حين الريشةُ تتزلَّج على الجليد

مسابقة تزلُّج للسيدات (1809).

 

بقلم هنري زغيب*

منذ فجر القلم والريشة، يوحي لهما نُصوصًا ولوحاتٍ بياضُ الثلج الساكنُ السهولَ والوهاد، المعتمرُ قممَ التلال والجبال، المطربشُ قرميدَ البيوت ومداخنَها وقُبَبَ الكنائس والمآذن، حتى ليكاد يكون مؤُونة الحبر واللون في وَلْوَلات الشتاء.

وإِذا كاميرات اليوم تتنافس ناقلةً مناظرَ المتزلجين على الصفحات البيض وسْط بساتين الضوء المنعكس من صقيع الشمس إِلى دفْء الثلج، فريشات الرسامين قبل عصور، منذ راح يُلْهُمَها التزلجُ على الجليد، تخلِّدُ هذه الهواية العالمية، وتكتبُها أَسطرًا مائيةً أَو زيتيةً تتجاوز آنيَّة الموسم الشتائي لتبقى نابضة في جميع المواسم والفصول، مسجِّلةً لنا ذاكرةً بصريةً تُخبرنا عمَّا كان في تلك الحقبات من ملابس وعادات اجتماعية، فردية أَو جَماعية، لتلك الرياضة التي عُمرُها من عمر انهمال الثلج على عطش الأَرض.

لوحةٌ تسبِّب منْع التزلُّج

عن المؤَرخين أَن رياضة التزلُّج على الجليد ترقى إِلى نحو 5000 سنة، وفق أَقدم الزلَّاجات في السجلَّات العلْمية الأَثرية، كانت تتشكَّل من عظام حيواناتٍ تُربَط إِلى الحذاء بخيطان سميكة. وهي لم تكن هواية رياضية وحسْب، بل وسيلةَ تنقُّل تساعد في عبور الأَنهار والبحيرات المتجمدة شتاءً أَسهلَ مما في سائر فصول الصحو. وكانت تلك المتجمِّدات منتشرة في بلدان الصقيع والجليد كهولندا والصين وسكوتلندا.

وظهرت لوحات كثيرة ناقلةً تلك المشاهد، معظمها في هولندا، لمتزلجين يسافرون أَو يزاولون هوايتهم فُرادى أَو في مناسبات عامة.

ففي لوحة الهولندي آدم ڤـان برين (1585 – 1642) “التزلج على جليد نهر أَمستل” (1611) يبدو سكان المدينة جميعهم في ساحتها يتنزَّهون ويتحادثون على بساطٍ من جليد، كأَن الرسام شاء هذا المشهد من يوميات مدينة هولندية في القرن السابع عشر، بمختلف سكانها وأَعمارهم وطبقاتهم الاجتماعية.

 

كرنفال التزلُّج على حلبة ڤـيكتوريا (1870)

وفي لوحة نيكولاس بور الهولندي (1767 – 1820) “مسابقة تزلُّج للنساء” (1809) مشهد تجمُّع في مدينة لوڤـاردِن الهولندية. وتلك اللوحة أَحدثَت في وقتها ضجة لأَن النساء فيها فترتئذٍ (مطلع القرن التاسع عشر) خالعاتٌ رداءَهنَّ الخارجي الفضفاض متزلِّجاتٌ عاريات الزنود. وتسبَّبت تلك اللوحة بإِلغاء هذه الهواية في السنوات اللاحقة. لكنها بقيَت حيَّة في تلك اللوحة.

متزلِّجون على جليد المزرعة (1614)

لوحة كثيرة في واحدة

في القرن التاسع عشر ازدهرت تلك الرياضة الشتوية في كل أُوروپـا وأَميركا الشمالية، ومعها انتشرت اللوحات مظهرةً أَزياء تلك الحقبة نساء ورجالًا وأَولادًا، كما في تلك اللوحة الليتوغرافية بتوقيع الأَميركي تشارلز بارسُونْز (1821 – 1910) “بحيرة التزلج” (1862) في “سنترال پـارك” نيويورك الشهير.

ومع ازدهار تلك العادة التي درجَت شتاءً في أَميركا الشمالية تعدَّدت اللوحات حولها، بين أَبرزها لوحة الكَنَديّ وليم نوتمان (1826-1891) “كرنـڤـال التزلُّج على حلبة ڤـيكتوريا” (1870) وفيها المتزلِّجون والمتزلِّجات في أَفخم الثياب، احتفاءً بالأَمير آرثر أَصغر أَبناء الملكة ڤـيكتوريا وكان فترتئذٍ يعيش في مونتريال. فرادةُ هذه اللوحة التي تبدو زيتية أَنها فوتوغرافيَّة إِذ عمَد نوتمان إِلى جمْع نحو 150 صورة لأُولئك الأَشخاص، جاء بهم إِلى محترفه بلباس الكرنـڤـال، وصوَّرَهم فردًا فردًا، ثم جمَع الصور الفردية في عملية كولَّاج جماعيَّة، وأَدخَل عليها أَلوانًا وموادَّ كيماوية جعلتْها تبدو كأَنها لوحة زيتية.

وفي لوحة الهولندي هندريخ آڤـركامب (1585 – 1634) “ساحة المتزلِّجين في كامـپـن” (1608) مشهد مفصل لحلبة تزلُّج في تلك المدينة الهولندية. وكان الرسام أَصمَّ وأَبكم فكان ذلك حافزًا له للتركيز على دقة الملاحظة بما سجله في لوحاته التي باتت مراجع للباحثين. وهو اختص بالمشاهد الشتوية في مختلف فصولها وأَزيائها وأَشخاصها.

القس روبرت ووكر يتزلَّج (1795)

 

القسُّ يتزلَّج

واشتُهرت كذلك لوحة إِيستمان جونسون (1824 – 1906) “متزلِّجة تتدفَّأ” (1879). وهو أَحد مؤَسِّسي “متحف متروپـوليتان للفنون”، ولد في ماين وأَمضى حياته في بوسطن وأُوروپـا متمرنًا في أَلمانيا فكان بين أَوائل الأَميركيين في جيله تلقَّى تدريبًا خارج بلاده.

متزلِّجة تتدفَّأ (1879)

كما اشتُهرت لوحة الإِنكليزي هنري رابورن (1756 – 1823) “القس روبرت ووكر يتزلج” رسمها سنة 1795 للقس السكوتلندي (1755 – 1808) وهو من مؤسسي “جمعية المتزلجين في أَدنبرغ”، أَقدم نادٍ بريطاني أَعضاؤُه يزاولون هواية التزلُّج في مسابقات ومباريات.

ولأَن التزلُّج رياضة هولندية رائدة، ظهرَت رسوم قديمةٌ لها منذ “عصر الإِصلاح” كما أَثبَتَ المؤَرخ مارنيكس كولاس (مولود سنة 1960) الأُستاذ في جامعة أَمستردام بأَنّ أَقدم مسابقة تزلُّج عالمية جرت في أَمستردام سنة 1889، فكان طبيعيًّا أَن تروج تلك الرياضة في الرسوم، وأَبرزُها رسم إِيسياس ڤـان دو ڤـيلت (1587 – 1630) “متزلِّجون على جليد المزرعة” (1614).

ساحة المتزلِّجين في كامـپـن (1608)

الفن: التقاطُ الهنيهة

أَيضًا وأَيضًا: هو الفنُّ يلتقط هنيهات الزمن في لحظات سِراع، فيجمِّدها في ذاكرته، حتى إِذا غابت الهنيهات في الزمن العابر، تُشرق دائمةَ السُطوع في لوحة، في منحوتة، في معزوفة، في قصيدة، يَمضي بها الزمان مع الأَيام إِلى كل زمان.

 

  • هنري زغيب هو شاعر، أديب وكاتب صحافي لبناني. وهو مدير مركز التراث في الجامعة اللبنانية الأميركية. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: email@henrizoghaib.com أو متابعته على موقعه الإلكتروني: henrizoghaib.com أو عبر تويتر:  @HenriZoghaib
  • يصدر هذا المقال في “أسواق العرب” تَوَازيًا مع صُدُوره لدى موقع “النهار العربي” في جريدة “النهار” – بيروت

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى