حدودُ التقارب السعودي-الإيراني

كابي طبراني*

حَظِيَ اتفاقُ التقاربِ السعودي-الإيراني الأخير الذي توسّطت فيه الصين، والذي أعادَ العلاقات الديبلوماسية بين الدولتين المُتنافستين في الخليج العربي بعد حوالي سبع سنوات، باهتمامٍ إعلاميٍّ واسع. وَجَدَ العديد من المُعلّقين والمُحلّلين السياسيين أن الصفقة مُهمّة ليس فقط لتأثيرها في العلاقات السعودية-الإيرانية ولكن أيضًا لتداعياتها على السلام والاستقرار الإقليميين ودور الصين في السياسة الدولية. وقد اعتبرَ بعض المُعلّقين هذا الاختراق الديبلوماسي تحوّلًا زلزاليًا سوف يؤدّي إلى إعادة ترتيبٍ استراتيجي ونظامٍ إقليمي جديدين في الشرق الأوسط، بينما قلّلَ آخرون من شأنه باعتباره تسوية سياسية سريعة الزوال لن تدوم طويلًا ومحكومٌ عليها بالفشل.

من وجهةِ نظرٍ تاريخية سائدة منذ أمدٍ طويل، من المرجح أن تقع نتيجة التقارب السعودي-الإيراني بين هذين النقيضين. الظروف الهيكلية تمنع البلدين من تكوين تحالفات استراتيجية، لكنها لا تمنعهما من إدارة واستقرار تنافسهما ومنع عسكرته.

السؤال الحاسم هو ما إذا كان يمكن للحكومتين التوافق استراتيجيًا في المستقبل، وإذا كان الأمر كذلك، في ظلِّ أيِّ ظروفٍ قد تُشكّلان مثل هذه العلاقة. غالبًا ما يرفض المُشكّكون إمكانية التوافق الاستراتيجي بين المملكة العربية السعودية وإيران على أُسُسٍ جوهرية وبدائية. وهم يشيرون إلى التنافس التاريخي والعداوة بين الفرس والعرب -إلى جانب الاختلافات الفقهية والصراعات التاريخية بين المذاهب الإسلامية السنّية والشيعية- باعتبارها العوائق الرئيسة أمام التوافق الاستراتيجي بين البلدين. كما يشيرون إلى التنافس بين الدولتين على زعامة العالم الإسلامي على أنه يمنعُ أيَّ اتفاقٍ استراتيجي.

على الرُغمِ من أنه قد يكون هناك بعضُ الحقيقة في هذه الحجج، إلّا أنها ليست المُحرّك الرئيس لتوجّهات السياسة الخارجية للبلدين التي غالبًا ما تتفوّق عليها اعتباراتٌ استراتيجية أوسع. لا يتطلب الأمر تحقيقًا صارمًا لاستبعاد دور العوامل الثقافية الدينية والأساسية في تحديد الاصطفافات الإستراتيجية بين طهران والرياض. علاقات إيران الودّية مع أرمينيا المسيحية على حساب أذربيجان الشيعية، وانحيازها للمنظّمات الفلسطينية السنّية المسلحة على الرُغم من هويتها الشيعية، وعلاقاتها الاستراتيجية مع روسيا والصين على الرُغم من سوء معاملتهما للأقليات المُسلمة، وشراكتها الاستراتيجية مع مختلف الدول غير الإسلامية والعلمانية في أميركا اللاتينية ليست سوى بعض الأمثلة التي تدعمُ هذا التقييم. يُمكنُ قول الشيء نفسه عن تحالفات السياسة الخارجية للمملكة العربية السعودية، مثل علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة وعلاقاتها المتنامية مع الصين وروسيا. كما أن التنافس بين إيران والسعودية على قيادة العالم الإسلامي ليس بارزًا أيضًا في السياق السياسي الإقليمي والعالمي الحالي حيث يُعطي كلا البلدين الأولوية للأهداف الوطنية الأكثر إلحاحًا والأكثر أهمية للتنمية الاقتصادية والأمن على المكانة والهيبة الدوليتين.

ما يمنع الدولتين من تشكيلِ تحالفٍ استراتيجي هو كيفية تموضعهما داخل التوزيع العالمي الحالي للسلطة والنفوذ. تُحدّدُ هذا الأمر مصادرُ مختلفة تهدّد النظامين على المستويين الدولي والمحلي، ما يجعلهما لا يتعارضان مع الشراكة الاستراتيجية فحسب، بل يجعلهما أيضًا مُنافِسَين يُشكّلُ كلُّ واحدٍ منهما تهديدًا مُحتَمَلًا للآخر. بسبب تجاربها التاريخية مع السيطرة الاستعمارية، بما فيها العلاقة التَبَعية لنظام الشاه مع واشنطن، شكّلت الثورة الإسلامية في العام 1979 إيران كدولةٍ مُناهِضة للهيمنة وعرّفت الولايات المتحدة بأنها التهديد “الآخر” الخارجي وأكبر خطرٍ وجودي على الجمهورية الإسلامية بعد الثورة.

على هذا النحو، أصبحت مُعارَضةُ الهيمنة والنفوذ الأميركيين في المنطقة من عقيدة السياسة الخارجية الإيرانية ووسيلةً لتأمين وضمان الثورة وحماية استقلال إيران. من جهة أُخرى، أصبح العديد من حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة منافسين أو أعداءً لإيران ما بعد الثورة. وكونها أكبر دولة عربية وأكثرها نفوذًا في منطقة الخليج العربي ونظرًا إلى علاقتها الخاصة والوثيقة مع الولايات المتحدة، أصبحت السعودية مُنافسًا طبيعيًا للجمهورية الإسلامية. على الرغم من بعض فترات عودة العلاقات إلى طبيعتها وانفراجها بين البلدين، فقد تمسّك المسؤولون الإيرانيون بهذه النظرة تجاه السعودية على مدى العقود الأربعة الماضية.

في المقابل، شكلت الرياض علاقة تحالف طويلة الأمد مع واشنطن، حيث تلبي الثانية الاحتياجات الأمنية للأولى من خلال شراكة خاصة بينهما. حددت هذه العلاقة إلى حدٍّ كبير مصادر التهديد الخارجية والداخلية للحكومة السعودية. فقد اعتُبِرَت الجهات الفاعلة الحكومية وغير الحكومية، التي تُعارِضُ بشدة النظام والهيمنة اللذين تقودهما الولايات المتحدة في الشرق الأوسط، تحدياتٍ أمنية رئيسة للنظام السعودي. وتندرج الجماعات السياسية الإسلامية والأنظمة الثورية العلمانية في الشرق الأوسط تقليديًا ضمن هذه الفئة. مع سقوط العديد من الأنظمة العربية العلمانية القومية والاشتراكية -بما في ذلك جمال عبد الناصر في مصر، وصدام حسين في العراق، ومعمر القذافي في ليبيا- يُنظَرُ إلى إيران على أنها التحدّي الأكبر للمصالح الأمنية للمملكة ونفوذها في المنطقة. على الرغم من أن الجماعات السياسية الإسلامية لا تزال تُشكّلُ تهديدًا تخريبيًا مُحتَمَلًا للرياض، فقد اعتبرها الحكام السعوديون أقل تهديدًا من “رأس الأفعى”، وهو مصطلح استخدموه للإشارة إلى إيران. بصفتهما أقوى دولتين في منطقة الخليج العربي، تنافست إيران والسعودية على الهيمنة الإقليمية حتى أثناء حكم الشاه. ولكن بسبب نزعتهما المتطابقة تجاه التوزيع العالمي للسلطة والنفوذ، كان التنافس بينهما صامتًا ولم يقترب أبدًا من مستوى حدة التنافس السعودي-الإيراني في فترة ما بعد الثورة.

لكن هذا لا يعني أن إيران والسعودية لا تستطيعان تحقيقَ انفراجٍ أو الحفاظ على علاقات ديبلوماسية طبيعية. في الواقع، شهدت الدولتان علاقات ودية نسبيًا خلال معظم فترات الرئيسين الإيرانيين أكبر هاشمي رفسنجاني (1989-1997) ومحمد خاتمي (1997-2005)، وحافظتا على علاقات ديبلوماسية طبيعية حتى كانون الثاني (يناير) 2016 عندما داهمت مجموعة من الرعاع مقر السفارة السعودية في إيران للاحتجاج على إعدام السعودية رجل دين شيعي بارز. على الرُغم من أن التقارب الديبلوماسي الأخير الذي توسّطت فيه الصين لا يُنهي التنافس السعودي-الإيراني، إلّا أّنَّ لديه القدرة على منع النزاعات المسلحة المباشرة والمساعدة على إحلال السلام والاستقرار في مناطق الصراع والتنافس الحالية في المنطقة، وعلى الأخص في اليمن وسوريا وربما في لبنان.

من خلال تخفيف المخاوف الأمنية وتمكين البلدين من تقليص مشاركتهما في مناطق الصراع الإقليمية، قد تسمح هذه العلاقة الجديدة للطرفين التركيز على الأولويات المحلية الأكثر إلحاحًا. قد تكرس السعودية طاقاتها بشكل كامل لرؤية التنمية الاقتصادية 2030 والإصلاحات السياسية مع تقليل القلق بشأن الهجمات الجوية على البنية التحتية الحيوية للنفط والغاز. وبالمثل، ستكون إيران قادرة على تخصيص المزيد من الموارد للتعامل مع تحدياتها السياسية والاقتصادية المحلية، واثقةً من أن تحالفًا عسكريًا إقليميًا بين إسرائيل والدول العربية في الخليج العربي لن يتشكّل ضدها.

باختصار، إن التسوية الديبلوماسية الأخيرة بين المملكة العربية السعودية وإيران لا تُغَيِّرُ قواعد اللعبة ولن تؤدّي إلى إعادة تنظيم وترتيب استراتيجيين في المنطقة. ومع ذلك، لا ينبغي رفضها قبل الأوان على أنها تافهة ومشؤومة أيضًا. لقد أظهر البلدان في الماضي أنهما قادران على تحقيق انفراج. لا يوجد ما يشير إلى أنهما لن يكونا قادرَين على إبقاء التنافس بينهما ضمن حدودٍ يمكنُ التحكّم فيها ومنع عسكرته هذه المرة أيضًا.

  • كابي طبراني هو ناشر ورئيس تحرير مجلة وموقع “أسواق العرب” الصادرَين من لندن. ألّف خمسة كتب بالعربية والإنكليزية من بينها “شتاء الغضب في الخليج” (1991)، “الصراع الإسرائيلي-الفلسطيني: من وعد بلفور إلى إعلان بوش” (2008)؛ “كيف تُخطّط إيران لمواجهة أميركا والهَيمَنة على الشرق الأوسط” (2008)؛ و”معاقل الجهاد الجديدة: لماذا فشل الغرب في احتواء الأصولية الإسلامية”، (2011). يُمكن متابعته عبر تويتر على: @GabyTabarani

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى