حين ريشاتُهم تأْخذنا إِلى الصيف (1 من 2)

سورا: “المستحمُّون في النهر” (1884)

هنري زغيب*

بعد مقالي السابق (“حين ريشاتهم تنهمر المطر”) من جزءَين في “أَسواق العرب” عن المطر المنهمر من ريشات الرسامين، أَنتقل بكم اليوم إِلى الصيف على ريشاتهم، كي نكون مواكبين هذا الفصل الأَحَبّ إِلى قلوب الكبار والصغار بين فصول السنة.

وللصيف مع ريشات الرسامين مواعيد وأَمكنة وطقوس فنية وأَساليب مختلفة، سأَمر بكم عليها كي نكتشف معًا كيف كلُّ فنان في العالم يقارب الصيف، وكيف يمكن أَن تستقطب لوحته سيَّاحًا يقصدون البلدة أَو المدينة أَو القرية لأَنهم شاهدوا اللوحة وأُعجبوا بها.

غوغان: “أَربع بروتونيات صيفًا” (1886)

 

هنا، في جزء أَول من المقال، باقة لوحات بريشات فنانين أَجانب أَحبُّوا الصيف، ورسموه في مواضع ومواقع ومشاهد وفق مزاجهم أَو حسبما أَوحى لهم المكان.

هناءَة الصيف في باربيزون

بعدما مُحَكِّمو “معرض باريس” رفَضوا أَكثر من مرةٍ لوحات الرسام الفرنسي تيودور روسُّو (1812-1867) “لفقدانها الأَهلية”، غادر باريس غاضبًا سنة 1836 وسكن في قرية باربيزون ( Barbizonمنطقة “إِيل دو فرانس”) واجدًا فيها طبيعة بكرًا لم يكتشفها فنانون، خصوصًا في فصل الصيف. وما لبث أَن انتشر خبرُه فيها فالتحق به زملاء فنانون راحوا يرسمون مناظر من تلك القرية الجميلة الهادئة الهانئة، ما كرَّس روسُّو طليع “مدرسة باربيزون” التي شكَّلت خارج المحترفات أَول دفعة فنية للرسامين الفرنسيين يعملون في حضن الطبيعة. وباتت باربيزون بعدهم مقصدًا صيفيًّا ممتازًا، خصوصًا لامتدادها البيئي الجميل إِلى غابة فونتينبلو الشهيرة التي شهدَت سكَن الملوك في القرن التاسع عشر، وغدَت مقصد الطبقة المترفة من الفرنسيين. هكذا انتشرت “مدرسة باربيزون” في الرسم صيغةً جديدةً للانطباعيين برسم المناظر والمشاهد في حضن الطبيعة التي نقلوها إِلى ريشاتهم كما هي بجمالها الأَول على بكارته.

ميرو: “مزرعة أَهلي صيفًا” (1921)

الصيف في ظلال أَرجَنْتُوْيْ

بلدة أَرجَنْتُوْيْ Argenteuil تبعد نحو 11 كلم عن وسَط باريس على الضفة اليُمنى من نهر السين، تمتد فيها طبيعة ساحرة المناظر. انتقل إِليها الرسام الفرنسي كلود مونيه (1840-1926) بعد عودته من لندن سنة 1872. وكان يستقبل فيها زملاءَه الرسامين أُوغست رنوار وإِدوار مانيه وأَلفرد سيسْلي، فشكَّلت البلدة واحةً ممتعة ممتازة لريشاتهم الانطباعية خصوصًا في فصل الصيف. فيها رسم مونيه عددًا كبيرًا من لوحاته، وغالبًا ما رآه السكان يرسم انعكاس الضوء على صفحة المياه من قاربه الذي كان أَحيانًا “يرتجله” محترفه في قلب الماء.

صيف آنيير والجات

بلدة آنيير Asnières تبعد نحو 9 كلم عن باريس على الضفة اليُسرى من نهر السين. كانت في القرن التاسع عشر مقصدًا صيفيًّا (كما باربيزون) للطبقتَين الميسورة والعادية معًا. من هنا وضع الرسام الفرنسي جورج سورا (1859-1891) لوحته “المستحمون” للطبقة الفقيرة التي يقصد أَفرادها النهر صيفًا للاستحمام المجاني. وبدَت في عمق اللوحة أَعمدة الدخان من مصانع باريس في مطالع عهدها الصناعي. غير أَن سورا، في لوحته الصيفية الأُخرى “بعد ظهر الأَحد في جزيرة لاغراند جاتّ Jatte ” رسم أَرستقراطيين على الضفة اليُمنى من نهر السين (نحو 7 كم عن وسط باريس).

فرنك بنسون: “أُسرتي في الصيف” (1909)

“الجولة الصيفية الكبرى”

اشتهرت “الجولة الكبرى” في القرن الثامن عشر لأَن النبلاء كانوا عصرئذٍ يقومون بها صيفًا، خصوصًا إلى روما، كما فعل البارون فرنسيس باسيهBasset  (1757-1835) الذي اتَّبع نهج معظم الشبان الإِنكليز النبلاء بـزيارة مدن صيفية في إِيطاليا أَو إِسبانيا، تَنَزُّهًا بعد ختام دراساتهم العليا. ولكي يكرِّسوا حضورهم في تلك “الجولة”، كانوا يطلبون إِلى فناني عصرهم أَن يرسموهم في آخر الصيف، كما فعل البارون باسيه ووضع له الرسام الإِيطالي پومپيو باتوني (1708-1787) لوحة بدا فيها حاملًا شهادتَه دليل إِنجازه دروسَه وقيامه بتلك “الجولة الصيفية الكبرى”.

الصيف في بروتانيا

قبل أَن يغادر الرسام الفرنسي پول غوغان (1848-1903) إِلى تاهيتي (نيسان/أبريل 1891)، انتقل صيفَ سنة 1886 إِلى شبه جزيرة بروتانيا (أَقصى الغرب الفرنسي) لكي يختبر، كما ذَكَر، الطبقة الأَقل تحضُّرًا والأَكثر روحانيةً في حياتها اليومية. ومع أَن أَهل بروتانيا لم يكونوا بعيدين عن جو الحياة في باريس، رسمهم غوغان بأَزيائهم التقليدية وعاداتهم الريفية كأَهل الـمَزارع في فصل الصيف.

بيتي يا بيتي الصيفي

غالبًا ما يشتاق الرسام إِلى بيته الصيفي حين يبتعد عنه، كما حدَث مع الرسام الإِسباني خوان ميرو (1893-1983) حين استقر في باريس سنة 1918 مركِّزًا على الرسم، منغمسًا في أَجوائه، وظلّ يشتاق إِلى بلاده إِسبانيا وبيته أَهله الصيفي في مدينة مونروغ دل كام (مقاطعة كاتالونيا). لذا كان يعود إِليها ليُمضي أَشهر الصيف في مزرعة أُسرته، بعيدًا عن الحر في صيف باريس. وفي لوحته “المزرعة الصيفية” الدقيقة التفاصيل يبدو تعلُّقه بها وبما تتركه في نفسه من ذكريات طفولة وشباب.

صيف البَنات

ننتقل إِلى الجو الأَميركي مع فرانك وستون بنسون (1862-1951) الذي رسم بناته الثلاث وزوجته في أَرضهنَ (مزرعة ووستر) ذات نهار مشمس صيفي سنة 1909، جالساتٍ على العشب اليابس تناثر عليه الزهر الأَبيض، وجميعهنَّ بالأَبيض الجميل والقبَّعات الصيفية وأَغراض لهُنَّ منتثرة حولهُنّ، فيما يتحادثْن ويتأَملن زُرقة البحر في خليج پينوبسْكُوت (ولاية ماين الأَميركية). وبرع بنسون في رسمهن وسط الطبيعة الصيفية في أُسلوب انطباعي كامل وطقس صيفي ومحيط جميل هادئ.

الجزء الآخر من المقال: بقيَّة اللوحات الصيفية

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى