تَحَدِّياتٌ صغيرة… كبيرة

عبد الرازق أحمد الشاعر*

لا تكفّ الحياة عن مُناكفتنا والضغط على أرانب أنوفنا ومفاصلنا التي تُؤلمنا وأطرافنا المُنهَكة، وكأنها تتلَذّذ بسماع آهاتنا المكتومة وتتشفّى بلَفحِ أنفاسنا المُلتهبة وحشرجات صدورنا الواهنة … وكما تَبتلينا بالحزن، تَختبرنا بالفرح، وتُجيد ربط حبالها حول رقابنا المعروقة بالغنى قبل الفقر. وكلّما اجتزنا فتنة قاسية كنا نظنّها الحالقة، نجدنا أقوى وأشد صلابة، لكننا مع الوقت نُصبحُ كعجل موسى الذي يُصفّر من خواء. يُدهِش الناس لضخامة جثته وارتفاع خواره، لكنهم لا يعلمون بأنه أكثر هشاشة من جمجمة وليد أو عظام مسن. ولكثرة ما مرّ بي من تجارب، أراني فقدتُ الكثير من الحساسية تجاهها، أو الضعف أمامها. لكن فتنة واحدة لم أستطع حتى اليوم تجاوزها أو التغلب عليها، وهي فتنة الابتلاء بالصغار.

تعمّقَ في ذهني هذا الإحساس وأنا أُتابع إحدى حلقات المصارعة الحرة. صحيحٌ أنني لستُ من عشّاقها، ولا أعرف حتى اليوم كيف تم تصنيفها كنوعٍ من الرياضة رُغم خلوّها شبه التام من الأخلاق والفن والإمتاع، إلّا أن هذه الحلقة بالذات أعجبتني بقدر ما أثارت في داخلي من اشمئزاز، وما جسّدت في أعماقي من مهانة.

وسط الحلبة، وقف عملاقٌ يلوي ذراعيه ويفرد عضلاته، لينشر فوق الجمهور المُتحلّق حول الحلبة بعض الظلال المُتماوجة بفضلِ الأضواء المُتدلية بشكلٍ قطري فوق رأسه. وفجأة، يصعد فوق الحلبة قزمٌ لا يكفّ عن القفز، وكأنه فأرٌ في مصيدةٍ مُكَهربة لا تستطيع عيناه الصغيرتان أن تُبصِرا تضاريس الجبل الذي يتصاعد من رأسه الدخان في انتظار الإذن بسحقه.

في البداية، شعرتُ بالإشفاق على هذا الصغير، وأدركتُ أن نفخةً واحدة من فمِ هذا العملاق كفيلة بطمس ملامح وجهه، حتى لا يستطيع الرائي بعدها أن يُميِّز أنفاً من أُذُن. لكن جرأته وعدم تبصّره بعواقب تهوّره استفزّاني لأبعد حد. ووجدتني أتلهّف لسماعِ الجرس الذي حتماً سيضع نهاية سريعة لمعركة غير متوازنة بين قوّتين غير متكافئتين أبداً.

وكما توقّعت تماماً، قفز القزم من بين حبال الحلبة بمجرّد سماع الجرس، وتوارى تحتها، فيما ظلّ العملاق يدور حوله وهو يُحطّم كل شيء في طريقه في انتظار خروج صيده غير الثمين. وفي النهاية، صعد الصغير فوق الحلبة وهو يحمل في يده قضيبا من حديد يزيد طوله عن ضعف جسده النحيل، وصعد العملاق، فهوى القزم فوق ساعده بالقضيب، لكن العملاق لم يتأثّر، وأمسك بالقضيب ورماه بعيداً، وباليد الأخرى وجّه صفعةً ساحقة ألقت بخصمه خارج الحلبة، وخارج المنافسة، لتنتهي المعركة سريعاً بهزيمةٍ مُذِلّة لقزمٍ لم يُحسن اختيارَ المكان ولا الزمان ولا الخصم. حينها، وجدتني فريسة جملة من الأحاسيس المُتباينة، فأغلقتُ التلفاز وأطلقتُ العنان لخيالي المُنهَك.

لماذا تبتلينا الحياة بالأقزام بين الحين والآخر، فنضطرّ لنِزالٍ لا نُحبّه، الهزيمة فيه عار والانتصار هزيمة؟ وكيف يشعر العمالقة حين ينتصرون على الأقزام في معركةٍ أشبه بالكوميديا منها إلى النزال؟ وماذا عساه يقول لأبنائه ذلك العملاق المُنتَصِر حين يسألونه عن نتيجة معركة لم يُنازل فيها أحداً، ولم ينتصر فيها على أحد؟ وهل تراه يضع صورة تجمعُ بينه وبين غريمه الصغير فوق جدار غرفة الجلوس في بيته الفسيح ليراها الزوّار حين يأتون لتناول الغداء عنده؟ أو يتركها في ألبوم انتصاراته الكبرى لتصبح إرثاً يتناقله الأحفاد جيلاً بعد جيل؟ أم يُسارع إلى حرقها ليخفي أثر معركة اضطرّه إليها غر جاهل لم يُحسن تقييم حجمه أو قدير خصمه؟

حين أبتلي بمثل هذه التحدّيات المُخجلة، أشعر بالإشفاق على نفسي وعلى هذا الأبله الذي لا يكفّ عن رفع قبضته في وجهي مُتحدّياً ومُنذِراً. ولأنني أعلم أن الانتصارَ على الصغارِ عارٌ والوقوف أمام تحدّياتهم المُخجلة خزي، أجدني لا أستطيع الفرار ولا البقاء أمام هذا النوع من التحدّيات. وكُلَّما استفزّتني الكلمات المُهينة، أرفع يدِي إلى السماء لكنني أعود فأضمّها إلى جنبي حتى لا أُسجّل في تاريخ هزائمي هذا الانتصار.

أعتذر إلى كل الأقزام الذين مرّوا في طريقي، وطلبوا مني الدخول في معارك كاريكاتورية، مُضحِكة أحداثها، مُخزية انتصاراتها. ولو كنتُ مكان هذا العملاق الذي وقف فوق حلبة الحياة مُتحدّياً جرماً لا يرتفع كثيراً فوق مستوى ركبته، لاخترتُ الوقوف فوق الحلبة في انتظار غريمٍ يستحقّ النِزال، حتى وإن لم يُقدّر المتفرجّون دوافع عجزي عن ردّ إهانات هذا الصغير وقبضته التي ترتفع في وجهي بين الحين والآخر.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر البريد الإلكتروني التالي: Shaer1970@gmail.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى