شمسٌ ليلية في مسرح كركلَّا

هنري زغيب*

حين دخلْنا إِلى مسرح كركلَّا (في مجمَّع الإِيفوار – سن الفيل) كان في بالنا ما نعرفه مسْبَقًا عن مسرح كركلَّا من تزاوج جمالي منسَّقٍ بين الرقص والموسيقى والغناء والتمثيل والملابس والديكور. غير أَن عبدالحليم كركلَّا المتعدِّدَ المواهب، إِحدى مواهبه ابتكارُ إِدهاشٍ جديدٍ مع كلّ عملٍ جديد.

دخلْنا نحضر مسرحيته الحالية “فينيقيا الأَمس واليوم” فأَخَذَنا بجُرأَةٍ إِلى ماضينا، وأَعادَنا بمتعةٍ إِلى حاضرنا. هذا المايسترو القائدُ أُوركستراتٍ متعدِّدةً في وقتٍ واحد، حَمَلَنا إِلى الفرح، ونحنُ في مستنقع الحزن والقلق والخوف على ما يجري في الدولة من مخاطر واضِعَتِنا على حافة الانهيار.

لذا كان لا بدَّ من كركلَّا… كركلَّا الذي – في ما سوى ساعتين – أَعَادَنا إِلى زمن العافية بعُرُوضه في بعلبك وجبيل ومسارح العاصمة والمدن، فاستعَدْنا معه عافيةَ الإِيمان بأَنْ ليس مَن يوقف نهر الإِبداع عن البَدْع، ولا شمسَ الفن عن الشُرُوق، ولا قمرَ الثقافة عن وسْم لبنان وطنَ الحضارة أَمسِ واليوم وكل يوم.

بعد تسع سنوات خارجَ بيته (منذ 2014 مع “كان يا ما كان”) جالَ خلالها سفيرًا للبنان الإِبداع إِلى العالم على أَفخم مسارح باريس ولندن ونيويورك وبكِّين وساو باولو وفرنكفورت وأُوساكا والرياض وجدَّة وعُمان ودبي وأَبو ظبي والكويت وعَمَّان وسواها، ها هو عاد إِلى مسرحه في بيروت (سن الفيل) حاملًا معه نجاحاتِه العالميةَ إِلى جمهور وطنه الأَول، مقَدِّمًا له باقةً رائعةً من حقول لبنان الفن العالي، فيها كوريغرافيا كاملةُ النسْج بتوقيع أَليسار كركلَّا طرَّزْتها بأَجساد الراقصات والراقصين، تناغُمًا كأَنْ في جسد واحد، كأَنْ في إِيقاعٍ واحد، كأَنْ في خطوةٍ واحدة ،كأَنْ في لوحةٍ واحدةٍ زَوغى بأَحايين الجمال، وبغناء طيِّب النكهة من هُدى حداد صوتًا بنفسجيًّا وتمثيلًا راقيًا وحضورًا يُنتَظر، وجوزف عازار المتمكِّن تاريخًا فنيًّا مُشَرِّفًا، وسيمون عبَيد الـمُشْرقِ الصوتِ والأَداء، وبتمثيل من منير معاصري الغنيّ المقدِرة وغبريال يمين الواثقِ الخبرة، وبلوحة بعلبكية متمايزة منفردة مع عُمَر كركلَّا، وفريق تمثيل ساطع المواهب، وملابسَ كَرَكَلَّاوِية الإِبهار جمالًا وتنسيقًا، وإِخراج طليعي كما دائمًا يَسِمُهُ الخلَّاق إِيفان كركلَّا.

بكل هذا الغنى يعود عبدالحليم كركلَّا إِلى بيته، إِلى بيروته، إِلى لبنانه، وهو متوَّجٌ بالنجاحات التي ينزَعُها عن صدره ليعلِّقها أَوسمةً على صدر لبنان الفن والثقافة والإِبداع، لبنان الحقيقي الذي يعلو على الآنيَّات اليومية العابرة فيه، ليبقى فوق، عند أَرزات الوطن الذي يكتبُه مبدعوه وطنًا مضيئًا جبينَ منارةِ الأَوطان الخالدة.

ليلةَ الخميس الماضي حَوَّل مسرحُ كركلَّا تاريخ 13 نيسان/أَبريل (ذكرى اندلاع الحرب اللبنانية سنة 1975) من شُؤْم غُرابٍ أَسْوَد إِلى إِشراقة فجرٍ للبنان العائد إِلى طليعيَّته الرائدة، هذه التي لا يخُطُّها إِلَّا المبدعون.

ليلةَ الخميس، ساعةَ خرجْنا من مسرح كركلَّا، كانت تنتظرُنا على مدخل المسرح شمسٌ ليليةٌ حوَّلَت ليلَنا صباحًا واعدًا بنهارٍ لبناني لا يُشبهُه إِلَّا لبنانُ الذي من أَقوى بُنَاته اليوم: عبدالحليم كركلَّا.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى