أَلبِر كامو: لم تنقِذْه بطاقةُ القطار

جثمان كامو في قاعة البلدية

بقلم هنري زغيب*

مع فجر اهتماماتي الأَدبية، وأَنا في ختام المرحلة الثانوية ومطالع الجامعية، كان أَلبِر كامو أَكثرَ مَن يَندهُني إِلى قراءته والاستماع إِلى أَشخاص رواياته يصارعون قدَرًا سيزيفيًّا يلاحقه هو قبلهم، حتى أَعلن في كتابه “أُسطورة سيزيف” (1942): “الشجاعة القصوى أَن نُبقي أَعيُنَنا مفتوحةً على اثنين: النُور والموت”. وبلغَت به “قُصواه” أَكثر حتى قال: “أَفضل الميتات: في حادث سيارة”.

تُراه كان يَـحدُسُ أَنْ هكذا سينقصف ربيعُه السادس والأَربعون ذاكَ الإِثنين الماطر في 4 كانون الثاني/يناير 1960؟

وهل مات مفتوحَ العينين فيما السيارة الجامحة ترتطم بتلك الشجرة الشرسة على طرف الطريق؟

سوزان مذهولةً أَمام حطام السيارة

ليلة الميلاد الأَخير

ما الذي جرى اثـنَـيـنَـيـئِذٍ؟

كان كامو يعمل على “الإِنسان الأَول” (كتابِ سيرته الذاتية منذ طفولته في الجزائر العاصمة) فكان ينسحب إِلى بلدة لورماران Lourmarin الريفية (جنوب شرقي فرنسا) يواصل الكتابة في بيته هناك (كرخانة حرير مهجورة اشتراها ورمَّمها بمبلغ جائزة نوبل التي حازها سنة 1957).

احتفل بليلة الميلاد 1959 مع فرانسين (زوجته الثانية منذ 1940) وكانت التحقَت به مع ولدَيهما التوأَمين جان وكاترين (مولودان سنة 1945). ثم احتفلوا بليلة رأْس السنة الجديدة 1960 مع الناشر ميشال غاليمار وزوجته جانين وابنتُهما آنَّا. ميشال (ابن ريمون شقيق غاستون مؤَسس “منشورات غاليمار” سنة 1919) كان يشرف في دار النشر على السلسلة الأَدبية “لاپلياد” La Pléiade، وجانين كانت عضو لجنة القراءة التي وافقَت على نشر رواية كامو “الغريب” (1941). وروى كامو لضيوفه أَن صديقه أَندريه مالرو (وزير الثقافة عهدئذٍ) يتهيَّأُ لتسليمه إِدارةَ مسرح كبير في پاريس (“آتينيه” أَو “ريكامييه”).

صباح السبت 2 كانون الثاني/يناير1960 عادت فرانسين وولداها بالقطار إِلى المنزل في آڤينيون. وكان كامو اشترى بطاقة القطار ليعود نهار الإِثنين إِلى پـاريس مع صديقه الشاعر رينه شار. لكن ميشال أَقنع صديقه أَلبِر بالتخلِّي عن السفر بالقطار والعودة معه بسيارته الجديدة الـ”فاسِل ڤيغا” إِلى پاريس (742 كلم). وهكذا كان.

وثيقة الوفاة من البلدية بخط سوزان

المشوار الأَخير

صباح الأَحد جمَع الكاتب أَوراقَ مخطوطته الجديدة في حقيبته السوداء، ودَّع خادمتَه: “سوزانَّا، أَراكِ السبت المقبل”، ودَلَفَ إِلى الـ”فاسل ڤيغا” التي قادها ميشال إِلى أَول محطة بنزين في البلدة حيث فوجئَ الكاتب بصاحب المحطة يقترب منه وفي يده نسخة “الغريب” طالبًا من المؤَلِّف توقيعَه عليها.

توقَّف الأَربعة في مدينة “أُورانج” للغداء، وأَكملوا حتى المساء الذي هبط عليهم في بورغونBougogne  فنزلوا إِلى فندقٍ يحتفلون فيه بذكرى ميلاد آنَّا الثامنة عشْرة.

وفاة كامو في الصحافة

صباح الإِثنين انطلقَت بهم الـ”فاسل ڤيغا” إِلى پاريس. كان ميشال يحبُّ السرعة، تُغريه بها سيارته القوية. بعد توقُّفٍ للغداء في مدينة سانس Sens، عادت السيارة إِلى مسابقة الريح تحت المطر: ميشال إِلى المقود، صديقُه الكاتب حَدَّه (لم يشدَّ إِلى خصره حزامَ الأَمان لأَنه لم يكُن فترتَئِذٍ إِلزاميًّا) وفي المقعد الخلفي جانين وآنَّا. على 24 كلم من سانس، في مدينة شامپِنيي Champigny، انفتحت الطريق واسعة مستقيمةً تحرسها عن يُمناها سلسلةُ أَشجار دلْب عتيقة. وما هي دقائق من دخولها بلدة ڤيلْبْلُوڤان Villeblevin حتى جَنَحَت السيارة عن الطريق المبلَّل واصطدَمت بأَوَّل شجرة دلْب وأَكملَت نحو 13 مترًا بعنف سرعتها لتَتَحطَّم مُنقَصِفةً قطعًا على شجرة دلب أُخرى، وتتطاير شظايا في كل اتجاه نحو 63 مترًا.

كانت الساعة 1:55 حين لم يتمكَّن أَلبِر كامو من إِبقاء عينيه مفتوحتَين كي يرى ميتَتَه الفورية، لأَن جسمه النحيل انسحقَ بين مقعده وجذْع الشجرة التي انفرطت عنده السيارة بسرعة 150 كلم بعد انفجار دولابها الخلفي الأَيسر. وفيما سحَب مسعفون جثةَ الكاتب، نقَل آخرون إِلى المستشفى السائقَ النازفَ كثيرًا من طحاله (مات بعد ستة أَيام)، وجانين المحطَّمة القدمين، وآنَّا المشوَّهَة الوجه مرميَّةً على الجانب الآخر من الطريق.

سيارة غاليمار قبل مشوارها الأَخير

رأَوه ولم يعرفوه

تُكمل السردَ سيمونا بانڤييه، أَمينة سر بلدية ڤيلْبْلُوڤان، مستعيدةً لجريدة “الفيغارو” سنة 1997 ذكرياتها عن ذاك النهار الحزين: “كنتُ يومها أَستعدُّ لمغادرة البلدية إِلى منزلي للاحتفال مع أُسرتي بذكرى ميلادي الثالثة والثلاثين. الساعة 2:00 رن الهاتف في مكتبي: حادث رهيب في البلدة. هرعتُ. كان الناس مذهولين حول بقايا سيارة. عدتُ إِلى مكتبي. اتصلتُ برئيس البلدية. أَمرَ بتهيئة القاعة الكبرى لاستقبال الجثمان ملفوفًا بشرشف أَبيض. أَجبْتُ عشرات صحافيين هاتفوا مستفسرين، مصدومين بـ”وفاة كاتب فرنسي كبير”، فيما الكانوا متجمهرين حول السيارة عرفوا عن رجل مات اسمه أَلبِر كامو، لم يسمعوا باسمه ولا يعرفون مَن يكون. الساعة 5:00 كتبتُ وثيقة الوفاة لأَن الرجل مات في نطاق البلدية. كانت تلك أَولَ وفاة في البلدة سنة 1960. في اليوم التالي نُقِل الجثمان إِلى لورماران لدفنه. بعد أَشهُر أَطلقت البلدية اسم أَلبر كامو على ساحة البلدة، وأَقامت في وسْطها نصبًا تذكاريًّا من الحفر النافر”.

ولم تقصِّر لورماران عن التكريم: أَطلقَت اسمه على الشارع حيث بيتُه الذي على بابه وقفَت سوزان (توفيت سنة 2005) تودِّع الكاتب وتنتظره يعودُ السبتَ التالي. لكنه لم يعُد. كانت في انتظاره لحظةٌ سيزيفيةٌ فاجعة، قصفَتْه ولم تتركْ منه سوى حقيبةٍ ممرغةٍ بين وُحُول ذاك النهار الماطر، فيها 144 صفحة من مخطوطته الأَخيرة (صدرت كتابًا غير مكتمِل سنة 1994)، وفيها قصاصةُ جريدة من زاوية الأَبراج “تتنبَّأُ” بأَنَّ 1960 “هي سنَة حظِّك”، وفيها بطاقةُ القطار إِلى پاريس.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يَصدُر هذا النص في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى