في الذكرى 110 لولادته: أَلْبِر كامو في بُؤْس مُقَنَّع (1 من 3)

أَلبر في طفولته مع شقيقه البكْر لوسيان

هنري زغيب*

لا يزال نصُّهُ يثير الجدَل: هل تشاؤُمُه وإِغراقه في النوبات العبَثيَّة ردةُ فعلٍ على نشأَته ومرض السل الذي هاجمه من يفاعته؟ أَم هو الضياع في الهوية بين أرضه الأم الجزائر وأرض فرنسا التي استوطنها؟

في الكلام على الوجودية، يتخذ أَلبر كامو حيِّزًا واسعًا تجلى في معظم مؤلفاته المسرحية والروائية والقصصية والبحثية الفكرية.

هذه الثلاثية لتكشف بعض ما يُظهر شخصية كامو الذي، برغم حياته العاطفية الباسمة، بقي صمته غارقًا في بؤس مُقَنَّع.

نصب تذكاري له حيث وقع حادث السيارة

النشْأَة البائسة

في الذكرى 110 على ولادته، نعود إِليه فإِذا به ما زال ضالعًا في الحياة الأَدبية لدى كلِّ لغة تُرجِمَ إِليها.

ظَّلَّ وفيًّا لنشأَته الأُولى في الجزائر حيث وُلدَ نهار الجمعة 7 تشرين الثاني/نوفمبر 1913 في بلدة موتوفي (حاليًّا تغيَّر اسمُها إِلى الذرعان، في ولاية طارف الجزائرية). وهي قرية فقيرة زادت من بؤْسه فيها وفاةُ والده الفرنسي لوسيان أُوغست سنة 1914 قتيلًا في إِحدى معارك الحرب العالمية الأُولى، فنشأَ يتيمًا وفقيرًا مع شقيقه البكر لوسيان جان في حمى والدته الإِسبانية كاترين الأُميَّة شبه الصَمَّاء. ذاك الفقر في طفولته طبَعه لاحقًا في شخصيته وكتاباته.

انصرف باكرًا يعوِّض عن بؤْسه في الرياضة (السباحة وكرة القدم) ثم انصرف عنها لإِصابته بالسل سنة 1920. لكنه قاوم الصعوبات بذكائه الباكر ورزانةٍ وتصميم. بعد تخرُّجه من ثانوية عبد القادر انتسب سنة 1933 إِلى قسم الفلسفة في جامعة الجزائر. وانتقل إِلى باريس سنة 1940 ليقيم فيه بقية حياته.

بلاطة ضريحه

المخطوطة “الشهيدة”

من مظالم القدَر على كامو أَنه، يوم مقْتله في حادث السيارة الرهيب (4 كانون الثاني/يناير 1960)، كانت معه مخطوطة كتابه غيرُ المكتملة: “الإِنسان الأَول” (وصل إِلى الصفحة 144)، بدأَ يكتبُها ببطْءٍ قبل 7 سنوات من وفاته، وظهَرَت بذورٌ منها في كتابه الأَول “الوجهُ والوجهُ الآخَر” (1937)، فهو إِذَن نوى أَن يكتب سيرته بما فيها من بؤْس باكر ومصاعب لاحقة.

ليس في المخطوطة (أَصدرتها لاحقًا ابنتُه كاترين سنة 1994 – بعد 44 سنة بعد وفاته) سوى مرحلتين من حياته: الطفولة والمراهقة وسْط ذاك الحي الجزائري الفقير في رعاية أُمه الأُمِّيَّة (وإِليها كاترين أَهدَت الكتاب).

من هذا الكتاب، ولو غير المنتهي، تظهر رغبة كامو لا في مجرَّد سرد فصول من حياته الشخصية، بل سرد حياته الأَدبية كما كان يرغب في سردها. من هنا أَنه مرَّ في دورات متعددة بين العبَثية والثورة، لكنه كان يريد التركيز مطوَّلًا على حياته العاطفية وحبه الكبير كما عاشه مع الممثلة ماريا كازاريس.

غلاف كتاب عبدالله نعمان

ذاك الحي القسنطيني

من تلك المطالع ما سرد عن ولادته في ذاك الحي القسنطيني الجزائري وفْق ما تخيَّله إِذ لم يروِ له عنه أَحد. فوالدُه قُتِلَ وكان الطفل في عامه الأَول، ووالدتُه شبه الصماء كانت قليلة الكلام إِنما كثيرة الحنان. نشأَ في حي بلكور (لاحقًا بات اسمه بلوزداد). وفي الشارع المخنوق بالغبار عرَف مع أَترابه أَلعابًا كانوا يخترعونها ببراءة الأَطفال الفقراء. وكثيرًا ما كان أَلبر يقصد وحده “حديقة التجارب” (في قلب العاصمة الجزائرية من شارع محمد بلوزداد إِلى شارع حسيبة بن بو علي) وهي متحف واسع (32 هكتارًا) جميل في قلب الطبيعة أَشجارًا ونباتات، فيهنأُ إِلى مدرجها ويحلُم بالبعيد، هربًا من جوِّ البيت حيث الأُم تشقى في تنظيف البيوت لتُؤَمِّن الإِعالة، وأُمُّها المتسلطة في تربية الحفيدَين، وأَخوها السكِّير الفظ.

الأُستاذ ذو الفضل

شخصٌ واحد كان رحيمًا معه: أُستاذه في الثانوية لويس جرمان. بقي أَلبر وفيًّا له وسيُهديه لاحقًا خطابه الشهير لدى تسلُّمه في ستوكهولم جائزة نوبل للأَدب (10 كانون الأَول/ديسمبر 1957).

منذ تشجيع ذاك الأُستاذ في الثانوية، بدأَ باكرًا يعرف براعم الشهرة متميِّزًا عن جميع أَترابه، فبرز اسمه مرارًا في الصحف الجزائرية عدَّاءً في جامعة الجزائر. وإِذ لم تكن لديه كتُب في البيت، كان يدلف إِلى مكتبة الحي البلدية، ويلتهم الكتب تباعًا (خصوصًا من الأَدب الفرنسي الكلاسيكي) ويزداد اطِّلاعًا وثقافة. وأَثَّر فيه عميقًا كتاب “الأَغذية الأَرضية” لأَندريه جيد (1869-1951)، ففتح له آفاقًا بعيدةً على جمالات الطبيعة في فرنسا.

كانت ثانوية الجزائر على مدخل “باب الوادي” شمالي العاصمة الجزائرية، فكان الفتى يأْنس في الذهاب إِليها بالقطار، ويهنأُ إِلى منظر الخليج وهو ينظر من نافذة القطار إِلى صفحة البحر. لكن إِصابته بالسل وهو في السابعة عشرة، حرمتْه من تلك الهناءة، ومن نجاحه حارسَ مرمى فريق كرة القدم الجامعي، ومن إِمكان أَن يكون لاحقًا أُستاذًا يسدي إِلى تلامذته حب المسرح والفكر المتوسطي. لكنه تغلَّب على ذاك الحرمان بنجاحه لاحقًا في العمل الصحافي. وإِذ أَكمل في الجامعة كان أُستاذُ الفلسفة فيها جان غرونييه (1898-1971) أَطْلعه على كتاب “الأَلَـم” للكاتب والشاعر الفرنسي أَندريه دو ريشو (1907-1968)، وهو سيرة ولد فقير عاش مع أُمه الفقيرة وعانى من الحرمان والفاقة. وأَثَّر في أَلبر أَيضًا كتابُ “الجُزُر” (1933) لأُستاذه جان غرونييه وفيه العبارة الشهيرة: “إِنها رموز توحي بحياة رجل مجرد من كل ما يُفرح في الحياة”، لذا كتب له أَلبر كامو مقدمة الطبعة الثانية وفيها: “حين بدأْتُ أَقرأُ هذا الكتاب، كنتُ على شعور بأَنني ربما سأَكون كاتبًا. لكنني، بعدما قرأْته، قررتُ فعلًا أَن أَكونه”.

الخلاص في الأَدب؟

هذا اللجوء إِلى الأَدب، ربما كان خلاصَه، أَو بعضَ خلاصه، من أَشباح البؤس، كما عبَّر عن ذلك الكاتب اللبناني عبدالله نعمان في كتابه الممتاز بالفرنسية “الموت وكامو” (1980، منشورات نعمان للثقافة-جونيه)، ومنه: “عاش في المنطقة الوُسطى بين البؤْس والشمس، ونمَت آثارُهُ في جوٍّ من الإِنسانية المبنيَّة على وعيِه عبثيةَ الوضع البشري وعلى الثورة، جوابًا عمَّا يفرضه العبَث المؤِدي إِلى الفعل ليعطي معنى الوجود. ولأَنه كان يعاني من وهن صحته الذي أَبعده عن التدريس الجامعي، لعلَّه وَجد ملجأً في الأَدب. سوى أَن هاجس الموت ظلَّ يرافقه حتى آخر خطواته فقصف القدَر باكرًا حياته التي قضاها، عبثيًّا كذلك، في خدمة الكلمة”.

ما العوامل التي أَبقَتْهُ، رغم نجاحه، غارقًا في العبَث المالح؟

هذا ما أُفصِّلُه في الجزء الثاني من هذه الثلاثية.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى