سوزانَّا والشيخان (3)

آرتيميسا بريشتها

هنري زغيب*

في الحلقة الأُولى من هذه السلسلة، مهَّدتُ لقصة سوزانا والشيخين القاضيين اللذين اشتهياها وحاولا اغتصابها وهي تستحمُّ فصدَّتْهما فاتهماها زورًا بخيانة زوجها مع عشيقها الشاب، وأَنقذها دانيال من الموت.

وفي الحلقة الثانية بدأْتُ أَنشُر عن أَعمال رسامين تناولوا هذه القصة (مأْخوذةً من سفْر دانيال – الإِصحاح الثالث عشر) فرسموها وفق إِبداع ريشاتهم، وبدأْتُ بلوحة رسام النهضة الإِيطالية لورنزو لوتُّو.

هنا، في هذه الحلقة الثالثة، قصة سوزانا والشيخين بريشة أَرتيميسا جينْتيليسْكي.

امرأَة متفرّدة

أَرتسميسا (وُلدت في روما سنة 1593 وتوفيَت في ناپولي سنة 1656) هي من أَبرز أَعلام الفترة الباروكية الإِيطالية في القرن السابع عشر. بدأَت بالرسم احترافًا منذ الخامسة عشرة، إِبان كان صعبًا، بل مستحيلًا، على المرأَة أَن تحترف الرسم، فكانت أَول امرأَة رسامة تنتسب إِلى أَكاديميا الفنون في فلورنسا. ربما لتلك الأَجواء، كثُرت في أَعمالها لوحات النساء مستمِدَّة مواضيعها من الأَساطير والقصص الشعبية والكتاب المقدس، بما فيهن الضحايا وحالات الانتحار والمحارِبات. في طليعتها لوحتها “سوزانا والشيخان” تنتشر بسرعة وتشتهر. وهي رسمت في روما وفلورنسا والبندقية وناپولي ولندن، ووضعت لوحات خاصة بطلب من دوق توسانا وفيليب الرابع ملك إِسپانيا.

حادثتها الشخصية

من مزايا لوحاتها رسْمُها الوجوه بواقعية ساطعة مع براعة خاصة في الأَلوان والتعابير. بقيَت زمنًا طويلًا في الظل مهمَلةً غير معروفة، لأَن من مآسي سيرتها ومسيرتها تعرُّضَها للاغتصاب وهي فتاة يافعة، ومشاركتُها في محاكمة مغتصِبها. لذا كان يُنْظَر إِليها بفضول شخصي أَكثر مما إِلى رسامة، وما إلَّا بين أَواخر القرن العشرين ومطالع القرن الحادي والعشرين حتى بدأَت أَعمالها بالظهور، وباتت معتبَرَةً بين أَكثر أَعلام عصرها تَطَوُّرًا وتقدُّمًا، وتقديرًا موهبتَها الفذَّة التي جعلت لوحاتها تدور على عدد كبير من المعارض الدولية والمتاحف العالمية، ومعظم لوحاتها اليوم لدى المتحف الوطني في لندن، وهذا ما جعل لوحاتها مطلوبة في عدد من المتاحف وصالات المعارض.

آرتيميسا ترسم

ثلاث لوحات لواحدة

وضعَت آرتيميسا لقصة “سوزانَّا والشيخين” ثلاث لوحات، بين 1610 و1649. ويرى النقاد المعاصرون أَن ذلك التكرار عائد إِلى ما عانتْه شخصيًّا في صباها من حادثة تشبه ما تعرَّضَت له سوزانَّا. لذا أَرادت من تكرار رسْمها تلك اللوحة أَن تنبُذ العنف الجسدي والجنسي الذي تتعرض له المرأَة، وهو ما تعرَّضت له حين اغتصبها أُوغوستينو تاسّي، الذي كان يعطيها دروسًا في الرسم.

على أَن لوحتها الأَساسية هي تلك التي رسَمَتْها سنة 1610. وهي اليوم بين مجموعة قصر ويـبـيـنـشتاين في مدينة پـوميرسْفيلدِن (باڤاريا – جنوبي أَلمانيا). ومبنى القصر في ذاته تحفة الهندسة الباروكية، يضم اليوم روائع أُوروبية من روبنز ودورر وتيتيان ورامبرانت وسواهم.

دفاعًا عن المرأَة المستضعفة

صحيح أَنها استلهمتْ لوحتها من القصة في “سفْر دانيال”، لكنها، بعد سنة ومن وضعها تلك اللوحة، صدَف أَن تعرَّضت هي أَيضًا للاغتصاب فكرَّست أَعمالها دفاعًا عن المرأَة وما تتعرَّض له من عنف جنسي، خصوصًا أَن مغتصِبها رفض الزواج منها بعد تلك الحادثة، فعوقب بالسجن سنةً لكنه لم يُسجَن بسبب تدخُّلات سياسية فاعلة. وإِذا كانت سوزانَّا وَجدَت في العدالة إِنقاذًا، فأَرتيميسا لم تجد تلك العدالة في قضيتها. لذا استعاضت عن الظلْم في قضيتها بالانتقام للمرأَة في لوحاتها بشكل صارم. وما لم ترسمه في لوحاتها كتَبَتْهُ في رسائلها إِلى عدد من أَصدقائها الخُلَّص.

وجهُها من خلال سوزانّا

لعلَّها – وهي ترسم ذعر سوزانَّا وصدَّها ذينَك الشيخَين القاضيَين المتحرشَين -كانت ترسم حالتَها الشخصية يوم الحادثة، فرأَت ذاتها في سوزانَّا، من هنا دقة تصوير الملامح في وجه سوزانَّا. وهو ما تميَّزَت به بين أَترابها الرسامين الباروكيين في عصرها. ولم تتردد في إِيضاح واقعية حادة في ملامح الوجه قد تكون صدمَت البعض عصرئذٍ لكنها أَعجبَت البعض الآخر ممن يميلون إِلى الواقعية في الرسم. ولعل تلك الواقعية بالذات هي التي جعلَت عددًا من النافذين وهواة جمع اللوحات يقبلون على لوحاتها، بعدما كانوا قبلًا منصرفين إِلى دعم الرسامين الرجال.

لم يكن عاديًّا أَن تكون رسمت تلك اللوحة الرائعة وهي في السابعة عشرة، أَي في مطلع مسيرتها الفنية، حتى أَن البعض ذهب إِلى الشك بأَن يكون والدُها الرسام هو الذي رسم اللوحة. لكن النقاد بعدئذ وجدوا في ريشة آرتيميسا إِحساسًا أَكثر ممن رسموا تلك القصة من الرسامين، لأَنها امرأَة ولأَنها تشعر مع سوزانَّا ولأَنها تعرَّضت للحادثة ذاتها مثل سوزانَّا.

تفاصيل لوحتها

في مقدمة اللوحة، رسمت أَرتيميسا سوزانَّا عاريةً، يتَّكئُ فوقها على حافة الحمَّام العجوزان المتصابين المتحرِّشان، ورسمَت ملامح العجوزَين في وضعية تهديدية، على بضعة سنتينترات من جسدها، فيما هي تصدُّهما بيديها معًا في وضعية دفاع مذعور. ويكون عُريها عاملًا رئيسًا في حالة ذعرها خصوصًا أَنها في جلستها تحت ذينِك الشيخين فوقها. وأَضافت أَرتيميسا ملامح ديكور جميلة خاصة بها، منها الحافة التي تفصل سوزانَّا عن العجوزَين، وفوق الثلاثة جعلَت السماء زرقاء صافية، وجعلَت لباس العجوزين في فخامة ما يرتدي القُضاة في المدينة. لكنها لخَّصت كلَّ الذعر في نظرة سوزانَّا كأَن قارئ اللوحة يكاد يسمع استغاثة سوزانَّا من خلال نظرتها المذعورة.

في وضعها تلك اللوحة، رمَت أَرتيميسا إِلى إِبراز الطبيعة الضعيفة للمرأَة في تلك العصور السحيقة، واضطرارِ أَن يخرج شاب من بين الجمع كي يدافع عنها ويُظهر براءَتها، لأَن نساء تلك الحقبة لم يتجاسَرْن على ذلك. لذا كان لها أَن تدافع هي عن ذاتها بالرسم، لأَنها لم تجد رجلًا يدافع عنها إِبان ورطتها الخاصة في قضية اغتصابها.

الحلقة المقبلة: “سوزانا والشيخان” بريشة بارتولومِـيو كياري

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com  أو متابعته على موقعه الإلكتروني: www.henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى