المملكة العربية السعودية الوحيدة المُستَقِرّة هي المملكة العربية السعودية الديموقراطية

خلال الحملة الانتخابية، أشار المُرشّح جو بايدن إلى أنه سيتبع نهجاً مُختلفاً تماماً تجاه المملكة العربية السعودية. وكان قرار إدارته في الشهر الفائت بالإفراج عن تقرير مُنَقَّح يعود إلى عامين من مدير المخابرات الذي اعتبر الأمير محمد بن سلمان الجاني الرئيس في مقتل الصحافي جمال خاشقجي خطوة في هذا الإتجاه.

الرئيس جو بايدن: هل يُمارس ضغوطاً للإصلاح في السعودية؟

بقلم مضاوي الرشيد*

خلال السنوات الأربع من رئاسة دونالد ترامب، حصلت المملكة العربية السعودية على تصريحٍ مجّاني أو “كارت بلانش” من الولايات المتحدة. لم يكتفِ الرئيس السابق بالثناء على ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لكنه رفض معاقبته بعد أن خلصت وكالات المخابرات الأميركية إلى أنه لعب دوراً مُباشراً في مقتل الصحافي جمال خاشقجي في العام 2018. قال ترامب لاحقاً عن بن سلمان في مكالمة هاتفية مُسَجَّلة مع مراسل صحيفة “واشنطن بوست” بوب وودوارد: “لقد أنقذته …” ، مُستخدِماً كلماتٍ أُفضّل عدم تكرارها.

أثناء الحملة الانتخابية، أشار المرشح جو بايدن إلى أنه سيتبع نهجاً مُختلفاً تماماً تجاه المملكة العربية السعودية. وكان قرار إدارته الشهر الفائت بالإفراج عن تقرير مُنَقَّح يعود إلى عامين من مدير المخابرات الوطنية يصف بن سلمان باعتباره الجاني الرئيس في مقتل خاشقجي خطوة جيدة ومُرَحَّبٌ بها نحو العدالة. وكذلك كان قرار فرض عقوبات على 76 سعودياً لم يتم تسميتهم، بمَن فيهم نائب رئيس المخابرات في البلاد. ومع ذلك، لم يصل بايدن إلى حد تحميل العقل المُدبّر لعملية القتل المسؤولية، ورفض مُعاقبة محمد بن سلمان مباشرة وأعلن “إعادة تقويم” بدلاً من قطع العلاقات الأميركية مع السعودية.

برّرت إدارة بايدن قرارها بعدم قطع نصف الميل الأخير مع بن سلمان على أساس أن واشنطن نادراً ما عاقبت القادة الذين تُقيم معهم علاقات ديبلوماسية. قد يكون هذا صحيحاً، لكنه ليس القصة الكاملة. إن التحفّظ الأميركي على دفع المملكة العربية السعودية بشأن الديموقراطية وحقوق الإنسان – سواء في عهد بايدن أو ترامب – ينبع من مكانة المملكة الخليجية كشريكٍ مهم للولايات المتحدة والديموقراطيات الغربية الأخرى. تشارك الرياض معلومات استخبارية قيّمة في الحرب ضد الإرهاب، وتعمل على استقرار أسواق الطاقة العالمية، وتحمي من التوسّع الإيراني في الشرق الأوسط، وتُوفّر سوقاً مُربحة للاستثمارات المالية ومبيعات الأسلحة.

في حال تزعزع استقرار التاج السعودي، يخشى العديد من المسؤولين الأميركيين فقدان التعاون الاستخباراتي القَيِّم أو أن قادة البلاد قد يسعون إلى إقامة شراكات مع الصين وروسيا، اللتين لن يخدعهم حكامهما المستبدون المتشابهون في التفكير بشأن حقوق الإنسان. حتى أن البعض يخشى أن تستولي القوى الإسلامية الثورية الراديكالية على الدولة ومواردها، ما يهدد ليس السعوديين فحسب، بل جيرانهم الخليجيين المُقرَّبين. يعكس نهج بايدن الحذر تجاه ولي العهد السعودي الخيار الخاطئ الذي يعتقده المسؤولون الأميركيون منذ فترة طويلة أنه على المحك في السعودية: بين نظام ملكي مُستقر وإن كان قمعياً، أو دولة إسلامية لا يمكن التنبّؤ بها وربما راديكالية.

لكن كان هناك دائماً مسارٌ وسط قابل للتطبيق، مسارٌ مُستدام للإصلاح الديموقراطي الذي يحمي من جميع التجاوزات، الملكية والجهادية على السواء. بالإستفادة من علاقتها التاريخية الوثيقة مع المملكة، يجب على إدارة بايدن الضغط على العائلة المالكة لإجراء عملية إصلاح تدريجية تحل في نهاية المطاف محل مجلس شورى البلاد، الهيئة التشريعية المُعَيَّنة التي تُقدّم المشورة للملك، حكومة مُنتَخَبة مُماثلة لتلك الموجودة في الأردن أو المغرب. لا شك أن أفراداً عديدين من العائلة المالكة سيرفضون التخلّي عن السلطة طواعية. لكن النظام الملكي في المملكة العربية السعودية أكثر عُرضةً للخطر اليوم مما يرغب العديد من أفراد العائلة المالكة الاعتراف به، ويجب على بايدن أن يضع خطة للإصلاح باعتباره السبيل الوحيد لإنقاذ النظام الملكي بعد فضيحة خاشقجي.

نحو شراكة دستورية

إذا فشل الأميركيون تماماً في تخيّل مثل هذا المسار الوسطي، فإن سعوديين كثراً تخيّلوه. السجون السعودية الشائنة مليئة بسجناء الرأي. صحيحٌ أن بعض المُعتَقَلين هم من أنصار تنظيمَي “القاعدة” أو “الدولة الإسلامية” (داعش)، لكن غالبيتهم ليست كذلك. الأسماء كثيرة جداً لسردها. من الناشطة النسائية لُجين الهذلول والمصلح الديني الإسلامي الشيخ سلمان العودة إلى ناشط المجتمع المدني محمد القحطاني والاقتصادي عصام الزامل، هناك قاسم مشترك واحد: القدرة على تخيّل المملكة العربية السعودية الجديدة التي تحتفظ بالعائلة المالكة ودورها المزعوم في تحقيق الاستقرار ولكنها تسمح ببعض الحقوق السياسية والمدنية، بما في ذلك جمعية وطنية مُنتَخبة (برلمان)، والفصل بين السلطات، والقضاء المستقل، وحرية التعبير والتجمّع. بعبارة أخرى، تريد كل هذه الشخصيات مساراً نحو ديموقراطية بدائية تُكرّم الأمراء الملكيين ولكنها تشترك في السلطة مع الشعب. أُطلق عليها اسم ملكية دستورية.

مُنتَقدون آخرون فرّوا من المملكة العربية السعودية ليس للإنضمام إلى يوتوبيا إسلامية مُتخَيَّلة مثل “داعش”، ولكن للعيش في ديموقراطيات الغرب. تستضيف كندا والولايات المتحدة ودول أوروبية مختلفة الآن مئات من السعوديين المنفيين وطالبي اللجوء، الذين يواصلون الضغط من أجل التغيير في السعودية. يعتبرهم النظام في الرياض عملاءً غربيين يلوّثون سمعة الأمراء بنشاطهم على الإنترنت. ويعيش العديد من هؤلاء النقاد في خوف من أن ينتهي بهم الأمر كما خاشقجي، ضحية وحشية النظام البعيدة المدى.

في أيلول (سبتمبر) 2020، أعلنت مجموعة من المنفيين، بمَن فيهم أنا، عن تشكيل حزب التجمّع الوطني، وهو حركة مؤيّدة للديموقراطية لا تُريد دولةً إسلامية ولا جمهورية. نُريدُ أن يختار الناس نظامهم السياسي المستقبلي، باستخدام الوسائل الديموقراطية والانتخابات وحرية التعبير. يوفّر هذا الحزب بديلاً من القمع المُفرِط للنظام الملكي والآفاق المُخيفة لقيام المملكة العربية السعودية بتحالفٍ أوثق مع الصين وروسيا أو إذا قادها مُتعصّبون راديكاليون.

المسار الثالث

مع الإصدار الأخير لتقرير المديرية العامة للمخابرات الأميركية، أُتيحت لإدارة بايدن فرصةً تاريخية للإبتعاد عن شريكها القمعي في الرياض ومُعاقبة القيادة الإجرامية فيها. ولكن لا يزال هناك مُتّسع من الوقت لاتباع مسارٍ ثالث – أي انتقال أكثر ديمومة إلى ملكية دستورية. يُمكن أن يبدأ بايدن بدفع الرياض لتشكيل مجلس سعودي للإصلاح السياسي يتألّف من أعضاءٍ سعوديين وأميركيين من المجتمع المدني ونُشطاء وديبلوماسيين وأعضاء في القضاء. يجب أن يكون التفويض الأساس لمجلس الإصلاح هو إعداد المملكة العربية السعودية لانتخابات عامة ليحلّ محل مجلس الشورى المُعيّن برلماناً مُنتَخباً، والإشراف على رفع القيود المفروضة على الكلام والتجمّع والتنظيم السياسي والمجتمع المدني. يجب على الرياض أن تتعهّد بأن العائلة المالكة لن تُهيمن على الوزارات المُهمّة في أي حكومة ينتخبها هذا البرلمان – بعبارة أخرى، هذه الخطوة ستضع المملكة العربية السعودية على مسار ملكية دستورية على الطراز الأردني أو المغربي.

الولايات المتحدة هي القوّة الوحيدة القادرة على دفع العائلة المالكة السعودية لإجراء مثل هذه الإصلاحات. منذ العام 1945، قدّمت الحكومة الأميركية للمملكة دعماً ديبلوماسياً وعسكرياً، بل ودافعت عن حدودها ضد العدوان الأجنبي. لقد اكتشفت الشركات الأميركية نفط السعودية وباعته في جميع أنحاء العالم. وتواصل واشنطن بيع ونقل الأسلحة والتكنولوجيا إلى الرياض وتعليم الآلاف من المهنيين والتكنوقراط من خلال منحٍ حكومية سعودية.

في الماضي، جاء هذا الدعم الأميركي من دون مطالب بالإصلاح السياسي، ويرجع ذلك أساساً إلى المُقايَضة المُتَصوَّرة بين الاستقرار والديموقراطية. لكن هذا كان دائماً اختياراً خاطئاً، وعلى أي حال، لم تعد المملكة العربية السعودية مستقرة كما كانت من قبل. لقد أدّت سنواتٌ عدة من انخفاض أسعار النفط، وعام من انتشار فيروس كوفيد -19، وارتفاع معدلات البطالة، وتلاشي الاستثمار الأجنبي المباشر، إلى إضعاف الوضع الاقتصادي للمملكة وإذكاء السخط الشعبي. أدى القمع السياسي، بما في ذلك سجن المعارضين، إلى مزيد من الضغط على النظام الملكي – كما هو الحال بالطبع للتداعيات الدولية لمقتل خاشقجي.

لا شكّ أن البعض في الرياض سيرى أيّ جهدٍ لربط الالتزام الأميركي المُستمر بالأمن السعودي بالإصلاحات السياسية إنتهاكاً لسيادة البلاد. لكن يجب على بايدن وفريقه التأكيد على أن خارطة الطريق بعيداً من القنبلة الموقوتة للملكية المُطلقة هي الطريق الوحيد لضمان استقرار المملكة العربية السعودية وبقاء العائلة المالكة. يجب إقناع الملك سلمان ووولي عهده وغيرهما من كبار أفراد العائلة المالكة بقبول القيود المفروضة على سلطتهم من أجل تجنّب الانجراف بفعل موجة التغيير على مستوى القاعدة. إن أعلى الأصوات المطالبة بالإصلاح في المملكة الآن هي أصوات المعتدلين، لكن هذا يمكن أن يتغيّر بسهولة. يمكن للجماهير أن تسعى إلى الإطاحة بالنظام الملكي وإلغائه.

إن المخاوف من أن ينتهي الأمر بواشنطن بدفع الرياض إلى أحضان الصين أو روسيا إذا ضغطت بشدّة من أجل الإصلاح السياسي لا ينبغي أن تثني إدارة بايدن عن اتباع هذا المسار الوسطي. لن تذهب الرياض فجأة للبحث عن تحالفات جديدة لأسبابٍ عملية وإيديولوجية. من وجهة نظر لوجِيستية، يكاد يكون من المستحيل تغيير مُزوِّدي الأسلحة بين عشية وضحاها، وجهاز الأمن السعودي، وبخاصة سلاحه الجوي، مُتورِّطٌ بشدة مع الأجهزة الأمنية في الولايات المتحدة. كما تعمل الروابط التاريخية والثقافية واللغوية مع الولايات المتحدة على مقاومة الرحيل المُفاجئ إلى الشرق. بدأ الملك عبد الله بن عبد العزيز، الذي حكم من 2005 إلى 2015، علاقات مالية أوثق مع الصين وروسيا. لكن لم تقترب بكين ولا موسكو من الحلول محل واشنطن بصفتها شريكاً أساسياً للرياض، كما أن المملكة العربية السعودية أصبحت أكثر اعتماداً هيكلياً على الولايات المتحدة اليوم.

إن الحاجة إلى إصلاحٍ سياسي جوهري – على عكس التغييرات التجميلية، مثل السماح للمرأة بالقيادة – هي حاجة مُلحّة. لن تتلاشى قضية خاشقجي ببساطة، وفي النهاية ستنتصر إرادة الشعب على سلطة الملكية والسياسة الواقعية لشريكتها الأكثر أهمية. في العام 1979، أطيح شاه إيران محمد رضا بهلوي، الحليف المهم للولايات المتحدة في الشرق الأوسط، من قبل الثوار الذين أهانوا واشنطن باحتجاز عشرات المواطنين الأميركيين كرهائن في سفارتهم لأكثر من 400 يوم. بعد 42 عاماً، تخاطر أميركا بتكرار الخطأ نفسه مع حليفٍ آخر في الشرق الأوسط، ما لم تتمكن من إقناع العائلة المالكة السعودية بالشروع في الطريق نحو ملكية دستورية.

  • الدكتورة مضاوي الرشيد هي أستاذة زائرة في مركز الشرق الأوسط بكلية لندن للاقتصاد وزميلة في الأكاديمية البريطانية. يُمكن متابعتها عبر تويتر على: @MadawiDr
  • يصدُر هذا المقال بالعربية في “أسواق العرب” توازياً مع صدوره بالإنكليزية في “فورين أفّيرز” الأميركية.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى