“لا أَدِلّة ومُعطَيات”: مَدرَسَةُ واشنطن وطهران!
محمّد قوّاص*
لم يَرُفّ لوزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان جفنٌ عندما أعلنَ أنَّ لا أَدِلَّةَ على تَوَرُّطِ إسرائيل بالانفجارات التي استهدفت في 19 نيسان (أبريل) الجاري قاعدة عسكرية بالقرب من مدينة أصفهان. قال في اليوم التالي للهجوم، في نيويورك، لشبكة “أن بي سي” (NBC) الأميركية، إنّها “ألعابُ أطفال”. أمعَنَ الرجلُ في أدائه فقال: “إذا اتّخذَت إسرائيل إجراءً حاسمًا ضدّ بلدي وثبت لنا ذلك، فإنّ ردَّنا سيكون فوريًا وإلى أقصى الحدود، وسيجعلهم يندمون عليه”. كان نائب وزير الخارجية الإيراني علي باقري كاني هدّدَ في 15 من الشهر الجاري، أي قبل الردّ الإسرائيلي المزعوم، بأنَّ طهران ستردّ على أيِّ انتقامٍ إسرائيلي “في غضون ثوانٍ”.
لم تَرَ إيران أيَّ انتقام. بَرّأت تل أبيب من هذا الإثم بما لا يستدعي ردًّا إيرانيًا مُزلزِلًا مَوعودًا ضدّ إسرائيل. تدافعت الاعترافات الإسرائيلية منذ أن وصف وزير الأمن الإسرائيلي اليميني المتطرف إيتمار بن غفير الردّ الإسرائيلي بـ”المسخرة”. راحت تقاريرُ الصحافة الإسرائيلية والأميركية تُتحِفُنا بتفاصيل الهجوم وتوقيته وأدواته التقنية الخارقة. قالت هيئة البثّ الإسرائيلية إنّ الصاروخ المُستَخدَم في الهجوم هو صاروخ جو أرض تمّ تطويره محلّيًا ويُطلق عليه اسم “Rampage” (الهيجان). ويبلغ طوله 4.7 أمتار، ويمكن أن يُطلق بسرعة تفوق سرعة الصوت، ما يجعل من الصعب اكتشافه واعتراضه باستخدامِ أنظمةِ الدفاع الجوي. وما بين التكنولوجيا الحديثة و “ألعاب الأطفال” بَونٌ شاسعٌ لانتزاعِ الحقيقة من الروايتين.
لا يهمّ. فأن تُقرِّرَ إيران عَدَمَ تحميلِ إسرائيل مسؤولية هجوم بالقرب من مفاعلها النووي في أصفهان ينتهك سيادتها، فذلكَ قرارٌ سياسي مصدره صاحب القرار الأعلى المرشد علي خامنئي. شرحَ لنا الرجل أنّه لا تهمّ دقّة الصواريخ والمُسيّرات الإيرانية التي استهدفت إسرائيل ليل 13-14 نيسان (أبريل) الجاري، وليس مُهمًّا أعدادها وأهدافها. “المهمّ هو إظهار إيران قدراتها للعالم”. أنكرت طهران الحادثة والحدث، ذلك أنّ في اعتراف إيران بإسرائيلية هجمات أصفهان إظهارًا مُوجِعًا لقدرات إسرائيل التي استخدمت صاروخًا واحدًا مقابل نحو 330 من المسيّرات والصواريخ الإيرانية في الهجوم على إسرائيل.
بَرَّأَ قرارٌ سياسي إيراني إسرائيل. كانَ في التفاهُمات التي رَعَتها الولايات المتحدة لتدبير الردّ الإسرائيلي أن تَصمُتَ إسرائيل وتكبُتُ غطرستها إكرامًا لمشاعر القيادة في إيران. وحين “ارتَكَبَ” بن غفير تَبَرُّمًا من “خفّة” الردّ الإسرائيلي، غضبَ ساسة إسرائيل، بمَن فيهم، للمفارقة، رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو، من سلوكٍ صبياني “يضرّ بمصلحةِ البلاد”.
ليست سابقة فريدة أن تنتهجَ إيران كدولةٍ سلوكًا يُدَوِّرُ الزوايا ويَنزَعُ فتائل اشتعال وتوسيع المواجهة. يُمكِنُ استعارةُ هذا السلوك من مدرسةٍ أميركية. في 8 تشرين الأول (اكتوبر) 2023، أي في اليوم التالي لعملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها “كتائب القسام” الذراع العسكرية لحركة “حماس”، تبرّع وزير الخارجية الأميركي أنطوني بلينكن، في عزِّ الهستيريا التي اجتاحت واشنطن والعواصم الغربية تضامُنًا مع إسرائيل ودعمًا لها، بتَبرِئة إيران من هذا “الإثم”. وعلى منوال ما قاله نظيره الإيراني، قبل أيام، قال بلينكن إنّ بلاده “لا تملكُ أدلّةً أو مُعطياتٍ تُثبتُ تورّطَ طهران في ارتكاب “الطوفان””.
سلّفت واشنطن طهران مَوقِفًا أعادت الأخيرة بإفراط تأكيده. أُطلِقَت المواقف من منابر العسكر والسياسة وصولًا إلى “الوليّ الفقيه”، التي تكاد تُقسِمُ أنّ الجمهورية الإسلامية “لم تكن تعلم” عن ذلك “الطوفان” شيئًا. نقلت “رويترز” عن مصادر طهران تأنيب “المرشد” لرئيس المكتب السياسي لـ”حماس” اسماعيل هنية، حين زاره في طهران أوائل تشرين الثاني (نوفمبر) 2023: “لم تخبرونا ولن نقاتل بالنيابة عنكم”. واستجابت طهران هذه المرّة لواشنطن فسمحت بغَضِّ الطرف (مرّة أخرى) عن قيام إسرائيل بتوجيهِ ضربةٍ “ذكية ومحدودة”، على حدّ تعبير وزير خارجية بريطانيا ديفيد كاميرون، على أن ينسخَ وزير خارجية إيران الصيغة التي استخدمها نظيره الأميركي قبل ذلك، فلا يرى معطيات وأدلّة تدين المُتَّهَم وتُحاكِمه.
وما هو مطلوبٌ الآن هو العودة إلى “العادات والتقاليد” المعمول بها سابقًا. يُعادُ إنعاشُ حروب الظلّ والمواجهات من خلال “الوكلاء”، بما يفسّر إعادة تفعيل ميادين العراق وسوريا، وطبعًا لبنان واليمن. لا أحد في إسرائيل، بمَن فيهم نتنياهو نفسه، يتحدث عن أولوية الخطر الإيراني الاستراتيجي، فيما غابَ عن أبجديات طهران، ومنذ “طوفان الأقصى” بالمناسبة، أيُّ وَعدٍ برمي إسرائيل في البحر إلّا إذا كان من تعابير عدّة شغل الجنرالات الإيرانيين في التوعّد بعظائم الأمور في حال ردّت إسرائيل داخل الأراضي الإيرانية. ردّت إسرائيل. سكت الجميع. ولم يرَ عبد اللهيان إلّا “ألعاب أطفال”.
قلبت الولايات المتحدة وإيران وإسرائيل الصفحة. قفزت المنطقة سريعًا إلى الوراء، إلى حيث غزّة، ومفاوضات الأسرى، وعملية رفح، والوعد بضربة قاصمة ضرورية ضدّ “حزب الله”. أفرج الكونغرس عن ملياراته صوب إسرائيل، وتراجعت احتمالات الحرب الشاملة في الشرق الأوسط، وأعاد جميعُ الأطراف، بما في ذلك تركيا أيضًا، التمَوضُعَ والاستعدادَ لما يحمله “اليوم التالي” لحرب غزّة مهما طال زمن كارثتها.
أما وأنّ الوقائع أثبتت جوف الأبجديات المُتَوَعِّدة، فإنّ الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي احتاجَ إلى جرعاتِ وَعيدٍ تُعيدُ شيئًا من توازُنٍ مفقود. قال الثلثاء، من باكستان التي يزورها، إنّ شنَّ إسرائيل لهجومٍ على الأراضي الإيرانية سيُحدِثُ تغييرًا كاملًا في “الظروف”، وإنّ مثلَ هذا الهجوم “قد يؤدّي إلى عدمِ بقاءِ شيءٍ من الكيان الصهيوني”… وطبعاً لهذا الوعيد تتمّات لن تنتهي.
- محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر منصة تويتر (X) على: @mohamadkawas
- يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) تَوازِيًا مع صُدورِه في “النهار العربي” (بيروت).