أزمات لبنان اللامتناهية: هل اللامركزية هي حلّ؟

بقلم مايكل يونغ*

مع استمرار لبنان في التفكّك، فإن نظامه السياسي قد انهار بشكلٍ لا لبس فيه. ما كان نموذجاً توافُقياً مُثيراً للاهتمام حتى الحرب الأهلية في العام 1975، تم استبداله في نهاية الحرب في العام 1990 بنظامٍ تعدّدي طائفي لتقاسم الحصص الوطنية التي شملت قادة فترة الحرب وطبقة جديدة من رجال الأعمال.

بدأ انهيار هذا النظام في أواخر العام 2019، حيث أدت ديون لبنان وتراجع تدفقات رأس المال إلى ركوع البلاد مالياً على ركبتيها. من منظورٍ سياسي، قتل هذا الوضع البقرة النقدية الحلوب التي نهب “حليبها” الكارتل السياسي الحاكم بلا هوادة. ومع ذلك، رفض هؤلاء القادة التنازل عن أيّ سلطة، في حين استمرت ميليشيات “حزب الله” الموالية لإيران في فرض تفضيلاتها ومصالحها، ومنع البلاد من الخروج من وضعها المُزري.

إنتهت حرب لبنان في العام 1990، بعد سنة على موافقة مجلس النواب على اتفاق الطائف، وهو خطة إصلاح سياسي تم التفاوض عليها في مدينة الطائف السعودية في أيلول (سبتمبر) وتشرين الأول (أكتوبر) 1989. بموجبه، تم تعديل الدستور، وتحويل النظام الرئاسي إلى نظامٍ صارت فيه الهيئة التنفيذية الرئيسة في يد مجلس الوزراء. في حين أن التغييرات أعادت توزيع السلطة بين الطوائف الدينية، فإن إتفاق الطائف أوجد أيضاً هيكلاً مثالياً لتقسيم الدولة بين القادة الطائفيين، الذين سبق لعددٍ منهم أن كان من قادة الميليشيات.

في حين كان تقاسم السلطة الطائفي سمةً من سماتِ دولة ما قبل الحرب، فقد أدت الحرب والهيمنة السورية بعد العام 1990 إلى تقويض المؤسسات الوطنية بشكل كامل. إستطاع القادة الطائفيون ورعاتهم السوريون خطف الدولة بعد انتهاء الحرب وتحويل الوزارات وهيئات الدولة إلى إقطاعيات مُربحة. وبالتالي، كان النظام المالي اللبناني في التسعينات الفائتة مُوَجَّهاً نحو تمويل ما أصبح واجهة دولة، واحدة يحكمها سياسيون الذين من أجلهم تُخلَقُ قضايا وتُحَلّ من خلال أزمات مُصطَنعة تُعجّل بإيجاد حلولٍ تعود بالفائدة عليهم جميعاً. لقد ولّدت عملية إعادة إعمار لبنان فساداً وسرقة واسعَي النطاق حيث أصبحا جزءاً لا يتجزّأ من النظام السياسي.

منذ الانسحاب السوري في العام 2005، بعد اغتيال الرئيس رفيق الحريري، تحوّل دستور ما بعد الطائف إلى أداةٍ للعرقلة. من خلال فرض نظام الإجماع الطائفي بشكلٍ فعّال على جميع القرارات الرئيسة، حالت الوثيقة دون التقدّم عندما لا يوجد توافقٌ في الآراء بين الكارتل الحاكم. لقد ترنّح النظام السياسي من مأزقٍ إلى آخر، حيث احتجز السياسيون والأحزاب الدولة كرهينة لفرض أولوياتهم السياسية.

من ناحية أخرى، عزّزت الطبيعة الضعيفة لعملية صنع القرار السياسي من الشعور بأن لبنان المُوَحَّد صار فكرةً لا تستحق الدفاع عنها أو الحفاظ عليها. هذا هو السبب في أن ردود الفعل الطائفية في البلاد تدفع الكثيرين إلى التفكير في آليات الفصل والإنفصال التي من شأنها أن تسمح للبنان بالعمل بشكل أفضل، وإن كان ذلك داخل قشرة دولة واحدة فارغة.

العامل الرئيس الذي يُشجّع مثل هذا التفكير هو وجود “حزب الله”. نظراً إلى أن الحزب هو أقوى من أن يتم استدعاؤه من قبل الدولة ولأنه مُندَمجٌ بشكلٍ وثيق مع إحدى الطوائف الدينية الرئيسة في لبنان، فهناك مَن يعتقد أن الخيار الأفضل هو التحرّك نحو الطلاق المُريح. بهذه الطريقة، قد تتمكّن مناطق كثيرة في لبنان من عزل نفسها عن جهود “حزب الله” لاستخدام الحكومة المركزية لفرض إرادته، أو شن حرب مع إسرائيل نيابة عن إيران.

التقسيم لا يُمكن أن ينجح في كيانٍ صغيرٍ مثل لبنان، في حين أن الفيدرالية لديها مشاكلها الخاصة، ليس أقلها كيفية التوصّل إلى ترتيبات بشأن الدوائر المُختَلطة دينياً. لكن الطائف عرض مساراً جزئياً من خلال إرساء الأساس لعملية اللامركزية الإدارية.

وبحسب الطائف، فإن هذا سيشمل توسيع سلطة المسؤولين في المحافطات، والأقضية، أو المناطق الإدارية الصغيرة. ستُقام مجالس لكل قضاء تُوفّر بعض الحرية، ويذكر الطائف إعادة رسم الخريطة الإدارية للبنان لتعزيز التنمية المحلية.

يُمكن توسيع مقترحات الطائف إذا كان الهدف هو التأكيد على اللامركزية. بينما يتم تعيين المحافظين والقائمقامين في لبنان من قبل الحكومة المركزية، فإن ملء هذه المناصب من خلال انتخابات محلية قد يكون بديلاً من ذلك كوسيلة للحدّ من التأثير المحتمل للعوائق السياسية من المركز.

والغرض من ذلك هو السماح لكل محافظة وقضاء بالعمل بطريقةٍ مُستقلة نسبياً عن بقية البلاد. في نظر المؤيدين، قد يعني هذا أن التركيبة السكانية الطائفية على المستوى الوطني ستكون أقل أهمية، لأن الأقليات، وخصوصاً المسيحيين والدروز، سيديرون شؤونهم الخاصة في مناطقهم. والأهم من ذلك ، قد يُمثّل هذا الأمر خطوةً أولية نحو الفيدرالية.

لا شكّ أن هناك مشاكل مع هذه الفكرة. أولاً، يُمكن ل”حزب الله” أن يُعارض التنازل عن دولةٍ لبنانية تحمي أسلحته، وسيكون أكثر عرضة للهجوم في بلد يقتصر فيه بشكل أساسي على المناطق ذات الغالبية الشيعية. لكن النظام اللامركزي سوف يعفيه أيضاً من الاضطرار إلى السيطرة باستمرار على بلدٍ ترفض طوائفه العديدة بشكل متزايد أجندة الحزب.

ومن شأن نظام كهذا أن يُقوّي الزعماء والأحزاب الطائفية في المناطق التي يسيطرون عليها على حساب المعارضين لهم. بعبارة أخرى، يُمكن نقل القبضة الطائفية للكارتل السياسي إلى المستوى المحلي. ومع ذلك، فإن الجانب الإيجابي هو أن لبنان يميل أيضاً إلى الاحتفاظ بدوافع تعدّدية قوية محلياً، حيث تميل الروابط الشخصية والعائلية إلى الهيمنة.

لكن مع استمرار سقوط البناء، يبدو الآن أن الوقت قد حان للتفكير في إعادة تصوّر لبنان، سواء كان ذلك من خلال اللامركزية أو من خلال نظامٍ آخر يمنح اللبنانيين دوراً أكبر في تقرير مصيرهم. لقد تحوّل نظام ما بعد الحرب إلى مشروعٍ إجرامي يُديره القادة الذين نهبوا السكان. لقد مات العقد الاجتماعي في لبنان ويجب استبداله.

  • مايكل يونغ هو رئيس تحرير “ديوان”، مُدوّنة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، بيروت، وكاتب رأي في صحيفة “ذا ناشيونال” الإماراتية. يُمكن متابعته عبر تويتر على:  @BeirutCalling
  • كُتِبَ هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى