العراق: المَسرَحِيّاتُ البائسة!

محمّد قوّاص*

في أعقاب محاولة اغتيال رئيس الحكومة العراقية مصطفى الكاظمي بواسطة مُسيّرات، سرت قناعة محلية دولية بأن إيران تقف وراء الأمر. في البال أن المُسيرّات والصواريخ التي تُرَوَّج في العراق، لطالما كانت معروفة المصدر، وأن “جماعات” إيران تُنفّذ أجندة طهران في حجم  الهجمات التي تستهدف مراكز لخصوم طهران وشكلها وإيقاعها، سواء في بغداد أم في أربيل أم في أي نواحٍ أخرى.

ولئن لا يكفي الاستنتاج المُتعجِّل لوحده لتوجيه تهمة من هذا النوع إلى دولةٍ كإيران، فإن التحقيقات كشفت أن طراز المُسيّرات ونوعية المقذوفات داخلها هي من النوع الذي سبق استخدامه من “جماعات إيران” ضد الأهداف “العدوّة” في العراق، سواء كانت سفارة الولايات المتحدة في بغداد أم قواعد عسكرية عراقية تستضيف قوات للتحالف الدولي، بما لا يترك مجالاً للشك في أن مَن اقترف الإثم البغيض له من السوابق بحيث بات معروف الهوية والانتماء.

مصطفى الكاظمي نفسه قال: “إننا نعرفهم”. تبلّغت طهران أن بغداد، الدولة والمؤسسات والحكومة والطبقة السياسية، باتت تعرف أن يداً تابعة لإيران ارتكبت الجريمة، وأن الأمر ليس هجوماً نفّذته تنظيمات الإرهاب من “داعش” و”القاعدة” وأخواتهما، وليست من رجس ما ترتكبه “الإمبريالية وقوى الاستكبار”. وكان واضحاً حجم الارتباك الذي قاربت به طهران الحدث الجلل. وكان جلياً حجم التناقض والركاكة في التعامل مع الأمر، وخصوصاً مع هذا “الفشل”.

زحف مُحلِّلو الفضائيات العراقيون التابعون لـ “جماعات إيران” (حتى لا نغرق في أسماء الفصائل والتيارات والأحزاب) متأبطين رواية واحدة تكاد تكون مُنزَلةً. ردّد هؤلاء، من داخل العراق وخارجه، بنسق ببغائي ما ينكرون به وجود محاولة اغتيال وهجوم جديّ على مقر ّرئيس الوزراء. تنافس المتحدثون على تأكيد حقيقة واحدة: “الأمر مسرحية”. ومَن كان يُراقب ويُتابع تلك العروض سهل عليه استنتاج أن ما خلصوا إليه ليس وجهة نظر، بل تنفيذ دقيق لكلمة سرّ وُزِّعت على “الأبواق” لترديد كلمة واحدة: “مسرحية”. ومن تلك الحناجر من صدّق الكذبة وذهب بعيداً في شرحها والاجتهاد بتعليلها قبل أن تصفعه كلمة سرّ أخرى حملها الجنرال اسماعيل قاآني.

لم تقل طهران أن الأمر مسرحية. تركت هذا النحيب لأتباعها في العراق. لكنها، مع ذلك، لم تبتكر صيَغاً جديدة غير تلك الممجوجة التي يجري اجترارها ببلادة من دون أي روح خلّاقة. الأمر في عرف إيران ليس مؤامرة كما درجت طهران على الترداد كلما تعرّضت في الداخل والخارج لضغط ما، بل هي “فتنة جديدة” ربطها الأمين العام للمجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني علي شمخاني ب”مراكز فكر خارجية دعمت الجماعات الإرهابية واحتلال العراق”. وإذا كان في تلك الجملة أحجية غامضة يصعب فكّ طلاسمها، فقد عقّد شرحها المتحدث باسم الخارجية الإيرانية، سعيد خطيب زاده، موضحاً أن تلك الفتنة “الطازجة” تصبّ في مصلحة “الأطراف التي انتهكت أمن العراق واستقراره واستقلاله ووحدة أراضيه طوال السنوات الـ18 الماضية وسعت إلى تحقيق أهدافها الإقليمية المشؤومة من خلال إنشاء الجماعات الإرهابية ودعمها وإثارة الفتن في هذا البلد”. وفي التفسيرين لغة مسرحية فيها تلعثم الهُواة.

والواضح أن تلك الفذلكات اللغوية لم تستطع أن تُرمّمَ تصدّعاً في الرواية التي يجب أن يُقارب بها حدث بحجم تصفية رئيس وزراء دولة، فيما الأصابع موجّهة إلى جماعات إيران. طهران تُبلّغ جماعاتها أن الأمر ليس “مسرحية” وفق كلمة سرّ أولى وأن أذرعها، بحسب التحقيقات وتلميحات الكاظمي نفسه، تقف وراء “فتنة” ارتكبتها “الأطراف التي انتهكت…”. فوق ذلك تعجّلت إيران بإرسال جنرالها قاآني إلى بغداد للقاء الكاظمي أولاً ولمحاولة ترتيب “البيت الإيراني” (وليس الشيعي) في العراق تالياً من خلال الاختلاء بقيادات “الإطار التنسيقي”، لعل في ذلك ما يمكن أن يوقف الانزلاق السريع نحو حرب شيعية-شيعية، هي في الحقيقة حرب بين إرادة من يتمسّكون بإيران مرجعاً وحيداً من جهة ومَن يُدافعون عن العراق البلد والدولة مرجعاً أصيلاً ووحيداً من جهة مقابلة.

لكن اللافت أن كل الأفرقاء في العراق كما كل المعنيين بالشأن العراقي في الإقليم والعالم قرّروا ترداد كلمة سرّ مضادة تُقدّم عرضاً مسرحياً آخر. صحيح أن واشنطن، بألسنة قادتها العسكريين، اتهمت “ميليشيات تابعة لإيران” بارتكاب الهجوم ووصفته ب”الإرهابي”، إلّا أن قادة البنتاغون ومن ورائهم الولايات المتحدة لم يتّهموا إيران بأنها تقف وراء هذا الإثم، لا بل أن تقارير صحافية أميركية نقلت عن مسؤولين ترجيحهم أن إيران لم تصدر أوامر لارتكاب هذا الإثم.

لم يضطر الطرف الأميركي إلى شرح ذلك الفصل المسرحي المُريب ما بين الرأس وتابعه، ربما تاركاً لأصدقاء إيران، وحتى بعض خصومها، التبرّع بتقديم قراءات تستبعد أن تقوم طهران بارتكاب خطيئة من هذا النوع. بعضهم حاول بيعنا نظرية عن “أفراد” اقترفوا ذلك “العيب” واجتهدوا لوحدهم من دون العودة إلى قادتهم (وطبعاً من دون العودة إلى إيران)، فيما ذهب آخرون، وبعضهم ليس موالياً لطهران، الى القول إن فشل العملية دليل براءة إيران، واثقاً بقدراتها على عدم الفشل وربما مُستشهداً بسوابق في منجزاتها الناجحة ذات الكفاءة المميزة في هذا المضمار.

نجا رئيس وزراء العراق من “مسرحية” سارع قاآني لإسدال ستارتها. ويعمل العراقيون على عرض مسرحيات بديلة للتخفيف من جسارة الكارثة التي كان البلد ذاهباً إليها. وتعرب العواصم عن علمها بالجريمة والمجرم ومَن وراءه، مُوارية الوجه داخل واقعية سياسية سوداء تجهد لرسم خرائط لفيينا، محاولة أن تمحي خطوط أي خرائط أخرى قد تؤخّر الوصول إلى هناك.

وعليه فلا بأس من تداول حكاية مسرحية جرت من دون جمهور ولا حتى ممثلين ولا أبطال. والثابت للجميع أن مخرجاً يقف وراء الكواليس. وفي العراق مَن يمتعض من خبث التسويات التي تدفع صاحب الدولة إلى عدم ملاحقة الجناة الحقيقيين ومَن يتقزّز مُتخوِّفاً من الانتهاء إلى مسرحيات بائسة لا نهاية لها.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازياً مع صدوره على موقع “النهار العربي” (بيروت)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى