وثيقة جديدة: احتفال بـجبران في ديتْرُوْيْت (3 من 3)

رفيقا تأْسيس “الرابطة القلمية” جبران وميخائيل نعيمة (مزرعة كاهُونْزي – صيف 1921)

هنري زغيب*

في الجزءَين السابقَين من هذا المقال في أَسواق العرَب، قدَّمتُ لهذه الوثيقة ظرفًا ومكانًا وتاريخًا ومناسبةً، تكريمًا جبرانَ في ديتْرُوْيْت سنة 1924، وأَوردتُ مقطعَين من الخطاب الافتتاحي. هنا الجزءُ الثالث والأَخير، وفيه بقيةُ الخطاب، ثم تعليقي عليه.

بعد إِيراد الخطيب نبذةً عن جبران مستشهدًا بما صدَرَ في الصحُف والمجلَّات عن كتاباته العربية والإِنكليزية وعن رسومه ولوحاته، ختَمَ خطابَه بأَربعة أَبيات من جبران (كانت صدرَت في مجموعته “البدائع والطرائف” – القاهرة 1923)، وشَكَر القيِّمين على الاحتفال ورحَّب بأَبرز الحضُور.

هنا المقطع الأَخير من الخطاب:

“… وإِليكم أَيها المحتفلون الكرام أُنموذجًا من شعر المحتفَل به، ينمُّ عن أَمياله وعواطفه الروحية:

إِذا غزلْتُم حول يومي الظنونْ  وإِن حبكْتُم حول ليلِيْ الـمَلامْ

فلن تدكُّوا بُرج صَبري الحصينْ           ولن تُزيلوا من كُؤُوسي الـمُدامْ

ففي حياتي منزلٌ للسُكُونْ                   وفي فؤَادي معهدٌ للسلامْ

ومن تغذَّى من طعام الـمَنونْ   لا يختشي من أَن يذوقَ الـمَنامْ

الإِعلان عن فخامة فندق تَلِر حيث كان الاحتفال

هذه صورة مصغَّرة ووصْف وجيز لنبوغ بدْر هذه الليلة الساطعة ودُرَّة عقْد هذه القلادة الرائعة: الأُستاذ جبران خليل جبران الذي نُقيم هذه الحفلة الشائقة إِكرامًا لاجتهاده، وتقديرًا لمواهبه الممتازة، وإِعجابًا بكتاباته التي عزَّزَت النهضة الأَدبية، وأَيَّدَت مكانة لساننا العربي الجميل في ديار المهجر، هذه الحفلة التي نَعدُّها حسَنة من حسنات الدهر، إِذ جمعَتْنا بأَفاضل القوم من أَميركيين وسوريين، وبينهم عدد من ذوي المكانة العالية والمقام الرفيع. كيف لا، وفي صدر هذا النادي يتأَلَّقُ ضياء تلك الطلْعة الوقورة، طلعةِ أَميرٍ من أُمراء القلم،  وجهبذٍ من جهابذة البيان، أَلَا وهو الطبيب النطاسي الكبير والناثر والناظم الشهير، ذاك الذي تعشقُه الأُذْن لشهرته قبل أَن تتمتَّع العين برؤْيته: السيد نجيب سلُّوم، الخطيب الذي تتلاعب بالعقول معانيه ويصاغ الدُرُّ من نفْض فيه. إِن نَثَرَ فالنجوم في أَملاكها، أَو نَظَمَ فالجواهر في أَسلاكها:

قد رأَينا منه الذي قد سمعْنا                 فغدا الـخُبْرُ عاضدَ الأَخبارِ

قد ورَدْنا لديه بحرًا نَميرًا                   وارتقينا حيث النُجُوم الدراري

كما قد أَسعدَنا الحظُّ أَيضًا بأَن زيَّن هذه الحفلة بوجوده الكريم قدْسُ الأَب الفاضل الخوري إِيليا الحاماتي، وهو من رجال الدين المفيدين ومن أَرباب العلْم المعدودين وأَحدُ أُمراء القلم المشهورين، بليغٌ في إِنشائه متينٌ في بيانه.

هذا وإِنَّ لهذه الليلة حسناتٍ كثيرةً معنوية، يضيق الوقت دون تعدادها. فلرئيس هذا “النادي السوري الأَميركي” وأَعضائه العاملين والمشتركين الشكرُ المستطاب والثناءُ الجزيل على إِحياء هذه الحفلة النادرة التي نرجو أَن تقامَ أَمثالُها في كل فرصةٍ ملائمة تقديرًا لنُبُوغ العاملين المجتهدين من المواطنين، وتنشيطًا لغيرهم على السعي في مضمار الترَقِّي في هذه البلاد الجميلة، لا زال الأَمن مخيِّمًا في أَرباضها والنجاحُ زاهرًا في رياضها.

والسلام ختام”.

كتاب “أقلب الصفحة يا فتى” وفيه مخطوطةُ الخطاب

تعليقي على النص

  1. واضحٌ أَن الخطيب متأَثرٌ لُغَويًّا بقاموس تلك المرحلة من الخطابة والكتابة: السجَع، التفخيم، التبجيل كما في لغة القرن التاسع عشر ذات الأُسلوب “الباروكي”، بإِضفاء النعوت المبالَغ فيها على الـمُكَرَّم. وهو ما كان جبران أَشاح عنه وأَوصى بالإِشاحة عنه في مبادئ “الرابطة القلمية” (1920).
  2. وردَت في الخطاب تعابير كانت في التداول عهدئذٍ: “الشواعر” (ويقصد “المشاعر”)، و”الأَميال” (ويقصد “الميول”)، و”قرَّظَتْها” (ويقصد “امتدَحَتْها”)، “الأَثمار” (ويقصد “الثمار”)، “فن التصوير” (ويقصد “الرسم”)، “الناقدون” (ويقصد “النُقَّاد”)، “مُتَحدِّرات” (ويقصد “الجبال”)، و”التخَيُّلات” (ويقصد “الخيالات”)، و”الأَرباض” (ويقصد “الديار”)، …
  3. تعابير “السوري” و”سوريا” و”السوريين” في النص هي بالمعنى الجِيو-سياسي المتداوَل عهدئذِ في الولايات المتحدة، وهي تشمل أَبناء الجاليتَين اللبنانية والسورية، وكانوا قبلذاك يُعرَفون بــ”التوركو”، مع أَنَّ تاريخ هذا الخطاب: 1924، ولبنان في العام الرابع من “دولة لبنان الكبير” (1920). وتدريجيًّا تَعَدَّل اسمُ بعض النوادي إِلى “النادي السوري اللبناني الأَميركي”.
  4. يتجلَّى من النص اطِّلاعُ الخطيب على مجلات كتَبَتْ عن جبران، كـ”الهلال” (أَسَّسها جرجي زيدان في القاهرة سنة 1892)، و”الفنون” (أَسَّسها نسيب عريضة في نيويورك سنة 1913 وأَصدر منها 29 عددًا فقط)، و”كريستْشِن سايِنْس مونيتور” (أَسَّستْها ماري بيكر إِدِي سنة 1908 جريدةً يوميةً في بوسطن).
  5. يستشهد الخطيب بمقطع من مقدمة نسيب عريضة لـ”المواكب” وهي لم تَردْ في طبعات “المواكب” لاحقًا. ويذهب دارسون إِلى الاعتقاد بأَنها من كتابة جبران وتوقيع عريضة، لِمَا كان من صلة وُثْقى بين عريضة وجبران الذي كان يدعم ماديًّا مجلة “الفنون”.
  6. يرحِّب الخطيب بين الحضور بـ”النطاسي” (تعبير “الطبيب” في تلك الحقبة) نجيب سلُّوم، وهو من وجهاء الجالية السورية ومشجِّع أَنشطتها. وُلد في حمص سنة 1869، درس الطب في الجامعة الأَميركية – بيروت، هاجر إِلى أَميركا سنة 1895 وعاش في مدينة توليدو (ولاية أُوهايو جارة ولاية مِتْشيغان). كتبَ نثرًا وشعرًا بالعربية والإِنكليزية. له مطوَّلة من 1200 بيت في مآثر أُسرته “سلُّوم”. وله قصيدة بالإِنكليزية عن فواجع الحرب الكبرى نالت الجائزة الأُولى بين شعراء أَميركيين. توفي سنة 1938 بدون عقِب.
  7. يرحِّب الخطيب أَيضًا بالأَب إِيليا الحاماتي. وهو كاهن أُرثوذكسي من أَركان الجالية. أَسَّس في ديترُوْيْت (مِتْشيغان) سنة 1927 مع الأَرشمندريت أَنطونيوس بشير مجلة “الخالدات” وشعارُها “سِفْر القلوب الحية والعقول الناصحة والأَيدي العاملة”، وكانت تصدر في “مطبعة جريدة الحرية لصاحبها نسيب عامر وهبه – ديتْرُوْيت”. ثم أَكمل إِصدارَها وحده في نيويورك الأَرشمندريت أَنطونيوس بشير وهو صديق جبران ومُتَرجم كتبه إِلى العربية.

ختامًا: أَوردتُ هذا الخطاب بنَصِّه الكامل وتاريخه ومناسبته وظروفه، ولم يبْقَ إِلَّا كشْفُ اسم هذا الخطيب. آمل ممَّن يقرأُ هذا الموضوع في أَسواق العرب ويعرف من كان ذاك الخطيب أَن يمدَّني باسمه كي تكتمل المعلومة. 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” (لندن) تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” (بيروت).

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى