السودان… نِفاقُ العالمِ ومَخالِبُهُ!

محمّد قوّاص*

بَدَت عواصِمُ الدنيا مَذهولةَ مَشلولةً أمامَ الصدامات الدموية التي اندلعت منذ صباح 19 نيسان (إبريل) الجاري في السودان. بعضُها اعترفَ، خصوصًا واشنطن، أنها فشلت في توقّعِ مُجابهةٍ توافرت كل الظروف لتَفَجُّرِها. ومع أنَّ للعواصم، عربية أو إقليمية أو دولية، أجنداتها ومصالحها في البلد المنكوب، إلّا أنَّها جميعها وعلى نحوٍ لافت، حافظت على لهجةٍ ديبلوماسيةٍ محسوبةٍ في أدائها ومفرداتها على نحوٍ لا يستفزّ فريقَيّ الصراع، ويمنحهما في الوقت عينه شرعيةَ اعترافٍ لا تنحازُ لروايةٍ على حسابِ نقيضها.

في الأمرِ مناورةُ مُنافَقة لا تُشبه حقيقة مواقف قوى الخارج مما جرى ويجري في السودان منذ عقود. والأرجح أن حاجة البلدان لإجلاء رعاياها (وجنودها أيضًا في الحالة المصرية)، فرضت على العواصم التواصل مع قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وقائد قوات الردع السريع محمد حمدان دقلو (حميدتي) على السواء، والإنصات لرؤيتيهما للحدث والاستفادة، طبعًا، من إمكانات قوّاتهما لتنظيم عمليات الإجلاء من مطارات البلاد وموانئها. وفي المقابل فإن الجنرالين يُبديان تعاونًا من أجلِ حلّ أزمة الرعايا الأجانب وإظهار قدراتهما وصدقيتهما في التعاطي مع المجتمع الدولي.

وإذا ما انشغلت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي كما كوريا الجنوبية واليابان والصين وروسيا والدول العربية… إلخ، بالتركيز على أولوية إخراج رعاياها من ذلك “الجحيم”، فإنَّ في الأمرِ ما يُوحي أنَّ العواصم تملك من المعطيات ما يجعلها مُتأكّدة من هراء التعويل على وقفٍ للقتال، وأنها متخوّفة من أن الصراعَ في هذا البلد دخلَ مرحلةً خطيرة يصعب استشراف نهاياتها. والواضح أنَّ الحسمَ العسكري الذي يَعِد به الفريقان حلًّا وحيدًا لصراعهما صعب المنال حتى لو تحقق ذلك في محورٍ هنا ومدينة هناك. أما تواصل الخارج مع الجنرالين، فيوحي أنهما سيبقيان لاعبَين أساسيين ما بعد القتال.

ستكون للخارج مواقف جديدة أخرى حُرِصَ على كتمها في الأيام الأخيرة خدمةً لسيناريوات إخلاء الرعايا. ما زالت المنظمة الأممية والقوى الغربية متمسّكة ببرنامج نقل السلطة إلى قوى مدنيّة وفق خريطة تفضي يومًا إلى انتخاباتٍ تُعيدُ تشكيلَ سلطةٍ تَعَذّرَ تشكّلها منذ سقوط نظام عمر حسن البشير في العام 2019. حتى أن وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن لم ينسَ بعد ساعاتٍ من انفجارِ الصدام، وفي معرض مناشداته لوقف إطلاق النار، التذكير بضرورة العودة إلى الاتفاقات السابقة، وفي مقدمها طبعًا “الاتفاق الإطاري” الذي أُبرِمَ في كانون الأول (ديسمبر) 2022.

عواصمٌ أُخرى لا تنظرُ إلى السودان من عيونِ “الإطاري”. حتى أنَّ من ساسّة السودان مَن أعلنَ سقوط الاتفاق وتقادمه وكأنه يُعوِّلُ على الحدث وما سينتجه من مآلاتٍ لتغيير خرائط التسويات. وإذا ما شاعت أنباء، اختلط فيها المضلّل بالصحيح، عن تدخّلاتٍ خارجية عسكرية مباشرة لصالح هذا الطرف أو ذاك، فإنَّ الأمرَ لا يبتعدُ عن حقيقة أنَّ للخارج خرائطه السودانية التي سيدافع عنها، بالسرّ أو العلن، ما قد ينقل الصراع الدولي إلى السودان ليُعبَّرَ عنه بأدواتٍ سودانية وبأيدي السودانيين.

وإذا ما أعربت شركة فاغنر الروسية عن استعدادها للوساطة بين المتقاتلين، فإنَّ في العرض ما يزعم امتلاك الشركة علاقاتٍ مع “الجيش” و”الردع”، وما يُفنّدُ ما ذهبت الخرطوم إلى نفيه من امتلاك المجموعة الأمنية الروسية الخاصة قاعدة، قيل إنها في جنوب غربي السودان في المناطق التابعة لنفوذ “حميدتي” وقواته وامتداداتها القبلية. والغرابة أنَّ لا أحد استهجن أن تَعرُضَ شركة أمنية روسية خاصة، لا تعترف موسكو نفسها بصفتها الرسمية التمثيلية، وساطتها فيما الآليات الأممية والدولية والأفريقية وتلك التابعة لمنظمة “إيغاد” عاجزة عن إقناع المتقاتلين بنداءاتها، ومناشداتها غير قادرة على إيصال وسطائها.

ليس سرّاً أن لروسيا أجندات جريئة ومتقدمة في أفريقيا، لا سيما في مالي وأفريقيا الوسطى وبوركينا فاسو، إلى درجةٍ تراجعَ نفوذ فرنسا التاريخي في منطقة الساحل في القارة السمراء. وليس كشفًا أن الصين قد باشرت منذ عقود تمدّدًا دؤوبًا داخل بلدان أفريقيا، بما في ذلك السودان. حتى أن في مروي، التي اشتهرت في الأيام الأخيرة بسبب بدء الصراع منها وحول مطارها والقاعدة الجوية هناك، سدًّا مائيًا بناه الصينيون واعتُبر حينها ثاني أكبر سدّ في القارة بعد السّد العالي في أسوان في مصر. وحين يستفيق الغرب عامة والحلف الأطلسي بخاصة على الأهمية الاستراتيجية للقارة بصفتها الجناح الجنوبي لـ”الناتو” (تم دمج منطقة شمال أفريقيا والساحل في صلب العقيدة الاستراتيجية للحلف في قمة مدريد في حزيران (يونيو) 2022)، فإن ذلك يعني أن أفريقيا باتت ساحة صراع كتلك الساخنة في أوكرانيا وتلك الباردة المتّجهة إلى سخونة في منطقة المحيطين الهندي والهادئ.

لن ينجو السودان من صراع العواصم. ولأنّه كان للصراع السوداني أسبابه السودانية من دون شكّ، فإنَّ خلفياتٍ إقليمية وحسابات دولية قد تجعل من هذا الصراع معقّد الحلّ بسبب استعصاء نزاعات القرن بين شرق وغرب والتي يُعَوَّلُ عليها لإجراء تحديثات في النظام الدولي الراهن يذهب الطامحون إلى استبداله بنظام دولي جديد. وإذا ما يركب “حميدتي” موجة تسليم السلطة للمدنيين ودعم قيام عملية ديموقراطية، ويَعِدُ البرهان بالقضاء على “التمرّد”، قبل إعادة إنعاش التسوية السياسية في السودان، فإن الجلبة تحت حمم النار تخفي أن جدّيتها رهن أجندات خارجية لن تتأخّرَ في الظهور وإبراز مخالبها من دونِ قفّازات الأيام الأولى للصراع.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى