لبنان: أزمةُ العَيشِ المُشتَرَك تُؤسِّسُ لعقدٍ اجتماعيٍّ جَديد

يُجمع المراقبون على أن لبنان يُواجه أزمةً شاملة مُعقّدة ومُتشعّبة تطال وجوده كجغرافية طبيعية وبشرية وسياسية، وهو يتّجه، برأي البعض، نحو انحلال عمودي يطال وحدة الدولة والمجتمع، وانحلالٍ أفقي يتجسّد في مظاهر الفساد والإنحطاط الخُلقي والسياسي. ورُغم المحاولات التي شهدها لبنان منذ نهاية الحرب الأهلية، من أجل إعادة الوحدة الى الدولة والمجتمع، فان الأسئلة التي لا تزال مطروحة هي: هل لا تزال الجماعات اللبنانية راغبة في العيش مع بعضها؟ وهل سيقدر اللبنانيون على صيانة وحماية بلدهم من العواصف التي تهب على المنطقة؟ وهل من مجال للانقاذ أم أن الهاوية تنتظر الجميع ؟

إتفاق الطائف: لم يساعد على بناء الدولة المدنية ولا على بناء مُواطنٍ وهويّة.

 

بقلم الدكتور هيكل الراعي*

منذ إنشائه في العام 1920، شهد لبنان طوال القرن الماضي صراعاً حاداً على الأرض وعلى الإنتماء إلى هذه الأرض. هذا الصراع كان يتصاعد ثم يتراجع تبعاً لموازين القوى بين مُكوّنات المُجتمع اللبناني، والتي كانت تعكس بدورها الصراعات بين القوى والمحاور الإقليمية. ولم يتوافق اللبنانيون على “نهائية الكيان اللبناني” إلّا بعد توقيع اتفاق الطائف في العام 1989. ففي مواجهة الذين تحدّثوا عن “أمّة لبنانية” و “قومية لبنانية” عمرها آلاف السنين، برزت تيّاراتٌ وأحزابٌ فاعلة اعتبرت، ولا تزال، لبنان جزءاً من “الوطن العربي” أو من “الهلال الخصيب”. وفي السنوات الماضية، التي شهدت صعود التيارات الإسلامية، إعتُبِرَ لبنان جزءاً من دولة اسلامية تبسط سلطتها على كل “سوريا الطبيعية” (لبنان، سوريا، الاردن، العراق، الكويت، فلسطين). وقد جسّدت “الدولة الإسلامية في العراق والشام” (داعش)،هذه النظرة الى الكيانات التي افرزتها اتفاقية سايكس-بيكو في نهاية الحرب العالمية الاولى، من خلال إقامة “دولتها” على مناطق شاسعة من العراق وسوريا.

الطوائف في خدمة الخارج

أما بالنسبة الى العنصر الثاني المُكوِّن للدولة وهو الشعب، فإن العشائر والعائلات والطوائف اللبنانية الموجودة على هذه الأرض منذ مئات السنين، سعت الى العيش معاً مُستَنبِطَةً أشكالاً من التفاهم، كانت تقوى كلما ضعف تأثير القوى الخارجية وتنهار مع ازدياد صراع هذه القوى. والتاريخ حافلٌ بالشواهد على ذلك. فالصراعات الدموية التي شهدها جبل لبنان بين الموارنة والدروز في ظل انهيار الامبراطورية العثمانية وصعود القوى الاوروبية الباحثة عن مراكز نفوذ في هذا الشرق، أدّت الى نظام القائمقاميتين وما رافقه من حماية خارجية للطوائف حيث تبنّت كل دولة طائفة. وكان نفوذ الطائفة وحصّتها في السلطة يكبر كلما كبر نفوذ الدولة الحامية.

والطوائف ليست ظاهرة ظرفية أو عرضية في تاريخ لبنان. فهو كان منذ القدم، وفي مختلف مراحل تاريخه مقرّاً لجماعات دينية. هذه الجماعات نشأت وتطوّرت بصورة مُستقلّة عن بعضها بحيث أصبحت كيانات اجتماعية. وقد تعزّزت هذه الكيانات بفعل ترك الدولة العثمانية شؤون الأحوال الشخصية لغير المسلمين، بأيدي الرؤساء الروحيين. وهذا ما عُرِفَ تاريخياً بنظام الملّة العثماني.

والدستور اللبناني الذي صدر في العام 1926 كرّس في نصوصه الإعتراف بالطوائف وبحقوقها المُختلفة، الدينية والتربوية والشخصية، بحيث جاءت نظرة المُشترع الى المجتمع السياسي اللبناني نظرةً مُزدوجة، فهو يتكوّن من مواطنين ومن طوائف. هذا في القانون. أما في الواقع، فقد شهدت العلاقات بين الطوائف التي تؤلف نسيج المجتمع اللبناني، خلال القرن الماضي، فترات تفاهم وتناغم وتعارض ونزاع يمكن تقسيمها إلى ست مراحل:

المرحلة الاولى: تمتدّ من تاريخ إنشاء لبنان الكبير في العام 1920 الى الاستقلال في العام 1943. ففي مقابل تحقيق المسيحيين “انتصاراً” من خلال إلحاق الأقضية الاربعة بجبل لبنان، وقف المسلمون موقف الرافض للكيان الجديد مُطالبين بالإنضمام الى سوريا. وقد تكرّس موقف المسلمين هذا في ردود النخب الإسلامية على الأسئلة التي وُجِّهَت اليها أثناء وضع أول دستور للبنان في العام 1926، وكذلك في مؤتمرَي الساحل اللذين عُقدا في العامين 1933 و1936 برئاسة سليم سلام. وامام هذا “الخطر”، بادرت البورجوازية التجارية المسيحية إلى دعم تأسيس حزب “الكتائب اللبنانية” في العام 1936 الذي رفع شعار “الله- الوطن- العائلة”، كما طالبت “الكتلة الوطنية” في ما بعد بالحفاظ على صلات سياسية مع فرنسا كضمانٍ ضد الذوبان في دولة عربية كبرى. وردّت البورجوازية التجارية الإسلامية بدعم تأسيس منظمة “النجّادة” في العام 1937. لكن هذا الصراع لم يلبث ان هدأ عشية الاستقلال، بعد ان تمّ التفاهم بين جناحَي البورجوازية التجارية اللبنانية على إقامة توازنٍ مع غلبة مسيحية مدعومة من سلطات الانتداب. وكان سبق تأسيس هذين الحزبين الطائفيين بروز تيارٍ سياسي علماني وازن وفاعل تمثّل في الحزب الشيوعي اللبناني (1924) والحزب السوري القومي الاجتماعي (1932) اللذين استقطبا نخباً مسيحية واسلامية تجاوزت انتماءاتها الدينية، مما زرع الخوف في صفوف الدوائر الطائفية وعند سلطات الانتداب الفرنسي.

لبنان ذو وجه عربي

المرحلة الثانية: تمتدّ من العام 1944 الى العام 1958. هذه المرحلة تميّزت بوضع الميثاق الوطني الذي وُصِفَ بأنه مُجرّد اتفاق يضمن مصالح البورجوازية المسيحية والإسلامية. وهو قام على مبادىء أربعة (وردت في البيان الوزاري لحكومة الاستقلال الأولى):
المبدأ الأول: لبنان دولة ديموقراطية حرة مستقلة.
المبدأ الثاني: لبنان لجميع بنيه على اختلاف ميولهم ومعتقداتهم.
المبدأ الثالث: لبنان ذو وجه عربي وعضو في الأسرة العربية (أصبح لبنان عربياً بعد اتفاق الطائف).
المبدأ الرابع: لبنان مُتساوٍ في السيادة مع الدول الأخرى وغير منحاز الى أيٍّ منها.
وقد اعتبر الرئيس بشارة الخوري ورئيس وزرائه رياض الصلح الميثاق حقيقةً واحدة ذات وجهين. وهي تتلخّص بمبدأين: الأول، لا للحماية الأجنبية (من قبل المسيحيين)، ولا للوحدة العربية (من قبل المسلمين). الثاني، تكريس طائفية الرئاسات الثلاث.

وإذا كان “نفيان لا يصنعان أمة” على حد قول الصحافي جورج نقاش، فإن بشاره الخوري يعترف في مذكراته بإن الميثاق أصبح أسطورةُ يتلهّى بها مُحترفو السياسة في “دولة الطوائف المستقلة والمُتعايشة على أرض واحدة”.

هذا التعايش السلبي بين المسيحيين والمسلمين لم يلبث أن اهتز بعد قيام الثورة المصرية في العام 1952 بزعامة الرئيس جمال عبد الناصر، وتحقيق الوحدة مع سوريا في 22 شباط (فبراير) 1958، مما أيقظ حماسة دعاة الوحدة العربية بين المسلمين. وقد أدّى انحياز الرئيس كميل شمعون الى حلف بغداد (المدعوم من الولايات المتحدة الأميركية والمناهض للسياسة الناصرية)، الى انفجار الوضع في لبنان صدامات دموية عنيفة، انتهت بشعار سلبي ايضاً: “لا غالب ولا مغلوب،، وبتولّي قائد الجيش يومها اللواء فؤاد شهاب رئاسة الجمهورية.

لقد سعت الطوائف اللبنانية، وبهدف تعزيز مواقعها في السلطة، إلى الاستقواء بالخارج. ولم تكن أحداث العام 1958 حالة شاذة، بل جاءت في سياق تطور العلاقة التاريخية بين هذه الطوائف والقوى الخارجية. لقد كانت الحماية الأجنبية، ولم تزل، الشغل الشاغل للطوائف اللبنانية التي تسود علاقاتها المتبادلة الريبة والحذر، بدل التطلع الى حماية سلطة شرعية وطنية واحدة تُوليها ثقتها وإخلاصها.

السلاح الفلسطيني يُفجّر لبنان

المرحلة الثالثة: تمتدّ من العام 1959 الى العام 1974. هذه المرحلة تميّزت في بدايتها بسعي الحكم الشهابي الى بناء دولة عصرية. لكن هذا السعي اصطدم بمعوّقات الواقع وسلبياته من جهة، وباستغلال فاضح للسلطة من قبل الجهاز العسكري (المكتب الثاني) من جهة أخرى، مما أفشل التجربة. وعلى أثر هزيمة الدول العربية أمام إسرائيل في العام 1967 برز العنصر الفلسطيني المُسلّح على الساحة اللبنانية، مما أحدث زلزالاً عنيفاً في بنية السلطة وفي العلاقات بين الطوائف. وسعى المتضرّرون من هذه الظاهرة الى لجمها، تارةً بالاتفاقات (اتفاق القاهرة عام 1969) وما رافقها من تنازلات، وطوراً بصدامات تركت جراحاً عميقة. وأمام الفشل، بدأ المسيحيون يُفتّشون عن البدائل، خوفاً على المصير، فكانت الآلة العسكرية الميليشيوية أسوأ الخيارات لأنها حملت الخراب للوطن والإنتحار للطائفة. لقد أنعش السلاح الفلسطيني الطائفة السنّية وقهر الشيعة وزرع الخوف عند المسيحيين.

المرحلة الرابعة: تمتد من العام 1975 الى العام 1990. ففي 13 نيسان (إبريل) 1975 اندلعت الحرب الاهلية بعد أحداث دموية شهدتها بيروت بين ميليشيات حزب الكتائب من جهة والمسلحين الفلسطنيين من جهة أخرى. وانخرطت في المواجهات التي امتدت لسنواتٍ كل الأحزاب والقوى السياسية والطوائف اللبنانية، فلم تنجُ منطقة من المعارك المُتنقّلة التي زرعت الخراب والدمار في كل انحاء البلاد. وفي حزيران (يونيو) 1976 دخلت القوات العربية السورية الى لبنان لفك الحصار الفلسطيني عن قرى وبلدات مسيحية وذلك بناء على طلب القيادات المسيحية وبموافقة ضمنية من الولايات المتحدة الاميركية. ولم تلبث المواجهات ان انفجرت بين الميليشيات المسيحية من جهة والقوات السورية من جهة أخرى.

واستغلّت إسرائيل الوجود الفلسطيني المُسلّح على الأراضي اللبنانية وقابلية الطوائف المُتعايشة للنزاع الداخلي، لتظهر أن لبنان المُتعدّد الأديان والإنتماءات هو خطأ تاريخي ودولة مصطنعة، فأرسلت عملاءها والأسلحة لتأجيج النزاعات الطائفية. وسخّرت الصهيونية العالمية كل الوسائل لدحض مَقولة تعايش الطوائف في وطنٍ واحد وفي اطار ديموقراطي علماني. وهذا ما تجلّى في أكثر من حربٍ خاضتها إسرائيل في لبنان حيناً بوسائلها المباشرة (اجتياح العام 1982 واحتلال بيروت) وأحياناً غير مباشرة من طريق تقوية فئة او طائفة على أخرى، او تقوية الطائفتين معاً بعضهما ضد الآخر. ولنا من حرب الجبل الممتدة من خريف 1982 الى خريف 1983 خير شاهد على دور إسرائيل الأساسي الذي دقّ إسفيناً في وحدة لبنان التاريخية، علماً ان حرب الجبل لم تكن هي الوحيدة التي تدخلت فيها إسرائيل وأثبتت فيها مصالحها الهادفة لا الى إنقاذ المسيحيين، كما كان يتوهّم البعض، بل الى تنفيذ خططها في الشرق الاوسط ( للمزيد من الضروري قراءة كتاب “آلان مينارغ” بعنوان: “اسرار حرب لبنان”). وقد نجحت إسرائيل في إحداثِ شرخٍ عميق بين المسيحيين والدروز في الجبل من خلال المجازر التي ارتُكِبت وعمليات التدمير والتهجير التي حدثت.

المرحلة الخامسة: 1975-1990 شهدت هذه المرحلة ظاهرتين مُهمّتَين لا تزالان تؤثّران في حياتنا السياسية والأمنية والإقتصادية الى أيامنا، الاولى تمثّلت في المقاومة الإسلامية بقيادة “حزب الله” والثانية تجلّت في “التيار الوطني الحر” الذي أطلقه الجنرال ميشال عون. بالنسبة الى المقاومة الإسلامية فقد ساهمت عوامل ثلاثة في نموها وتطورها، أوّلها الإحتلال الإسرائيلي لجنوب لبنان والذي كان أرضاً مُستباحة من التنظيمات الفلسطينية المُسلّحة، والثاني الثورة الإسلامية في ايران بقيادة الإمام الخميني التي انتصرت في العام 1979 وأحدثت ارتدادات عند الشيعة في كل أرجاء العالم، والثالث عجز القوى الشرعية اللبنانية عن مواجهة الإعتداءات الإسرائيلية في ظل نظرية “قوة لبنان في ضعفه”.

أما بالنسبة الى الجنرال ميشال عون فقد شكّل استلامه رئاسة الوزارة بعد فراغ موقع رئاسة الجمهورية نهاية عهد الرئيس أمين الجميل، محطة مهمة في تطور الأزمة اللبنانية. فقد خاض الجنرال عون حربين الأولى في مواجهة الميليشيات المسيحية بهدف بسط سلطة الجيش اللبناني على ما كان يعرف بالمناطق الشرقية، والثانية ضد القوات السورية في ما أطلق عليه “حرب التحرير”. وقد انتهت المواجهات التي خاضها الجنرال عون، عندما أعطي الضوء الأخضر للطيران السوري كي يقصف قصر بعبدا مُمهّداً الطريق أمام القوات السورية لإجتياح المناطق التي كان يسيطر عليها الجيش اللبناني. وكانت نتيجة المعارك لجوء الجنرال عون الى السفارة الفرنسية ونفيه لاحقاً الى فرنسا حيث بقي 15 عاماً.

هزيمة المسيحيين

المرحلة السادسة : من العام 1990 الى اليوم. بعد العام 1990 دخل لبنان مرحلة جديدة في تاريخه. فتوقيع اتفاق الطائف الذي تُرجِمَ بالدستور اللبناني الجديد، أعاد توزيع السلطة على الطوائف اللبنانية من خلال تقليص صلاحيات رئيس الجمهورية لصالح مجلس الوزراء، وتركيب مجلس النواب والقوانين الانتخابية بشكل يعكس المعطيات الديموغرافية الجديدة، مع المحافظة على المُناصَفة الشكلية بين المسيحيين والمسلمين. لقد تَرجَمَ “اتفاق الطائف”، وما أعقبه من قوانين وتقاليد وأعراف جديدة هزيمة المسيحيين وخسارتهم للحرب التي خاضوها منذ العام 1975. وأثبتت التطورات المتلاحقة قُصرَ نظرٍ سياسي عند القسم الأكبر من القيادات المسيحية التي توالت على السلطة منذ ما قبل الاستقلال.
وفي مقابل تراجع نفوذ المسيحيين شهد لبنان تصاعداً في العمليات العسكرية التي كان يخوضها مقاتلو “حزب الله” في مواجهة الإحتلال الإسرائيلي. وهذا ما أجبر جيش العدو على الإنسحاب من جنوب لبنان، بعدما كان سحب قواته من بيروت نتيجة العمليات البطولية التي قام بها مقاتلو الحزب السوري القومي الإجتماعي والحزب الشيوعي اللبناني والأحزاب الوطنية. وقد عكست هزيمة إسرائيل وانسحابها من الجنوب، النفوذ المتصاعد للطائفة الشيعية التي أصبحت شريكاً وازناً في السلطة الى جانب الطائفة السنية والمسيحيين.

الطوائف في المحاور الاقليمية

وفي مواجهة التناغم السني الشيعي االمدعوم من المخابرات السورية العاملة في لبنان التي كانت لها اليد الطولى في تركيب المجالس النيابية والحكومات، جاءت عملية اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، بما يمثل لبنانياً وإقليمياً ودولياً، لتزرع الشقاق بين الطائفتين المُسلمَتَين ولتُعيد خلط الاوراق والتحالفات على الساحة اللبنانية. خرج الجيش العربي السوري من لبنان فوجدت إسرائيل الفرصة مُناسبة لتصفية حساباتها مع “حزب الله” وحلفائه، فكانت حرب 2006 حيث استطاع اللبنانيون بتماسكهم ووحدتهم منع العدو الإسرائيلي من تحقيق اهدافه.

ومع بداية ما سُمي خطأً ب”الربيع العربي”، إنفجرت الاوضاع في سوريا بدعمٍ إقليمي ودولي. فتدفّق المُقاتلون من كلّ انحاء العالم لدعم “الثورة السورية”، وخُصِّصَت مليارات الدولارات لإسقاط نظام الرئيس بشار الاسد. لكن النظام السوري لم يسقط بفعل تماسك الجيش السوري أوّلاً، ودعم “محور المقاومة”، (إيران و”حزب الله” والمنظمات المؤيدة لها في لبنان والعراق)، ثانياً، والموقف الروسي- الصيني الذي شكّل مظلّة دولية لحماية النظام ثالثاً.

وبعدما أسقط الإرهاب التكفيري ، مُمثَّلاً بتنظيمات أصولية تدّعي الإنتماء الى الإسلام، الحدودَ بين الدول التي نشأت إثر اتفاقية سايكس- بيكو، دخل لبنان بكل طوائفه في خضم الأزمة التي تضرب سوريا والعراق وغيرهما من الدول العربية. وانقسمت الطوائف اللبنانية بين المحاور الإقليمية المُتصارعة، فوقف السنّة الى جانب المحور الأميركي-الخليجي-التركي ووقف الشيعة الى جانب المحور الروسي-الإيراني-السوري بينما انقسم المسيحيون بين المحورَين.

خاتمة

لقد أخفق اللبنانيون في بناء الدولة القوية القادرة، العادلة، وفي بناء المواطن الذي يُدين بالولاء كاملاَ لوطنه. وإذا كانت لهذه الظاهرة أسبابها الداخلية ومنها السياسي والإقتصادي والإجتماعي، إضافةً الى الممارسات الطائفية والأنظمة البالية والإختلالات الإجتماعية، فإن الأسباب الخارجية لا يُمكن ان تغرب عن بالِ أيّ باحث. هذه الأسباب تتمثّل بالأطماع التوسّعية والمخططات العدوانية الاسرائيلية من جهة، وبالتناقضات السياسية والدينية العربية التي انعكست تمزّقاً في الجسم اللبناني، من دون أن ننسى تحوّل لبنان (بعد اكتشاف النفط والغاز فيه) الى ساحة تجاذب بين القوى الكبرى، وإلى ورقةٍ متداولة في اللعبة الدموية الدائرة على ساحات الشرق الاوسط.

في الواقع، من خلال قراءة سوسيولوجية، يظهر بوضوح أن اللبنانين اختلفوا في النظرة الى الإنسان والمجتمع والدولة والوطن، واختلفوا أيضاً حول شكل الإنتماء الى التاريخ وطبيعة العلاقات مع المحيط، وكان هذا الإختلاف مصدر صراع في الإجتماع السياسي. وقد فشلت كلّ المقاربات التغييرية لإيجاد صيغة سوسيولوجية لاجتماعية الطوائف، لا بل دفعت هذه المقاربات الى المزيد من التمسّك بالخصوصيات وتشريعها في صيغ قانونية وواقعية خصوصاً في مرحلة ما بعد الإستقلال.

لقد اختزن الواقع اللبناني والتركيبة اللبنانية على الدوام، وبصورة متواصلة، في ثناياهما الكثير من أسباب القلق والخوف والريبة والإلتباس في النظرة الى المستقبل، وتجسّد ذلك في التعارض الجوهري بين الرعاية الوحدوية للبنان الأرض والشعب والمؤسسات وبين التمسك بذاتية الطوائف في المجتمع وبكياناتها الواقعية وبحقوقها في الدولة.

وفي الذكرى المئوية الأولى على إنشائه، يعيش لبنان أزمةً مصيرية جدّية. فالمُكوّنات الطائفية والجماعات اللبنانية عجزت خلال القرن الماضي عن بناء دولةٍ ووطن. والأزمات والحروب التي عاشها اللبنانيون والتي انتهت باتفاقات، أبرزها اتفاق الطائف، لم تساعد على بناء الدولة المدنية ولا على بناء مُواطنٍ وهوية. وكل الجماعات بقيت أسيرة مُعتقداتها وخوفها على وجودها، ولم تخرج من شرانقها لتلتقي بالآخر وتبني معه دولة المواطنة. لذلك كلما هبّت العواصف الخارجية واشتدت الأزمات الداخلية تعود هذه الجماعات، التي فرزتها الحروب الأهلية في مناطق جغرافية، إلى التفكير مُجدَّداً في مدى ضرورة بقاء لبنان دولة مركزية مُوَحَّدة. وفي ظل المشاريع التقسيمية التي يجري الترويج لها في المنطقة، من سوريا والعراق إلى اليمن مروراً بليبيا وبعض دول الخليج، تبرز إمكانية جدية لإعادة النظر في الصيغة اللبنانية، التي تُعاني مجموعة من الأزمات المتشابكة، وذلك من خلال الدعوة إلى مؤتمر تأسيسي أو عقد اجتماعي جديد للإجابة عن سؤال جوهري وأساسي وهو: هل لا تزال الجماعات والطوائف اللبنانية راغبة ومصممة على العيش مع بعضها؟ وكيف؟ ووفق أي نظام؟ وذلك سعياً لتأمين الاستقرار والتنمية والسلم الأهلي الدائم.

  • الدكتور هيكل الراعي، باحث وأستاذ جامعي لبناني.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى