الحربُ على غزّة يجب أن تنتهي بحلولِ السلامِ العادلِ والشاملِ والدائم

الرئيس فؤاد السنيورة والدكتور باسم الشاب*

لا بدّ من أن تُشكّلَ النهاية النهائية للحرب التي تشنّها إسرائيل في غزة حافزًا للسلام الشامل مع العالم العربي على أساس حلّ الدولتين. إنَّ الفرصةَ لتحقيقِ سلامٍ حقيقي وواسع النطاق هي فرصةٌ حقيقية لا ينبغي أن تحجبها ضبابية الحرب، وحيث يجب ألّا يقتصر الحوار حول المستقبل على التداول بمستقبل غزة، بل أن يكونَ السلامُ شاملًا، بحيث يتم الاتفاق على التوصّل إلى حلٍّ كاملٍ وعادلٍ ودائمٍ وناجزٍ للقضية الفلسطينية.

لقد كان العالم العربي على استعداد لصنع السلام منذ أن جرى اقتراح مبادرة السلام العربية في بيروت في العام 2002. ولا يزال هذا الالتزام حيًّا إلى يومنا هذا. ولذلك يتعيّنُ على إسرائيل أن تغتنمَ هذه الفرصة، وذلك يمكن أن يؤذن بدخول منطقة الشرق الأوسط في عصرٍ وزمانٍ جديدَين يسود فيهما السلام والاستقرار وتحقيق النهوض.

إنّه، وعلى الرغم من ضراوة ووحشية القصف والخسائر الفادحة التي تحصد أرواح عشرات الألوف من المدنيين الأبرياء، وغيرهم أكثر بكثير من الجرحى والمكلومين في غزة، فإنَّ هذا الصراع يظلّ محصورًا، وإلى حدٍّ كبير- وحتى الآن- بكونه مواجهة إسرائيلية-فلسطينية، وبشكلٍ أكثر تحديدًا، فإنَّ هناك وعلى نطاقٍ واسعٍ في العالم العربي مَن يعتبره على أنّه لا يزال صراعًا ما بين إسرائيل وحركة “حماس”، والتي هي ليست بدولة ولا تُختصرُ منظمة التحرير الفلسطينية بها. وهذا أمرٌ مهم، خصوصًا أنَّ الوضعَ في الضفة الغربية لا يزال مضبوطًا حتى الآن على الرُغم من أنه قابلٌ للاشتعال.

لقد راهنت الدول العربية على التسوية السلمية للقضية الفلسطينية، وهي ما زالت تفعل، بل هي مُصَمِّمة على ذلك. فقد اجتَمَعَت أخيرًا -وللمرة الأولى- 57 دولة عربية وإسلامية في الرياض في المملكة العربية السعودية ودعت إلى حلٍّ سلمي عادلٍ وشاملٍ للصراع الفلسطيني-الإسرائيلي، وذلك على أساسِ حَلِّ الدولتين، مؤكّدةً بذلك التزامها بمبادرة السلام العربية. هذا علمًا أنّه وعلى الرُغمِ من أنَّ إيران أعربت في وقتٍ لاحقٍ عن تحفّظاتها من خلال وزارة خارجيتها، إلّا أنّها وافقت على البيان الختامي لذلك المؤتمر.

في الردّ على الفظائع التي ترتكبها إسرائيل في غزة، فقد التزمَ العالم العربي بالردِّ عليها بالإدانة، ولكن الأهم من ذلك، في أنّه لا يزال يلتزمُ بالطرق الديبلوماسية. وبالتالي لم تصدر أيُّ تهديداتٍ عسكرية من أيِّ دولةٍ عربية تُجاه إسرائيل. وفي هذا السياق، فقد حدّد العاهل الأردني الملك عبد الله الثاني أخيرًا الخطوطَ العريضة للحلِّ السلمي للصراع العربي-الإسرائيلي في مقالٍ افتتاحي نشره في صحيفة “الواشنطن بوست”. كما إنه، وخلال اجتماع مؤتمر المناخ “COP-28” الأخير الذي انعقد في دبي، التقى أمير قطر الشيخ تميم بن حمد آل ثاني، وكذلك رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، بالرئيس الإسرائيلي إسحاق هرتزوغ، على الرُغم من معرفتهما بالغضب الذي يعتصر مواطنيهما، بسبب ما يحدث في غزة، وذلك كإثباتٍ على الإيمان العميق بضرورة التوصّل إلى حلٍّ سلميٍّ عادلٍ وشاملٍ ودائمٍ لهذا الصراع العربي-الإسرائيلي.

كذلك، فإنّ كلًّاً من الأردن ومصر اللتين لديهما حدودٌ مشتركة مع إسرائيل، عبّرتا بأنهما مُلتَزمتان بالسلام الدائم مع إسرائيل، ولا تزالان تقاومان انفعالات الغضب الداخلي ضد ما يجري في قطاع غزة والضفة الغربية، وذلك من أجل أن تبقى جذوة السلام قائمة ومُمكنة. وعلى صعيدٍ آخر، لا تُظهِرُ سوريا أيَّ استعدادٍ لديها للانضمام إلى المعركة العسكرية الدائرة هناك. في الواقع، حتى النظام السوري كان سلبيًا، ولم يتحدّث إلّا عن تأييدٍ لفظي لـ”حماس”، وهي التي ناصبته العداء طوال الحرب الأهلية السورية.

أما في لبنان، فلا يزال المسؤولون الحكوميون اللبنانيون، وكذلك الأكثرية الساحقة من اللبنانيين، يعارضون التصعيد ويرفضون انزلاق بلدهم نحو حربٍ مُدَمّرة.

صحيحٌ أنَّ هناكَ صراعًا محدودَ الحدّة ومضبوطًا مع “حزب الله” ولا يزال الاشتباك مُستَمِرًّا بينه وبين إسرائيل، وصحيحٌ أنَّ هناك احتمالات في أن يتصاعد هذا الصراع نحو حربٍ مُدمِّرة، وذلك ما لم تتدخّل الديبلوماسية الأميركية النشيطة لقطع الطريق على الانزلاق نحو الحرب، وبالتالي لا يزال من الممكن تجنّب حربٍ أوسع نطاقًا.

قبل 7 تشرين الأول (أكتوبر)، اتفقت إسرائيل و”حزب الله” بشكلٍ ضمني على قواعد اشتباك، بما أبقى حدود إسرائيل مع لبنان هادئة نسبيًا، وبالتالي شهدت تلك الفترة قيام “حزب الله” بتسهيل عقد اتفاقٍ بحري مع إسرائيل لتحديد حدود المنطقة الاقتصادية الخالصة بين البلدين. وفي هذا الصدد أيضًا، تشير تصريحات الأمين العام لـ”حزب الله”، السيد حسن نصرالله، والمرشد الأعلى الإيراني، علي خامنئي حتى الآن، إلى أنَّ إيران و”حزب الله” ليسا على استعدادٍ ليذهبا بعيدًا في دعم “حماس”. صحيحٌ أنّ “حزب الله” يُشكّلُ خطرًا حقيقيًا على إسرائيل، ولكنه لا يُشكّلُ تهديدًا وجوديًا لها.

إنَّ تصنيفَ التهديد على أنه غير وجودي لا يعني استبعاده أو عدم وجوده، حيث يعرف الإسرائيليون جيدًا أنَّ إيران ووكلاءها يُشكّلون تهديدًا مُماثلًا أو حتى أكبر للدول العربية. ومن ذلك، فإنَّ الصواريخ الحوثية العديدة التي أُطلِقَت على إسرائيل يتضاءل عددها مُقارنةً بالمئات من الصواريخ التي أطلقها الحوثيون على المملكة العربية السعودية. كذلك، ومن جانبٍ آخر، تُشكّلُ الميليشيات الشيعية العراقية الخاضعة للسيطرة الإيرانية خطرًا أكبر على الدولة العراقية ربما أكبر من خطرها على إسرائيل. ومما لا شكّ فيه أنَّ احتضانَ إيران للإسلامِ المُتطرّف يؤدي إلى زعزعة استقرار أوضاع الزعماء المُعتدلين في العالمَين العربي والإسلامي وبلدانهم. والإسرائيليون بشكلٍ عام لديهم التخوّف ذاته والموقف ذاته في ما يتعلق بالبرنامج النووي الإيراني. وهذا الفهم المُشترك للصورة الجيو-استراتيجية الإقليمية يمكن ان يُشكِّلَ عنصرًا داعمًا لما يُسمى “الاتفاقات الإبراهيمية” التي في جوهرها يجب ان تدعو لتحقيق السلام العادل والشامل والدائم.

ولكن، وفي ضوء ذلك كلّه، يتعيّن على الإسرائيليين أن يُدرِكوا أنَّ أفضلَ علاجٍ للتوسّع الإيراني هو التوجّه –من دون إبطاء نحو اعتماد وتبنّي حلّ الدولتين مع الفلسطينيين مع كل صعوباته، وذلك ليعمّ السلام العادل والشامل والدائم.

قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، كان هناك عددٌ قليل من الإسرائيليين يعتقدون أنَّ الوضعَ الفلسطيني الراهن يمكن أن يُشَكِّلَ تهديدًا وجوديًا لإسرائيل، بل إنَّ عددًا أقل من الناس كانوا يعتقدون أنَّ الانتهاكات المُتكَرّرة في المسجد الأقصى واستفزازات المستوطنين الجامحة في الضفة الغربية يمكن أن تؤدي إلى ردود الفعل الغاضبة التي رأيناها بعد ذلك. وبالفعل، كان لدى إسرائيل اعتقادٌ خاطئ بأنَّ الحوافزَ الاقتصادية والاسترضاءات المعيشية البسيطة للفلسطينيين من شأنها أن تَحُولَ دون أن تُبادرَ “حماس” إلى الدخول في مواجهةٍ عسكرية كبرى مع إسرائيل. كما كانت إسرائيل تعتقدُ أنَّ السلامَ الاقتصادي يُمكِنُ أن يتحقّقَ مع العالم العربي حتى مع الإبقاء على الاحتلال الإسرائيلي للضفة الغربية والمناطق العربية الأخرى المحتلة، وأنَّ ذلك يمكن أن يكونَ بديلًا من سلامٍ شاملٍ ودائمٍ في المنطقة. لقد كان البعض يعتقد –ويا للأسف- أنَّ الوضعَ الراهن يُمكنُ أن يكونَ مُستدامًا، وكان كثيرون يعتقدون أنَّ أيَّ جهدٍ جاد لمعالجة الصراع العربي-الإسرائيلي الذي لم يتم حلّه إلى الآن هو أمرٌ غير ضروري ويمكن القفز فوقه.

إنَّ الأحداثَ المأسوية التي وقعت يوم السابع من تشرين الأول (أكتوبر) والمذابح التي تلت ذلك في غزة والضفة الغربية ليست بالفعل سوى نتيجة للتطرف القاتل وللديبلوماسية الفاشلة والتواطؤ الغربي الذي ساد على مدى العقود الثلاثة الماضية، ومنذ مؤتمر مدريد واتفاق أوسلو، وبالتالي، فإنَّ تمنيات إسرائيل بأنَّ الوقتَ سوف يؤدّي إلى تآكل ما تبقّى من هويةٍ للفلسطينيين وتطلّعهم وتصميمهم على أن يكون لهم وطنٌ ودولة مستقلة. لكن الحقائق على الأرض أثبتت أنَّ هذا الاعتقاد كان خطأً كبيرًا، وأنَّ القضية الفلسطينية غير قابلة للتصفية. وعلى الرُغم من أنَّ العددَ الكبير من القتلى الذي سقط في السابع من تشرين الأول (أكتوبر) قد أقنع الإسرائيليين بأنهم مُعَرَّضون للخطر عسكريًا، فإن ضعفهم الحقيقي لن يختفي ويزول من دون التوصل إلى تسويةٍ سلمية عادلة ومُنصِفة للصراع العربي-الإسرائيلي.

لقد صرّح الرئيس جو بايدن في مقالٍ افتتاحي في صحيفة “الواشنطن بوست” بشكلٍ قاطعٍ بأنَّ “حلَّ الدولتين هو السبيلُ الوحيد لضمانِ الأمنِ والسلامِ في المدى الطويل لكلٍّ من الشعبين الإسرائيلي والفلسطيني”، مع أنه كان من الممكن للرئيس بايدن أن يضيف: “وكذلك للمنطقة بأكملها”.

إننا نعتقدُ أن أيدي العالم العربي ممدودة إلى إسرائيل. ومن المفيد للقيادة الإسرائيلية التي يُفتَرَضُ بها أن تتمتَّعَ ببُعدِ النظر والحكمة والتبصّر أن تردّ بالمثل، وأن تبدأ العمل مع شركائها على صياغة سلامٍ حقيقي دائمٍ وعادلٍ وهادفٍ ومُنصف.

  • الرئيس فؤاد السنيورة هو رئيس الحكومة اللبنانية سابقًا (تموز (يوليو) 2005 – تشرين الثاني (نوفمبر) 2009).
  • الدكتور باسم الشاب هو سياسي ونائب سابق في البرلمان اللبناني.
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في صحيفة “واشنطن بوست” (واشنطن) وصحيفة “النهار” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى