الهُروبُ إلى السجن

عبد الرازق أحمد الشاعر*

في بلادنا يُقتَل الرجلُ من دون أن يدري فيمَ قُتِل، وتقضي المرأة عمرها خلف القضبان من دون أن تَرتَكِبَ جُرماً يستدعي البقاء في ظلمة القهر ليلة واحدة … ويلقى المُواطنُ الهَوانَ على أيدي الدرك والحرس الذين ينتمون إلى لون البشرة وصفحات التاريخ نفسها، أو على أيدي العسكر أو الجندرمة الآتين من وراء المُحيط ليشهدوا منافع لهم. الموتُ إذن هو القدر الذي لا مناص منه  لِمَن يَحمُلُ هويةً عربيةً باتت مسبة في بطاقة لا يفخر بحملها أحد.

وليس من حقّك في بلاد العرب أن تختارَ طريقة مصرعك أو لونَ الحاشية التي ستضعها تحت جنبك وأنت تنطق بالشهادة فوق سرير الموت. وقد لا تَجد مَن يبكي عند قبرك أو يُتمتِم ببعض آيات القرآن وهو مُغمّض العينين ليستحضر ملامحك قبل أن تواريها الأحداث المُتسارعة تحت ركام الذاكرة. فبعض الأُسَرِ تموتُ معاً لأنها لم تستطع أن تحيا معاً. فضلٌ من الله أن تموتَ كالإبل فوق فراشٍ دافئ لأنك ترفض أن تكون قابيل الأخير، لكن الغصّة تبقى في حلقك لأنك قرّرتَ أن تدير ظهرك للعدو يوم زحف لم تستعدّ له.

في سوريا، وتحديداً في إدلب، يرفض القابعون في سجون الوطن أن يُغادروا زنازينهم لأنهم لا يشعرون بالأمان خارجها. ويَزهدون ضوء الشمس ورائحة القرنفل الدمشقي مُفضّلين رائحة الروث الآدمي والعرق والعفن. فما الفائدة من حرية لا تفضي إلّا إلى الموت؟ وما جدوى هواء ملوّث برائحة البارود والغازات السامة في وطنٍ ليست له حرفة إلّا القتل والحرق والخسف؟

في سوريا، يُمارس الجيش الوطني الغواية، فيقصف بطائرات روسية أبوابَ الزنازين ليُغري الخارجين على حرم السلطان بالخروج أفواجاً إلى الموت. لكن المواطنين الذين أصبحوا أكثر دراسة من المخابرات التركية لما وراء الأكمات الروسية، يرفضون الانزلاق خلف وَهمِ الحرية لأنهم يعرفون أن ثمن الحرية في بلاد القصف هو الموت المُبكر أو العجز المقيم. وحتى يصل السيد الروسي إلى هدنة دائمة مع حليفه التركي المُتمرّد تحقن دماء المغلوبين على القصف، سيظل السوريون يبحثون في سجون الوطن عن مكانٍ آمنٍ وإن كان مساحة ضيقة لا تتسع لأجسام الرضّع أو أقدام العجائز.

لا مرحبا بالتعليم أو المدارس في بلاد حرفة أهلها الاختباء وغاية أحلامهم الحفاظ على أطرافهم سليمة حتى الموت.

في إدلب، التي أعلنت التمرّد على الخوذات الوطنية والقاذفات الروسية، وألقت بما تبقى فيها من أنقاضٍ في أحضان الأتراك ومن ورائهم الأميركيين، لا يغادر السوريون سجونهم حتى لا تُحطّمهم الأحذية الباردة أو براميل البارود، ويُفضلون الأمن على الحرية، ويقدمون النجاة على نسمات الهواء الباردة تحت أشجار اللوز والزيزفون.

في وقتٍ يُطالبُ الغربيون بحقوق الحيوانات والشواذ، لا يجد العربي مَن يُطالب بحقه في الحياة من دون خوف. وفي وقتٍ تسعى الدول الكبري والإثنيات الصغرى إلى التكتّل في قوميات كبرى، ينهار سقف العروبة على رؤوس الحالمين بغدٍ مُختلف، وتتآكل الدول الكبري وتتشظّى تحت معاول الأطماع والخيانات والعمالة. وفي وقت يسعى الناس جميعاً إلى الحرية، يهرب الإدلبيون إلى السجون. ويستمر النزف بدون أدنى بشارة في أيِّ أفق، وكأننا حطب الموت فوق كرة لا تستدفئ إلّا بعظامنا.

هل كان من حكمةِ حُكّامنا الأشاوس الإفراط في بناء السجون؟ وهل ينبغي على الثورات العربية المقبلة أن تكفَّ عن المطالبة بالعيش والحرية وأن تُطالب ببناء المزيد من المُعتقلات؟ أم أن الغد قد يحمل رؤيا لا يؤولها إلّا سجين كيوسف يكون على خزائن الأرض ليحوّل سنواتنا السبعين العجاف إلى أعوامٍ فيها يغاث الناس وفيها يعصرون؟

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو أديب، كاتب وصحافي مصري. يمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني التالي: shaer1970@gmail.com     

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى