هل هناك ما يُنقِذُ الإقتصاد “المفطور”؟
بقلم فيوليت غزال البلعة*
دَخَلَ لبنان دائرة الأخطار المفتوحة على الأزمات الصادمة والمُعقَّدة مع دخوله الدائرة الضيّقة لساحة المواجهة بين الولايات المتحدة وإيران. فهل يُكملُ مشواره نحو مصيرٍ يُدرِكُ تفاصيله المُستَنسَخة من نماذجِ عضوٍ في “دول الممانعة”، حيث تتدهور الإقتصادات وتُفلِسُ الدول وتَفقَر الشعوب وتتدفّق الويلات الإجتماعية؟ أم يتلقّف آخر الفرص الإنقاذية، ويعود أدراجه إلى طبيعته الإقتصادية وحاضنته الإقليمية، ويُلملم ما أصابه من انهياراتٍ، فَيُعَوِّض ما فاته من ثقةٍ باتت هي الحلقة المفقودة؟
مشهدُ الإنزلاق السريع نحو الإنفجار لم يَستوجب من السلطة السياسية وقف الإختلاف على أجناس الملائكة، حيث تتضارب وجهات النظر حول تداعيات الإفلاس وآليات العلاج، وتختلفُ آراءُ الخبراء في تفسير المُسبّبات وتحديد المسؤوليات، لتبقى الحكومة بعيدة من خريطة الطريق الأنسب لنهضةٍ جديدة بمعونة المجتمع الدولي وليس بمواجهته. وفيما تُتّهم واشنطن بأنها سببُ أزمة شحّ الدولارات لرغبتها في تضييق الخناق المالي على “حزب الله” كسباً لجولةٍ في حربها القائمة مع طهران، ثمة اتهامات تُوَجَّهُ في الموازاة الى الحزب كونه جرّ لبنان، وبرضى حلفائه، إلى ساحةِ مُواجَهة لا تُوّفر له توازن القوى المطلوب في معارك مُماثلة، أقله لضمان كسب جولاتٍ لا الحرب برمّتها.
في خضم الغبار الإقليمي، تبقى حكومة “المُستشارين” خارج المشهد، حيث تُحاول أن تُمرّر الوقت المُستقطع بإجراءات مُعاكسة لأي جهدٍ إنقاذي، فتتسبّب بمحصلات كارثية تُنذر بإعادة اللبنانيين إلى كابوس “أزمات الحرب” مع قفزات الدولار الأميركي في مجهول الليرة اللبنانية، وبدء ملامح الحصار الذاتي الذي يتمثّل يومياً بافتقادِ مواد الغذاء الأوّلي، والخبز والبنزين والكهرباء والمياه… ووظائف تُعاند رغم إقفال نحو 25% من مؤسسات القطاع التجاري وحده، والتطورات بإقفالات مُماثلة في مؤسسات القطاع التعليمي والإستشفائي التي تنهار كحبات الدومينو.
إستقال المدير العام لوزارة المالية، آلان بيفاني، إحتجاجاً على سياسة السلطة… قرارٌ واتهامات خطيرة تتلقاها حكومة حسّان دياب في خضم المعركة. فلا هي قادرة بعد اليوم على التهرّب من مكافحة التهريب غير الشرعي إلى اقتصاد سوريا المُحاصَر والمُعاقَب، ولا هي قادرة على إغفال حلقة شروط المجتمع الدولي التي تبدأ بالإصلاحات واستقلالية القضاء، إن أرادت فعلاً ترجمة نواياها الحسنة إلى أفعالٍ جيدة، وخصوصاً بعد فشلها في رفع علامة أدائها من مستوى “الصفر” أو ما دون.
بدءاً من اليوم، لم يعد أمام الحكومة ترف الوقت لدرس تداعيات أزمة السيولة. بات لزاماً عليها التحرّك وبسرعة لمواكبة خطوات الدولار الأميركي التي تُلهب سوق المضاربات من بيروت حتى دمشق، وتُهدّد دور المنصة الإلكترونية الضابطة لتداولاتٍ محكومة بأسعار تَستَبق الواقع على تطبيقات مشبوهة.
بدءاً من اليوم، لم يعد أمام الحكومة مُتّسعاً كافياً من هامشِ المناورة على طاولة التفاوض مع صندوق النقد الدولي. فقلب مديرته العامة كريستالينا غورغييفا “المفطور”، لن يتّسع لمزيد من مشاعر التضامن والأسى مع لبنان العاجز عن التمثّل بوفدٍ مُتجانس ومُتماسك، يتسلّح بقرارٍ سياسي لتطبيق الإصلاحات المشروطة بتدفّق المساعدات، ويطرح أرقاماً مُوَحَّدة للخسائر المالية، ويقترح الحلول الإنقاذية المناسبة. هي فرصةٌ قابلة للتلاشي إن سئم الصندوق سياسات المراوغة، بما قد يدفعه إلى طلب وقف التفاوض، في موقفٍ لن يكون سابقة في ظل حالات مماثلة، شهدت مصر على آخر نماذجها قبل أن تنتظم في صفّ المعايير المطلوبة.
بدءاً من اليوم، لم يعد أمام الحكومة إلّا لململة أوراق الإنجازات الوهمية التي نثرها الرئيس دياب لمناسبة مرور أول 100 يوم من عمرها، لتعكف على إعداد ملفاتها بتروٍّ وثبات. فماذا حلّ بملف شركات التدقيق التي اعتزمت تكليفها درس موازنة مصرف لبنان بعد خبر انسحاب شركة “كرول” (Kroll) لارتباطاتها المشبوهة بإسرائيل والصهيونية العالمية؟ وما مصير ملف التفاوض مع الدائنين الخارجيين الذي كُلِّفت به شركة “لازار” ( Lazard) منذ أعلنت لبنان “بلدا مُتعثّراً” في آذار (مارس) الماضي؟ وَلِمَ لا تُلاحق ملف التعيينات القضائية التي سُحبت من التداول، ونامت مُجدَّداً في الأدراج لرغبات في عدم تعديل آليات شفّافة كفيلة باستقدام الكفاءات وأصحاب الخبرات، وقادرة على طمأنة المستثمرين لجدارة الإحتكام حفظاً للحقوق؟ ولم تغفل ملاحقة إصلاح قطاع الكهرباء بتعيين مجلس إدارة جديد لـ”كهرباء لبنان” والهيئة الناظمة للقطاع، تحقيقاً لوفر الملياري دولار؟ وهل تستمرّ في اعتماد سياسة النعامة حيال ثقل القطاع العام وحجمه المتضخم منذ أُقرّت سلسلة رتب ورواتب على عجل سياسي، دون تقدير فعلي لحجمها المالي ومن دون دراسة أثرها الإقتصادي والإجتماعي؟
لا عجب إن استمرت الليرة اللبنانية في انهيارها، طالما أن الحكومة تتجاوز القوانين والأعراف وأصول التعامل بين المؤسسات وتغفل مبادئ فصل السلطات، وتبقي عينها على “الصلاحيات الإستثنائية”.
لا عجب إن استمرّ التضخم في ابتلاع القدرات الشرائية، فمعدل الـ363% الذي بلغه ليس خيالياً، بل تترجمه أسعار المواد الغذائية التي بدأت تفتقد اليها رفوف السوبر ماركت والمحال التجارية. ولا عجب إن عاد الثوار إلى شارع الحراك مُطالبةً بأبسط مقومات العيش، بعد غياب ما يكفل الغد من ضمانات.
لا عجب إن أطاحت العقوبات الأميركية بكل مُكوّنات النمو، إن بقيت الحدود سائبة على كل أنواع التبادل مع الجارة سوريا. فـ”قانون قيصر” سيهتمّ بملاحقة المتعاونين والمُهرِّبين للمدعوم من السلع والأموال، ويُحكِمُ الحصارَ على قنواتِ التسريب غير الشرعي بقطعِ علاقة المتسبّبين بالمجتمع الدولي.
تنهار الإقتصادات حين تسقط العملات الوطنية وحين تعجز السلطات عن ضخّ جرعات ثقة كفيلة بتعديل مسار الإنحرافات. حراجة الوضع تتطلب صدمات إيجابية تنقذ الإقتصاد “المفطور” في اللحظات الأخيرة…
- فيوليت غزال البلعة هي صحافية وباحثة إقتصادية لبنانية. يُمكن متابعتها على الموقع الإلكتروني التالي، والذي يُنشَر عليه في الوقت نفسه هذا المقال: arabeconomicnews.com