفة ولم تفعل أيَّ فعلٍ مُضاد، تحرّكت لنجدته آلته الخارجية من أبعد مكان في العالم عن فلسطين. فقد قامت حكومتا المكسيك وتشيلي في أميركا اللاتينية بتقديم مذكرة إلى محكمة العدل الدولية الناظرة في دعوى جنوب إفريقيا تُطالبها بالتحقيق أيضًا في ما قامت به حركة “حماس” خلال هجومها على مستعمرات غلاف غزَّة يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) من العام الماضي، إلى جانب ردِّ الفعل الإسرائيلي على ذلك.
وهذا يعني أنَّ الفريقين المُتحاربين مُتساويان في الارتكابات غير الإنسانية، وبالتالي لا تعودُ إسرائيل مسؤولة عمّا ارتكبته، وتُحاكَمُ عليه أمام محكمة لاهاي، باعتبار أنها الفريق “المُعتَدى عليه”، وما قامت به تاليًا هو مجرّد دفاعٍ عن النفس.
إنَّ القناعَ الأوسع للإنكار الإسرائيلي هو الظهور أمام العالم بأنَّ القضية الفلسطينية بدأت يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) الماضي. وهذا المنحى ليس جديدًا، بل أسهمت فيه دولٌ عربية منذ عقودٍ عدة. ففي مؤتمر القمة العربية الذي انعقد في دمشق في 29 – 30 آذار (مارس) 2008، تركّزت خطابات بعض الزعماء العرب على المطالبة بالعودة إلى حدود ما قبل حرب حزيران (يونيو) 1967، فوقف الزعيم الليبي آنذاك معمر القذافي وقال لهم: إنكم تتحدثون عن الموضوع وكأنَّ القضية الفلسطينية بدأت في العام 1967!
فالأقنعة التي تعتمدها إسرائيل لإنكار ما تقوم به من أعمالٍ جرميَّة واسعة النطاق في فلسطين المحتلة، يصعب تصنيفها لكثرتها، وتعدُّد استخداماتها. لكن من أهمِّ المراجع التي يُعتدُّ بها في هذا الموضوع كتاب البروفسور الراحل ستان كوهين، أستاذ السوسيولوجيا السابق في “كلية لندن للاقتصاد” بعنوان: “حالات الإنكار: معرفة المجازر والمُعاناة”، الصادر عام 2000. وقد تساءل أحد زملائه في الأيام الأخيرة حول ما كان سيكون موقفه مما جرى ويجري في غزة لو كان اليوم على قيد الحياة (توفي ستان كوهين في العام 2013).
وفي كتابه المشار إليه يُحَدِّدُ كوهين أبرز الأقنعة الإسرائيلية التي درسها في حالاتٍ سابقة. فهو يهودي من جنوب إفريقيا، وكان صهيونيًا في شبابه، لكنه عندما انتقلَ إلى إسرائيل في العام 1980 للعمل في الجامعة العبرية في القدس المحتلة، تخلَّى عن صهيونيته وغادر إسرائيل. وقد انتقد في كتابه انتقادًا لاذعًا طريقة احتضان القوى الليبرالية في العالم لتصرُّفات إسرائيل. وتناولَ في بحثه ثلاثة أوجه من الإنكار الإسرائيلي: أولًا، الإنكارُ المُباشَر أو الحرفي. وهو إعلانٌ صريحٌ ووَقِحٌ بأنَّ ما حدث لم يحدث. ثانيًا، الإنكارُ التأويلي أو التفسيري. وهو الإعلانُ بأنَّ ما حدث ليس كما يُقالُ أو يُظَنُّ. ثالثًا، الإنكارُ الإيحائي أو الالتفافي. وهو الاعترافُ بهَولِ ما حدث، مُرفَقًا بالإيحاء أنه كان لا بدَّ منه، لأنَّ الخطأَ من الطرف الآخر. أي قَلبُ الآية، أو تلفيقُ الحكاية، لإظهارِ المُعتَدى عليه بأنه هو المُعتَدي!
ويقول زميله السابق في “كلية لندن للاقتصاد” كونور غيرتي، وهو الآن أستاذ قانون حقوق الإنسان في مدرسة الحقوق التابعة لها، إنَّ انتشارَ وسائل التواصل الإلكتروني أسقطَ القناعَ الأوّل للإنكار الإسرائيلي، وهو الإنكارُ المباشر بالزعم أنَّ ما حدث لم يحدث. في هذا الموضوع “البحر يُكذِّب الغطَّاس” على قول المثل اللبناني. لكنه تَفَكَّرَ في ما كان يُمكن أن يقولَ زميله الراحل ستان كوهين في القناع الإسرائيلي المُتَحَوِّل بدلًا من الإنكار المباشر، وهو إلقاءُ التُهَم الكاذبة على الطرف الآخر، وإرباكه بمحاولةِ إثباتِ براءته، وهو أمرٌ صعبٌ ويستغرقُ وقتًا طويلًا، فتكون التهمة الكاذبة قد لصقت بالمُتّهم ولو إلى حين.
وفي تقديري أنَّ هذا القناعُ الجديد الذي لَفَتَ إليه البروفسور كونور غيرتي (في مقال مهم نشره في مجلة “لندن ريفيو أوف بوكس”)، مُستَوحى من الاستراتيجيات الفضائحية التي تُطلَقُ فيها شائعات أو إيحاءات غير صحيحة، تُنزِلُ ضررًا فوريًّا بالجهة المُتّهمة، التي يقع عليها عبء إثبات براءتها، فلا ينفعها إعلان حكم ببراءتها لاحقًا، لأنَّ الضرر يكون وقع عليها من قبل.
لكن في النتيجة ما يحدث في الميدان هو الأصدق من جميع الأقنعة، على قول أبي تمام:
السيفُ أصدق أنباءً من الكتبِ   في حدِّه الحدُّ بين الجدِّ واللعبِ
بيضُ الصفائح لا سودُ الصحائف في   متنهنَّ جلاءُ الشكِّ والرَيبِ
وفي الحرب الدائرة الآن، بيض الصفائح هي عظمة القضية الإنسانية التي تحملها مقاومة العدوان والاغتصاب، وسود الصحائف هي وسائل الإعلام المزيَّف المتمرِّس في التزوير.

  • سليمان الفرزلي هو كاتب، صحافي ومُحَلِّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يمكن متابعته عبر موقعه الإلكتروني: sferzli.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى