الحياةُ بعدَ الإنهيار الإجتماعي والاقتصادي للبنان ليست كما قبله

أصبح الوضع الإقتصادي والإجتماعي في لبنان مأسوياً جداً وبشكلٍ متزايد لا يُمكن عَكسَه. تراجعت العملة الوطنية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، وفقدت ما يقرب من 90٪ من قيمتها. وماذا يفعل أهل الحكم: لا شيء! إنهم يتصارعون على السلطة وعلى الثلث المُعطّل.

مصرف لبنان: في قلب الأزمة المالية

بقلم كريستوف أبي ناصيف*

بسبب سوء النيّة وعدم الكفاءة، يواصل صنّاعُ القرارِ اللبنانيون إنتهاكَ المبادئ الأساسية للاقتصاد الكلّي في تعاملهم مع الانهيار المالي في لبنان. إن خيارات السياسة المالية والنقدية الخاطئة – أو الأسوأ من ذلك، غير الموجودة – تُضخّم يوماً بعد يوم التداعيات الاجتماعية والاقتصادية المُدَمِّرة التي ستواجهها البلاد لسنوات، إن لم يكن لعقودٍ مقبلة.

عندما أصدرت الحكومة مسودّة برنامج الإصلاح في نيسان (إبريل) الفائت بعد التخلّف عن سداد ديون لبنان السيادية، تصوّرت تخفيضاً مُنَظَّماً وتدريجياً لقيمة الليرة اللبنانية المُرتَبِطة بشكلٍ مُصطَنع. وساهم ربط العملة في استنزاف احتياطات البنك المركزي من العملات الأجنبية –واتّضَحَ بعد ذلك، من مُدَّخرات المُودعين المُقَوَّمة بالدولار– لسنوات. كانت خطة الحكومة في ذلك الوقت تهدف إلى تعديل سعر الصرف ثم خفض قيمته بسلاسة من 1,507 ليرات لبنانية الآن إلى 4,300 ليرة لبنانية لكل دولار أميركي في العام 2024. كما اقترحت مساراً للمضي قُدُماً لإعادة هيكلة كل من الدين العام والنظام المالي، وتنفيذ تعزيز الإيرادات، وإجراء إصلاحات هيكلية لخفض الإنفاق، وتوزيع عشرات المليارات من الدولارات على شكل خسائر نظامية.

لكن لم يحدث شيءٌ بعد ذلك. لقد أدّت الضغوط البرلمانية والمصرفية إلى إفشال أية محاولات جادة لحلّ الأزمة بشكل بنّاء. منذ التخلّف عن السداد، إستمرت عملية صنع سياسة النعامة — أي ممارسة غرز رأس المرء في الرمال والأمل في زوال الخطر– في إعاقة التقدّم. اليوم، يدفع المواطنون والمقيمون على السواء، بغض النظر عن الدين أو الطائفة أو الانتماء السياسي، ثمناً باهظاً لهذا التقاعس الإجرامي.

لا شيء سوى الألم

أصبح الوضع في لبنان مأسوياً وبشكلٍ مُتزايدٍ لا يُمكن عَكسه. تراجعت الليرة اللبنانية إلى أدنى مستوياتها على الإطلاق، وفقدت ما يقرب من 90٪ من قيمتها. في الواقع، يتجاوز المعدل الحالي بالفعل هدف 2024 الذي حدّدته الحكومة قبل أقل من عام بأكثر من ثلاثة أضعاف. مدفوعاً بطباعة النقود بشكلٍ كبير، والتلاعب السياسي، والذعر في السوق، والإفتقار إلى الوصول إلى العملات الأجنبية، يبدو السقوط الحر لليرة اللبنانية بلا نهاية تلوح في الأفق. رداً على ذلك، حاولت الحكومة بشكل هزلي كبح انهيار العملة الوطنية من خلال زيادة حملتها على محلات الصرافة.

تضاعف المعروض النقدي، الذي يتكوّن من العملة المُتداوَلة والودائع تحت الطلب المُقوَّمة بالليرة اللبنانية، أكثر من أربعة أضعاف منذ بدء الأزمة في صيف العام 2019. وفي محاولةٍ لتسييل وتأمين العجز، قام مصرف لبنان المركزي، بإغراق السوق بالسيولة، مما جعل العملة عديمة القيمة بشكل متزايد. لقد أدّت الضغوط التضخّمية الناتجة عن ذلك إلى مضاعفة أسعار المواد الغذائية بمقدار خمسة أضعاف. على طول الطريق، وجد المودعون أنفسهم مُحاصَرين بالنسبة إلى حسابات التوفير الخاصة بهم. مع وجود معدلات موازية متعددة والتباين بين السعر الثابت الذي يفرضه البنك المركزي وسعر السوق الفعلي، إضطر المودعون إلى مواجهة تخفيضاتٍ في كل مرة يسحبون الأموال من البنوك.

على الأرض، تندلع المعارك في محلات السوبر ماركت ومحطات الوقود على الإمدادات الأساسية النادرة. بسبب عدم القدرة على مواكبة الإرتفاع الهائل في تكاليف الواردات وتسعير المنتجات والخدمات بدقّة، تُغلِقُ الشركات المحلية أبوابها. ويلوح انقطاع التيار الكهربائي في جميع أنحاء البلاد في ضوء عجز الدولة عن تأمين الأموال اللازمة لاستيراد الوقود والطاقة للشبكات الكهربائية. في غضون ذلك، يجد أكثر من نصف السكان أنفسهم الآن تحت خط الفقر مع ارتفاع معدلات البطالة وتآكل الأجور.

أخيراً، وربما الأهم من أي شيء ذكرناه أعلاه، أن رأس المال البشري في لبنان -شبابه وأطباؤه وممرّضوه ومهندسوه وقضاته- يفرّون من البلاد ويتآكلون بشكل لم يسبق له مثيل. عندما تمر العاصفة في النهاية، سيكون تجمّع المواهب وأصحاب العلم والإختصاص المُنهَك والمدَمَّر الأكثر تكلفة وتآكلاً والأكثر ضرراً نتيجة انفجار النموذج اللبناني.

فقط إفعل ذلك

فيما تغرق السفينة ويصبح طريق التعافي أطول وأكثر إيلاماً، تحتاج أي حكومة لبنانية ذات مصداقية محلياً وعالمياً إلى إجراء سلسلة من إصلاحات عاجلة طال انتظارها على الفور وبشكلٍ حاسم. هويةُ وطبيعةُ مثل هذه الحكومة تتطلّب حديثاً مُنفصلاً. كما هو الحال، فإن أحد العناصر المُثبط للعزيمة والأكثر إحباطاً في الانهيار المالي هو أنه بعد مرور أكثر من عام على ذلك، فإن الإصلاحات المطلوبة معروفة وليست لغزاً بأي حال من الأحوال. إن المسار المعياري أمامنا واضحٌ في الواقع لمحاولةٍ أخيرة لإنقاذ بقايا الاقتصاد والمجتمع في لبنان.

في قلب الإنهيار يكمن مصرف لبنان المركزي كمُذنب ومُسهّل وومُيَسِّر. لذلك يظل فهم حسابات البنك وأنشطته أولوية. طوال الأزمة، كان افتقاره إلى الشفافية غير مهني في أحسن الأحوال وجنائياً في أسوأ الأحوال. وحده التدقيق الشرعي الحقيقي لمصرف لبنان –وهي ضرورة ابتعدت عنها المؤسسة السياسية اللبنانية بنشاط حتى الآن– يُمكن أن يلقي الضوء على ما هو حقاً وراء الأبواب المُغلقة والدفاتر الخاصة بالمصرف المركزي. إن عدم الرغبة في إجراء مثل هذه المراجعة يستمر منعاً لتوريط الطبقة الحاكمة بشكل كلي. لذلك يجب على المراقبين الدوليين أن يتّخذوا تدقيقاً جدياً وقاطعاً وقابلاً للتنفيذ كإشارة على أن الأمور بدأت بالفعل في التغيّر في السياسة اللبنانية.

تتمثّل الأولوية الفورية الثانية في إصلاح نظام الدعم في الدولة لحماية احتياطات البنك المركزي من العملات الأجنبية سريعة النضوب (وهي مدّخرات المودعين أصلاً) قدر الإمكان. لقد كلّف الدعم، الذي اشتهر بطبيعته التراجعية، لبنان أكثر من 10٪ من ناتجه المحلي الإجمالي. وفقاً لدراسة “لايف” (LIFE) الأخيرة، فإنه ساعد أيضاً على تفكيك القطاعات اللازمة للتحوّل الاقتصادي في البلاد. وهناك الكثير من عدم اليقين يُحيط بمستويات الاحتياطي الحالية لمصرف لبنان، ولكن يبدو أنه لم يبقَ سوى 16 مليار دولار من العملات الأجنبية. نظراً إلى نسب الاحتياطي المطلوبة (التي يمكن تغييرها افتراضياً بين عشية وضحاها)، يمكن استخدام 1- 1.5 مليار دولار فقط حالياً لمواصلة دعم الوقود والأدوية والإمدادات الغذائية الأساسية. بالمعدل الحالي، سيستمر الدعم فقط حتى أيار (مايو) أو حزيران (يونيو)، وبالتالي يجب تقليصه بعناية. بالتوازي مع ذلك، فإن ضمان وجود شبكات أمان اجتماعي قوية مثل التحويلات النقدية الهادفة والشفافة يُعَدُّ أمراً بالغ الأهمية لحماية الفئات الأكثر ضعفاً في البلاد. ويُعتبَر القرار الأخير للشركاء الدوليين بتقديم المساعدة بالدولار الأميركي بدلاً من صرفها بالليرة اللبنانية بسعر أقل من سعر السوق الذي يحدّده البنك المركزي إشارة جيدة إلى أنه يمكن التمسّك بهذه الآليات.

علاوة على ذلك، يجب أن تبدأ على الفور عملية إعادة هيكلةٍ جادة وشاملة للقطاع المصرفي بقيادة حكومة مستقلة وقادرة مع وكالة حقيقية. عندها فقط يمكن توزيع الخسائر النظامية بشكل عادل وهادف، وإزالة الأعشاب الضارة من النظام، واستعادة الثقة تدريجاً. لقد تمّ تضخيم الأزمة حتى الآن على حساب المواطنين العاديين. على مدار العام الفائت، كانت التعاميم المصرفية المركزية –التعميم رقم 154 بشأن السيولة وتحسينات رأس المال أشهرها– يُعادل وضع “ماكياج” على جثّة. لذلك، يظل إصلاح النظام المالي اللبناني وتطهيره ضروريَين لأخذ أي محاولة إصلاح على محمل الجد.

حتى ذلك الحين، سيُثبت الانهيار المالي اللبناني أنه أحد أكبر حلقات السرقة وتحويل الثروة المُنظّمة والأكثر تدميراً في التاريخ. إن النسيج الاجتماعي في لبنان يتمزّق، وتُدرك مجتمعاتٌ بأكملها بسرعة أن الحياة بعد الانهيار لن تكون كما كانت قبله. ولكن ربما تكون النقطة الأكثر إثارة للقلق والأكثر إثارة للغضب هي أن الانهيار الاجتماعي والاقتصادي للبلاد هو أمرٌ من تصميمٍ ذاتي، ومن إنتاجٍ ذاتي، ومن صنعٍ ذاتي. يزداد وعي الشعب اللبناني بهذه الحقيقة وهو غاضبٌ ومًشمئزٌ منها. لا يزال يتعيّن علينا الإنتظار لرؤية ما إذا كان هذا الوعي والغضب سيتجسّدان وكيف.

  • كريستوف أبي ناصيف هو مدير برنامج لبنان في معهد الشرق الأوسط. الآراء الواردة في هذه المقالة هي آراؤه الخاصة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى