عزيزي القارئ، هل أنتَ عُنصُري؟

بقلم عبد الرازق أحمد الشاعر*

ذات تاريخ في بلادٍ لا يَعنيكَ أن تَعرِفَ مَكانَها، توقّف طفلٌ أمامَ لافتةٍ تقول “كلابٌ للبيع”. دَفَعَ الطفلُ بابَ المتجر بيُمناه، وتقدّم نحو صاحب المحل الذي كان مشغولاً بإعدادِ طعامٍ لجِرائه التي لم تكن تكفّ عن النباح. سأل الطفل: “كم ثمن كلابك يا سيدي؟”، فقال الرجل: “تتراوح أسعارها بين الثلاثين والخمسين دولاراً. هل ترغب في شراء أحدها؟”. وضع الطفل يده في جيبه، وأخرج بعض العملات، وقدمها للرجل قائلاً: “إليك ثلاثة دولارات إلّا الربع، ُيمكِنُك أخذها”. ضحك صاحب الحانوت من سذاجة الفتى، وقال: “يا عزيزي، البيع هنا نقداً وليس بالتقسيط. وطالما أنك لا تمتلك المال الكافي، يُمكنك الإنتظار حتى تدّخر المبلغ المناسب”. كان الرجل على وشك الإنصراف، لكن قبل أن يُولي ظهره، وجد يد الصغير تُمسك بمعصمه وفي عينيه نظرة مُتوَسّلة. في تلك اللحظة، خرجت زوجة البائع من غرفة داخلية، وخلفها تتقافز خمسة جِراء ذات زغب. لفت انتباه الطفل الجرو الأخير، فقد كان يمشي مُتثاقِلاً، ولا يقفز عالياً كرفاقه. فقال من دون تردد: “سأشتري هذا الجرو”.

قال صاحب المحل: “إلّا هذا. ُيمكنُك أن تشتري أي جرو شئت، لكنني لا أنصحك بشراء هذا”. نظر الفتى مُندهشاً إلى كلبه المُختار، وقال: “ولماذا؟”، فقال الرجل: “لن يستطيع هذا السمين أن يقفز مثل بقية الجِراء، ولن يَخفَّ للقائك حين تعود إلى المنزل. ولن يعدو خلفك أثناء جولاتك الصباحية، ولن يقفز فوق كتفيك أبداً، لأنه ببساطة كلبٌ أعرج”. قال الفتى: “ولكنني أُريد هذا الكلب بالذات”. فقال الرجل: “يُمكنُك أن تأخذه إن كُنتَ مُصرّاً بدون مقابل، فهو لا يساوي ثمن السلسلة التي ستلفّها حول عنقه”. غضب الطفل كثيراً، ووضع المبلغ في يد صاحب المتجر، وقال: “سأنَقّدك نصف دولار كل أسبوع حتى أُسدّد ثمنه كاملاً غير منقوص، فهو لا يقل في شيء عن رفاقه”. فَغَرَ الرجل فاهه، ووقف ذاهلاً أمام الطفل المُلغّز، لكن دهشته اختفت بعدما كشف المُشتري الصغير عن ساق حديدية تمتد من حذائه حتى المفصل.

كثيراً ما ينظر أَحَدُنا إلى أخيه نظرة احتقارٍ ودونية، لا لشيء إلّا لأنه سُلبَ نعمةً أو حُرِمَ عطاءً مَنَّ الله به عليه، وكأن صاحب العاهة أو الإعاقة قد أراد بكامل وعيه أن يتجرّع شعورَ النقص صباحاً ومساءً وهو يرى الناس حوله يُمارسون حياتهم الطبيعية بدون عرج. فليس من حق الفقير أن يجلس إلى جوار أصحاب الياقات البيضاء فوق طاولة طعام واحدة. وليس من حق أبناء الطبقات المتوسطة أن ينزلوا حمام سباحة مع أصحاب البشرة البيضاء والعيون الزرقاء والشعر الأصفر. ولا يحق لفقير أن يضع نجوماً فوق كتفيه أو ميزان عدالة خلف ظهره ليُمارِسَ حقّه الطبيعي في العرج بدون أن يسخر منه أحد.

مُجتمَعُنا طَبَقِي بامتياز يا سادة، ولا تقتصرُ مشاعرُ الكِبَر والأنفة على أصحاب الكروش المُنتَفِخة والمناصب الرفيعة، ويُمكنك عزيزي القارئ أن تختبرَ مشاعرك الإنسانية حين تمرّ على عامل نظافة تَنبعثُ روائح مُخلّفات بيتك من أكمامه البرتقالية المُتَّسخة. أو حين تَجمَعُكَ طاولة قطار بأحد المُعاقين ذهنياً. فإن وجدتَ نفسك تضمّ ثيابك وتتحاشى الرجل تحاشيك لكلبٍ أجرب، فاعلم أنك رجلٌ فيك جاهلية. وإن أسقطت مالك في يد فقير خوفاً من لمس راحته باعتباره نجسا أو روثا بشرياً، فاعلم أن الله قد سَلَبَ منك نعمة الفهم والوعي والقناعة. وإذا قام أحدهم وأجلسك مكانه لأنك أرفع مكانة أو أعلى وظيفة، فتَيَقّن أنك تمارس عنصرية بغيضة حتى لو حفظت كل شعارات الحرية والكرامة والمساواة. وإذا وقف أحدهم بين يديك، وقد تلعثمت شفتاه وجفَّ ريقه واصطَكَّت مَفاصله لمُجرّد أنك تجلس على كرسي لا يستطيع أمثاله الإقتراب منه، فاعلم أنك قد تخلّيت عن آدميتك للمنصب، واستسلمت للتقسيم الغبي الذي لم ينزل به الله سلطاناً.

ذات يوم، إلتقى معرور بأبي ذر وغلامه، وكان أبو ذر وفتاه يرتديان حُلَّتين مُتماثلتين في اللون والقماش، ولم يكن من عادة السادة والخدم أن يرتديان الثياب نفسها، فتعجّب معرور مما رآه، فقال له أبو ذر: “إني ساببت رجلاً، فعيّرته بأمه، فقال لي النبي صلى الله عليه وسلم: يا أبا ذر، أعَيَرته بأمه؟ إنك امرؤ فيك جاهلية. إخوانكم خولكم، جعلهم الله تحت أيديكم، فمن كان أخوه تحت يده، فليُطعمه مما يأكل، وليلبسه مما يلبس، ولا تكلفوهم ما يغلبهم، فإن كلفتموهم فأعينوهم”. ويُقال أن الرجل الذي عيّره أبو ذر بأمه كان بلال بن رباح بأن قال له: “يا بن السوداء”.

أخيراً، لا تحقروا من شأن الكلاب التي بها عَرَج، واعلموا أن النقصَ الذي يعتري أحد البُسطاء لا يحقر أبداً من شأنه. فلا تنظروا إليه نظرة دونية، ولا تبيعوا فقراءكم بثمنٍ بخسٍ حتى لا تكونوا كصاحب المتجر الذي ظلم كلبه وأهان غيره، ولا تعودوا لجاهلية قد عافاكم الله من رغامها، وعضوا على إنسانيتكم بالنواجذ.

  • عبد الرازق أحمد الشاعر هو كاتب وصحافي مصري. يُمكن التواصل معه عبر بريده الإلكتروني: Shaer129@me.com

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى