غَزَّة تَخلُقُ مَعضلة لـ”حزب الله”

أمضى “حزب الله” ما يقرب من عقدين من الزمن في بناء ترسانته العسكرية ليكون قادرًا على الردع، ولكن يبدو الآن أنه ربما يكون سجينها.

“حماس”: منزعجة من رد “حزب الله” الخجول.

مهنّد الحاج علي*

منذ الهجوم الذي شنته “حماس” على بلدات إسرائيلية في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وما تلا ذلك من القصف الإسرائيلي والعمليات العسكرية في غزّة وما حولها، كان ردُّ فعل “حزب الله” في جنوب لبنان في الغالب محدودًا. ومن المتوقع أن يُصعِّدَ الحزب إذا بدأت إسرائيل غزوها البري لغزة من أجل تحقيق هدفها المتمثل في القضاء على “حماس”. ومع ذلك، وبالنظر إلى تاريخ “حزب الله” الحديث، فقد يكون هذا التصعيد إجياريًا أكثر مما هو اختياريًا أو مقصودًا.

منذ العام 2019، عزّزَ الحزب تحالفه مع حركة “حماس” وتنظيم “الجهاد الإسلامي الفلسطيني” والجماعات الأخرى المدعومة من إيران في الشرق الأوسط، لتعزيز قدرته على الردع ضد إسرائيل. ويعني التنسيق الأوسع بين هذه الجماعات الانخراط في صراعٍ مُتعدّد الجبهات إذا تجاوزت إسرائيل “خطوطًا حمراء” مُعَيَّنة. أولها انتهاك حرمة الأماكن الدينية في القدس، وفي مقدمتها المسجد الأقصى.

وقد ساعد “حزب الله” أيضًا شركاءه على تطوير قدراتهم العسكرية، مثل تحسين استخدامهم للطائرات المُسَيَّرة وتحسين تكتيكاتهم العسكرية. في ظاهر الأمر، أكّد هجوم “حماس” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) نجاحَ تهديد “حزب الله” باحتلال بلداتٍ إسرائيلية في أيِّ حربٍ مستقبلية مع إسرائيل.  لقد هدّد الأمين العام للحزب، السيد حسن نصر الله، في أوائل شباط (فبراير) 2011 بمهاجمة بلدات إسرائيلية، على الرغم من أن هذا التكتيك تم طرحه بثقة أكبر في العام 2019.

ورُغمَ أنَّ “حزب الله” كانَ يُدرِكُ أنَّ إسرائيل سوف تكون عُرضةً لمثل هذه الهجمات، فإن ما حدث في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، حيث قُتل المئات من المدنيين الإسرائيليين، لا بدَّ أنه أثارَ شعورًا لدى الحزب بأنه وقعَ في شَركٍ. لقد أثبت “حزب الله” أنه يفهم توازن القوى في صراعه مع إسرائيل، بعد أربعة عقود من الخبرة والتكلفة الباهظة لحرب العام 2006. لقد اعتمد تفاعل الحزب مع إسرائيل على مُعايَرةٍ دقيقة للحسابات السياسية الإسرائيلية، وقدرات “حزب الله” العسكرية، والجغرافيا السياسية. ومن العلامات على ذلك قبول الحزب الفعلي وعدم رده على سنواتٍ من الغارات الجوية الإسرائيلية ضد مواقع “حزب الله” في سوريا. ومع تراجع الصراع في سوريا في العام 2017، كانَ فَهمَ الحزب لنَهجِ رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الذي يتجنّبُ المخاطرة واستقطاب السلوك الداخلي هو ما دفعه إلى محاولة إعادة صياغة قواعد الاشتباك مع إسرائيل، من خلال لعبِ دورٍ أوسع في دعم “حماس” و”الجهاد الإسلامي”.

الزمنُ وحده كفيلٌ بإظهارِ مدى معرفة “حزب الله” بتفاصيل هجوم “حماس”. ومع ذلك، فإنَّ حَجمَ العملية وارتفاعَ عدد القتلى المدنيين فيها يُشكّلان شذوذًا في السجل الأخير لإيران وحلفائها، الذين يميلون إلى التقدّم ببطءٍ وحَذَر، كما لو كانوا ينسجون سجّادة فارسية. ومن المؤكد أنَّ “حزب الله” سلّطَ الضوء سابقًا على بعض عناصر الهجوم، وظهرت في خطابه وكجُزءٍ من خيارات الردع لديه. وحتى الجانب الأمني للعملية، مع تحوّل “حماس” إلى أسلوبِ اتصالاتٍ أكثر أمانًا ضمن شبكة المشاركين، أظهر علامات تعاون مع “حزب الله”، الذي يتمتع بخبرةٍ في هذا المجال.

منذ العام 2006، عمل “حزب الله” بدقة على بناء قدراته العسكرية من طريق زيادة متعددة في قوّته النارية، من خلال تطوير قدرة الصواريخ الموجَّهة بدقة والطائرات المسيرة، واعتماد تكتيكات بحرية. وقد أضاف الحزب طبقة تلوَ طبقة من قدرات الردع، فيما أصبح لاعبًا إقليميًا أكبر بكثير، على سبيل المثال من خلال المشاركة في الصراع السوري إلى جانب نظام الرئيس بشار الأسد. بالنسبة إلى “حزب الله”، كان التحالف مع “حماس” و”الجهاد الإسلامي” في إطار استراتيجية “وحدة الساحات” يمثل طبقة أخرى من الردع ومظهرًا لدوره الإقليمي.

وفي هذا السياق، اعتمد “حزب الله” على استعداد نتنياهو لقبول ظلال عنف على حدوده الشمالية لتغيير قواعد الاشتباك في جنوب لبنان. على سبيل المثال، شنت الفصائل الفلسطينية هجمات صاروخية محدودة وتسللت إلى الأراضي الإسرائيلية في العام الماضي، وردت إسرائيل مرارًا وتكرارًا بضبط النفس. لقد فعلت ذلك لاحترام قواعد الاشتباك المتطورة هذه وتجنّب اندلاع حريق أوسع نطاقًا. جاء هذا بتكلفة منخفضة إلى حد ما.

من الناحية السياسية، أصبح تحالف “حزب الله” مع “حماس” و”الجهاد الإسلامي” جُزءًا من خطاب الحزب، ما أعطى نصر الله وإيران مقعدًا أماميًا في معركة حماية الأقصى. وقد أتاح ذلك لإيران وحلفائها فرصةً للخلاص بَعدَ نهجهم الأكثر طائفية خلال فترة ما بعد العام 2003 في العراق، وأثناء الصراع السوري. “حماس”، التي قاتلت إلى جانب المتمرّدين في سوريا واختلفت مع “حزب الله” وإيران، تؤكد الآن على دور إيران في حماية الأقصى. يُعَدُّ التحالف أيضًا استجابةً سياسية لاتفاقيات أبراهام ووعدها بإعادة تشكيل الشرق الأوسط وإعادة تعريف الجغرافيا السياسية للمنطقة.

إن السماحَ بزوالِ “حماس” في غزة سوف يكون مُكلِفًا بالنسبة إلى إيران و”حزب الله” من حيث الروح المعنوية، وسوف يعيد تعريفهما على أنهما يُركّزان في المقام الأول على المصالح الشيعية، مع أجندة طائفية بحتة. وقد بدأت “حماس” تُظهِرُ فعليًا علامات الانزعاج إزاء رد فعل “حزب الله” المحدود نسبيًا على الغارات والصواريخ المنهمرة على غزة. لكن الأهم بالنسبة إلى “حزب الله” هو أن هزيمة “حماس” لن تؤدي فقط إلى تدمير استراتيجية “وحدة الساحات” التي تشكل عبئًا بالفعل، بل ستكشف أيضًا حدود قدرات الردع التي يتمتع بها، وهو ما من شأنه أن يعيد “حزب الله” فعليًا إلى ما كان عليه في العام 2006. فضلًا عن ذلك فإنَّ هجمات السابع من تشرين الأول (أكتوبر) قد تدفع إسرائيل إلى تبنّي العمل العسكري الوقائي مرة أخرى باعتباره سمة أساسية لاستراتيجيتها الدفاعية، وهو ما يعني أن الصراعَ الساحق مع “حزب الله” قد يكون مجرّد مسألة وقت.

على الرغم من ذلك، لا يزال “حزب الله” يرغب في تجنّب صراعٍ شامل في لبنان حول غزة، نظرًا إلى تأثيراته على موقعه السياسي في بلدٍ يعاني من أزمات كثيرة. بل إنه يُفضّل التصعيد التدريجي، مع تحقيق الهدف الصعب الآن المتمثل في وقف الغزو البري الإسرائيلي لغزة. لكن الحزب يعلم أنه لا يستطيع التحكّم في نتيجة أفعاله، فحروب 1993 و1996 و2006 كلها عمليات إسرائيلية هدفها ردع “حزب الله” أو تدميره. إن توسيع حرب غزة لتشمل لبنان هو في نهاية المطاف قرارٌ إسرائيلي.

اليوم، وقع “حزب الله” في فخٍّ من صنع يديه إلى حدٍّ كبير، مع مخاطر كبيرة يمكن أن تؤدي إلى عواقب مدمّرة محتملة. إن تحالفات الحزب، التي كانت مُصَمَّمة لتكون بمثابة مستوى آخر من الردع، عرّضته بدلًا من ذلك لمستوياتٍ من التصعيد العسكري الذي سعى إلى تجنّبه منذ العام 2006.

  • مهنّد الحاج علي هو نائب مدير الأبحاث في مركز مالكولم كير كارنيغي للشرق الأوسط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى