الهادئ زُوسِر: أَقدَم هَرَم في التاريخ

الطبقات الست رائدة البناء العمودي

 

بقلم هنري زغيب*

في البحث عن كنوز التراث متعة علْمية وذهنية، تستمد من مخزون الماضي عافيةً للتأَمُّل في الأَيدي التي بَنَتْ وتَرَكَت، كيما تتناوله الأَيدي التي تلقَّفَتْ فتحفظه وتحافظ عليه ذخرًا لحاضرها جسرًا حضاريًّا بين ماضيها الغنيّ وغدِها الفتيّ.

منذ زاولْتُ هذه “المتعة الحضارية” عند تأْسيس “مركز التراث اللبناني” في الجامعة اللبنانية الأَميركية LAU، رحتُ أَبحث في المراجع العلمية والتاريخية والأَثرية عن التراث الإِنساني عمومًا، تنعكس منه أَو فيه ملامح من تراث لبنان ويغتني بتراث العالم.

إِبّان أَبحاثي عن الذاكرة التاريخية والأَثرية حول لبنان، عثرتُ على أَبحاث ممتعة عن هرمٍ في مصر باقٍ في الظل بعيدًا أَمام هيبة أَهرام الجيزة التي تخطف الوهج سياحيًّا وثقافيًّا بما فيها من جمالٍ وأَسرار. لكن الهرم الهادئ المنزوي في مدينة سقارة (نحو 16 كلم جنوبيّ الجيزة) لا يقلّ عن أَهرام الجيزة أَهميةً في تاريخ مصر العريق.

ترميم الجزء المتهدم بزلزال 1992

سبق هَرَم الجيزة

سقارة بلدة هادئة في منطقة البدرشين (محافظة الجيزة)، في أَرضها مدافن قديمة لأُسَر فرعونية كانت تحكم مصر القديمة من عاصمتها مَنَف (ممفيس).

الأَثر الهادئ فيها: هرم زُوسِر (أَو الهرَم الـمُدَرَّج). وزُوسِر هو الفرعون الثاني من سلالة الأُسرة الفرعونية الثالثة (حكَمَت في القرن السابع والعشرين ق.م.). دام حُكم زوسِر نحو 29 سنة (2640-2611 ق.م.)، وخلالها أَمر مهندسه إِمْحُوتِب ببناء هرَم له كان أَول صرحٍ حجري في التاريخ، غلافه من الحجر الجيري الجميل الصقيل، ومن ست طبقات كانت عصرئذٍ شكلًا جديدًا من القبور بعد سائر الأَبنية من طبقة واحدة.

حافظ هذا الصرح على تماسك بنيانه حتى سقطت أَجزاء من مجموعته الجنائزية في زلزال ضرب مصر سنة 1992، وكانت منظمة الأُونسكو أَدرجتْهُ سنة 1979 ضمن لائحة التراث العالمي، على أَنه “أَقدم هَرَم في التاريخ” (نحو 2630 ق.م.)  قبل هَرَم الجيزة الكبير (2560 ق.م.) بنحو 70 سنة.

ويذهب الخبراء إِلى أَنْ لولا هرَم سقارة ذو المصاطب العمودية الست فوق بعضها بعضًا، لما كان سيُبنى هَرَم الجيزة إِذ ما كان مهندسوه سيتمثَّلون بهرَم سقارة كي يرقَوا بالهرم الكبير إِلى مصاطب عليا فيبلغوا قمته المروَّسة ليصبح إِحدى عجائب الدنيا السبع.

النزول إِلى المعبد الجنائزي

إِمحوتِب عبقري عصره

كان إِمْحوتِب رئيس وزراء الفرعون زوسر (ويُكْتَب جوسِر أَيضًا، ومعناه “المقدس”) والمهندس الأَشهر في عصره. كما كان كاهنًا وشاعرًا وعالِم رياضيات وفلَك وفيزياء. اشتهر بمداوَيَاته العلاجاته الطبية وكان يعتبر أَن المرض لا يأْتي من الآلهة ولا من الشياطين (كما كان سائدًا عصرئذٍ) بل هو من عوامل الطبيعة. ومن هنا نُسِبَت إِليه أُلوهةُ الحكمة والطب والشفاء.

فرادةُ إِمْحوتِب أَنه هندس هرَم جوسر مُدرَّجًا، وبناه بالصخر الجيري عموديًّا ذا منصات من الخارج، وترك قمته مسطحةً عكس بناء هرَم الجيزة بعده بالقمة المروَّسة.

عودة السيَّاح إليه

تَطوُّرُ البناء الهرمي بالصخور الكثيفة لم يقتصر على ما نشاهده في مصر أَو في أَماكن أُخرى من العالم،  فتلك الهندسة عُرفَت قبلًا مع الزقُّورات في العراق وإيران. وفي مصر جرَت محاولات سابقة قبل أَن يتمكن المهندسون من النجاح في بناء الهرَم عموديًّا. فقبْل السلالة الأُولى من الفراعنة، كان الناس يدفنون موتاهم تحت أَكوام من التراب، لإِيمانهم بأَن الإِنسان مجبول من تراب وإِلى التراب يعود.   وتطوَّرت تلك الممارسات منذ أَخذ الحكام يعتلون العروش، فأَخذ المصريون يدفون ملوكهم الفراعنة في مصاطب بدأُوا أَوَّلًا يبنونها من الآجُرّ ثم طوَّروها إِلى مصاطب من الصخور التي بُنيَت لاحقًا بها الأَهرامات.

وإِذ كانت وحدة المصطبة هي الأَساس في إعلاء مدرَّجات الأَهرام، استعمل إِمْحوتب الصخور المكعَّبة كالصناديق، وشَقَعها فوق بعضها البعض في رؤْية عمودية للبناء، فأَعلى هرَم زوسِر في سقارة حتى نحو 73 مترًا على مساحة واسعة بطول 109 أَمتار وعرض 125 مترًا. لكن هرَم الجيزة الكبير (المحتضن الفرعون خوفو) تخطاه علُوًّا فبلغ نحو 146 مترًا.

وبعد عمليات ترميم امتدت 14 سنة، انفتح قبل أَشهر قليلة للسيَّاح والزوّار يكتشفون فيه معْلَمًا سياحيًّا أَثريًّا سبق أَهرامات الجيزة التي تأَثر لاحقًا بناؤُها الهندسيّ ببناء هذا الهادئ النائي.

هرم زُوسِر أَقدم من هرم خوفو

متعة الاكتشاف

بلى: في البحث عن كنوز التراث متعة علْمية وذهنية. وبين أَكثر الأَوقات متعةً: سفرٌ إِلى معالِـم التراث والتاريخ والآثار في البرامج العلْمية التلـڤـزيونية والمواقع الإِلكترونية وفي المجلات والمراجع المختصة. وكي نطَّلع على أَهمية التراث لدينا، لا بُدَّ من أَن نطَّلع على ما في العالَم من معالِم هي التي، جيلًا بعد جيل، تُسطِّر تراث الإِنسانية الخالد.

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يصدر هذا المقال في “أَسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره في “النهار العربي” – بيروت

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى