في تَـحَوُّلات الـمُخاطِبين والـمُخاطَبين

هنري زغيب*

لا أَدَّعي معرفةً بالسوسيولوجيا، ولا اطِّلاعًا على ما في علم الاجتماع من تفاصيلَ تجعلُه مقياسًا لتطوُّر الشعوب، أَو لأَحوالها وَفْق مقتضيات الزمان والمكان وظروف المعيشة. غير أَنني أُلاحظ تَحَوُّلًا جذريًا في حديث الناس هذه الأَيام، منذ جائحَتَي هذا العصر اللبناني الفاجع: وباء الكورونا وانهيار الليرة، وكلاهما غيَّر في تفكير الناس وقاموسهم.

فما الذي تغيَّر؟ وما الذي لم يتغيَّر؟

ما لم يتغيَّر عن السابق هو انصرافُ الناس، معظمِهم، إِلى حديث السياسة. فما الْتَقى اثنان أَو تهاتفا إِلَّا تحدَّثا في السياسة والسياسيين، حتى بات حالُ اللبنانيّ كحالِ فئْران المختبرات يُجري عليها العلماء اختباراتِهم لدراسة الفعل ورَدَّة الفعل. كأَنما لا حديثَ للُّبنانيين إِلَّا عن السياسيين ومعظمُهم عابرٌ زائل، وفي الحديث عنهم عقْمٌ فاجعٌ في العقل بعدما بات السياسيون سعَداء بأَنهم “نجوم” أَحاديث الناس يوميًّا ومتابعاتهم صحافيًّا وتلفزيونيًّا. ومن هنا تهافُتُ السياسيين على الشاشات مُصرِّحين، أَو على برامج الـ”توك شو” ضيوفًا يتغَطْرسون ويَتَلَمَّظون بكلامهم وحركات وجوههم وأَيديهم، خصوصًا في هذه الفترة من موسم الانتخابات.

أَما الذي تغيَّر في خطاب الناس اليومي فهو انحصارُه ضيِّقًا في قاموس يومي متكرر لم يَكُنْهُ من قبل. فما التقى اثنان أَو تهاتفا إِلَّا انحصر حديثُهما في سعر البطاطا والفاصوليا وربطة الخبز وكيلو اللحم وارتفاع الدولار.

وما تغيَّر أَيضًا، عدا الخطاب، هو المخاطَب، إِذ بات على اللبناني أَن يخاطِب بالتَرَجِّي موظَّف البنك كي يسهِّل استجداءَه حفنةَ ليرات ما عادت تساوي شتيمةً في وجْه سياسي، وتَرَجِّي عامل محطة الوقود كي يسخو عليه بالدَور لتعبئة خزان السيارة، وتَرَجّي ناطور البناية كي يُدير مولِّدَ البناية أَو يَرفعَ الزبائل أَمام البناية، وتَرَجِّي عامل الفرن كي يُعطيه ربطةَ خبزٍ إِضافيةً تُريحه من الوقوف شحَّادًا على باب الفرن، إِلى تَرَجِّيات أُخرى يُضْطرُّ اللبناني إِليها في هذه الأَيام الكالحة كوجوه السياسيين، وهو ما لم يكُن يعرفها اللبنانيّ قبل أَن تسقط البلاد في وضعها الكارثي بسبب السياسيين.

طبعًا لا أَقصِد من كلامي تمييزًا طبَقيًّا بين المخاطِبين والمخاطَبين، فكلُّ مهنةٍ شريفةٌ أَيًّا تكن. لكنني أَقصِد تَحَوُّلَ اللبناني من المدى الواسع المريح إِلى المحيط الضيِّق الكسيح، حتى انغلقَ ضمن محيطه الضيِّق وأَشخاصٍ فيه لم يكونوا قبلًا في حديثه اليومي عن البؤْس اليومي الطاحن.

هذا التَحَوُّل، ولو موجعٌ وسلبيٌّ، له إِيجابيةُ أَن حديثَ السياسة كلَّما التقى لبنانيان، تَحَوَّلَ في معظمه من التداوُل في حديث السياسيين إِلى الغضب واللعنة عليهم لأَنهم لم يقودوا البلاد إِلى عمرانها بل تآمروا بفسادهم على عمرانها، فينصبُّ الحقد عليهم. والأَمل  أَن يستمرَّ هذا الغضب متأَجِّجًا في صدور اللبنانيين حتى يوم الانتخاب، فلا يُعيدوا انتخابَ جلَّاديهم الذين جعلوا همَّ اللبناني الحصول على دور يَشْحده مُتَرَجِّيًا عاملَ محطة الوقود، أَو مُتَرَجِّيًا موظفَ المصرف كي يَشحَدَ من ماله حفنةَ أَوراق مالية مهما كبرَت تبقى قيمتُها أَصغر من ورقةٍ صغيرةٍ بحجْم كَفّ اليد، هي التي يومَ الانتخاب ستعاقِب لصوصَ الهيكل الحقيرين، وتطرُدُهم مكروهين ملعونين خارجَ قُدسية الهيكل.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر: @HenriZoghaib

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى