لبنان: التَّعمِيمُ 151، تعديلٌ مَوعودٌ يُفاضِلُ بَينَ السَيِّئِ والأسوَإِ

البروفسور مارون خاطر*

تَتَرَقَّبُ الأوساطُ الماليَّة والاقتصاديَّة بالإضافةِ إلى المودعين إفراجَ مَصرِف لبنان عن تفاصيل التعديلات المُتنَظرة على التعميم 151 المُنتهي الصلاحية. تقاطعت التكهُّنات والتحليلات المتعلقة بهذا التعميم مع المعلومات المُسَرَّبَة من المصارف ومن مصرف لبنان في خطوةٍ استباقية مُعتادة تهدفُ إلى جَسّ النَّبض، إلى امتصاص الصَّدمة أو الى تبرير الرَّفض. بحسب المصادر نفسها وفي ظل عدم نفي مصادر مصرف لبنان، بات من شبه المؤكد أنه سيكون هناك مبلغٌ شهريٌ من الودائع سيُدفَع بالدولار وأنَّه لن يكون هناك تمييزٌ بين ودائع مؤهّلة وأُخرى غير مؤهّلة. فكل الحسابات المُقَوَّمة بالعملة الصعبة مؤهّلة إن كانت موجودة قبل 17 تشرين الأول (أكتوبر) 2019 أم كان قد تَمَّ تحويلها بعد هذا التاريخ. إلّا أنَّ الودائع المؤهّلة لَن تكونَ جميعُها مُستفيدة. فَمَن يَملُك أكثر من حِساب في المَصرِف نفسه أم في مصارف عِدَّة يستفيد من حساب واحد فقط. كذلك لَن يستفيدَ من مُندَرَجات التعميم الموعود من يَستوفي شروط التعميم 158 ويَستفيد منه. أما الحسابات المُشترَكة وحسابات الذّمَم المعنويَّة فلا مَعلومات حَول مَصيرِها بانتظار ما سيُفصِحُ عَنه مَصرِف لبنان قريبًا كما أُعلن.

يَدفعنا تسارع الأحداث المُتزامن مع حَملة تعويم ودعم واسعة لمصرف لبنان من قِبَلِ أوساطٍ مصرفيَّة وماليَّة واقتصاديَّة إلى التوجُّس مما يظهر وكأنه عودة للحرارة إلى العلاقة بين شركاء الأمس الذين فَرَّقتهم المَصالح المُتضاربة والذين لَم ولَن تَجمعهم سوى السياسة. يَزدادُ توجُّسُنا حينما نَرى، مُستَغرِبين، أنَّ مصرف لبنان ينتظر الحكومة لتحديدِ سعرِ صَرفٍ رسمي للصرف في مشهديةٍ تجعلنا نَستعيد مشهد الثلاثيَّة المُدَمرة التي قَضَت على مستقبلِ مَن يَنتظرون توزيع الفُتات اليوم. أي حل هو ذلك الذي سينتجه لقاء “أركان المُشكلة”؟ إنطلاقًا مما تقدّم نسأل: مَن سيؤمّن تمويل المبالغ بالدولار ومن أين ستأتي الأموال؟ هل تتعاون المصارف مع مصرف لبنان بعد مذكّرة “رَبط النزاع” التي ضَجَّت بها الأوساط؟ إذا كانت المصارف قادرة على الدفع، فلماذا تَمَلمَلَت إذًا يوم صَدَرَ التَّعميم 158، ولماذا لم تُبادر إلى الدَّفع مِن قَبل منعًا لتذويب الودائع؟ نسأل أيضًا إن كان مصرف لبنان يسير بالحل من دونِ ضوءٍ أخضر من المصارف. إلَّا أنَّ السؤال الأهم الذي يطرح نفسه في هذه المرحلة يَبقى: هل يرتكز التعديل الموعود إلى دراسةٍ تؤمّن استدامته أم أنه سيكون خطوةً ناقصة مقصودة تنتهي يوم يتمُّ الاتفاق بالتراضي على سعرِ صرفٍ جديد تنطلق على أساسه مِنَصَّة بلومبيرغ القابِضَة على الليرة فيتوقف الدَّفع بالدولار؟ واستطرادًا نسأل: هل يَهدُفُ التَّعديل إلى جدولةِ مبلغٍ من الودائع على فترة زمنيَّةٍ خياليةٍ باتَ حِسابُها مُمكنًا مما يجعل ما تَبَقَّى من الودائع مشطوبًا بفعل مُرورِ زَمَنٍ غيرَ مُعلَن؟

تَبقى كُلُّ هذه التساؤلات في غرفة الانتظار إلى حين موعد الكلام المُباح. إلَّا أنَّ الوقتَ الفاصل لا يُغيّر في الحقيقة شيئًا. فَسَدَادُ الودائع سيبقى مسؤوليةً مشتركة تتقاسمها الدولة مع المركزي والمصارف متكافلين كلٌ بحسب تورطه بالأزمة. في سياقٍ مُتَّصِل، تبقى الودائع أمانةً في أعناق المصارف وأصحابها وهي لا تُرَدُّ على سِعر صرف رسمي قد يَبتعِدُ من سعر السوق في أيِّ لحظة، بل على سعر السوق نفسه أو بعملة الحساب وكل ما دون ذلك مرفوضٌ رَفضًا قاطعًا. كذلك مرفوضٌ هو الترويج لضمانِ جُزءٍ من الودائع بسندات خزينة تُصدرها شبه دولة متعثّرة! ماذا لو كان تعديل التعميم 151 ممرًّا مشبوهًا لتُعاد الودائع على سعر الصرف الرَّسمي فتظهر الحقيقة متأخّرة بعد أن يَنسابَ غُبار الانتصار والتهليل. في الوقت بَدَل الضائع لم تغادر “الزَفَّة” أروقة المركزي وساحته احتفاء بالبطولات والانجازات وهي اليوم تحتفل بقرب موعد توزيع فتات الودائع على أصحاب المال. إن رأى التعديل العظيم النُّور سَيَحصل والدي أستاذ الرياضيات في المدرسة الرسمية طيلة 41 سنة على مبلغٍ يفوق بدولارات قليلة راتبه التقاعدي الذي تَمُنُّ عليه به دولته التي ربَّى أجيالها وسيتقاسمه مع والدتي معلمة اللغة الفرنسية والإدارية على مدى 43 عامًا إذ أنَّ حسابهما مُشتَركًا. سيَجني أبي وأمّي 150 دولارًا لا  تُغطّي رُبع كلفة علاجهما الشهري بعد أن دَفَنا ما اختزناه داخل أسوار المصارف. الإذلال والتهليل لا يلتقيا عند مَن لديه كرَامة وعِزَّة!

لا حَلَّ خارج إطار عقدٍ سياسي وطني يُنتج رئيسًا للجمهورية وحكومة وعدالة ومحاسبة وتوزيعًا عادلًا للخسائر. لا حَلَّ ما لم تَمنع القُضبان مَن تَسبَّبَ بالآلام من أن يَدَّعي امتلاك العِلاج!

لا يُداوي التضميد داءً عُضال ولا يَبني التَّماهي الأوطان ولا تُفضي معالجة النتائج بدون الأسباب إلى الحلول. أما المُفاضلة بين السيّئ والأسوَإِ، بين “اللاشيء” و”أي شيء”، بين “شبه الدولة” والعَدَم، بين مَن يحكمون لبنان اليوم والفراغ، فتكريسٌ لواقعٍ مرير مُستدام أوَّلُه “زفَّة” وآخره “زَفَّة” الى أن يَقضي الله أمرًا…

أعان الله لبنان!

  • البروفِسور مارون خاطر هو أكاديمي لبناني، كاتب وباحث في الشؤون الماليَّة والاقتصاديَّة. يمكن متابعته عبر تويتر على: @ProfessorKhater

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى