الأَولَوِيَّاتُ الأميركيةُ في السودان: إستقرارٌ أم ديموقراطية؟
يسعى الفريق أول الركن عبد الفتاح البرهان وفريقه العسكري لإقناع أميركا بأن الإستقرار الذي تقوده المؤسسة العسكرية هو أفضل من الديموقراطية التي تسعى إليها واشنطن في السودان.
جهاد مشامون*
يُعتَبَرُ السودان بلدًا مُهِمًّا من الناحية الجغرافية الاستراتيجية لمصالح الولايات المتحدة في كلٍّ من أفريقيا والشرق الأوسط. الحاكمان العسكريان للبلاد، الفريق أول الركن عبد الفتاح البرهان ونائبه الفريق أول محمد حمدان دقلو (المعروف أيضًا باسم “حميدتي”) يعتمدان على هذه الحقيقة في سعيهما إلى الضغط على إدارة جو بايدن لتركيز سياستها في السودان على الاستقرار، بدلًا من دعم الدعوات إلى الديموقراطية.
تاريخ وتطوّر العلاقات
تطورت سياسة الولايات المتحدة تجاه السودان على مدى السنوات الخمس والعشرين الماضية. ابتداءً من التسعينيات الفائتة، اتبعت إدارة بيل كلينتون سياسة تغيير النظام، في محاولةٍ لتقويض نظام الجبهة الإسلامية القومية –نظام الرئيس السابق عمر البشير– من خلال دعم المعارضة السودانية المحلية وإدراج الخرطوم على قائمة الدول الراعية للإرهاب. بعد فشل هذه السياسة، حوّلت واشنطن تركيزها لاحقًا إلى العمل مع نظام البشير لضمان الاستقرار، بدلًا من تعزيز الديموقراطية. وقد اتّبعت كلٌّ من إدارتَي جورج بوش (الإبن) وباراك أوباما علاقة عمل مع البشير. في المقابل، التزم السودان كما يجب بتعهّداته في اتفاقات السلام في كلٍّ من دارفور وما يُعرَفُ الآن باسم جنوب السودان، وحافظ على التعاون مع وكالة المخابرات المركزية (سي آي إي) في مكافحة الإرهاب.
كان هذا التركيز على الاستقرار ومكافحة الإرهاب، مع الاستمرار في تطبيق العقوبات، نتيجةً لمُتطلَّبات الحرب العالمية على الإرهاب. في مقابل التطبيع المأمول للعلاقات بين الولايات المتحدة والسودان، عرض نظام البشير في العام 2001 تبادل المعلومات الاستخباراتية التي يمتلكها حول الجماعات الإسلامية المختلفة التي تتدرّب في البلاد. كجُزءٍ من عملية متعددة الخطوات، ركّزت إدارة بوش على التعامل مع الخرطوم من خلال الالتزام بتطبيع العلاقات، مقابل التزام النظام باتفاقية السلام الشامل لعام 2005، والتي أنهت عقدين من الصراع مع الحركة الشعبية لتحرير السودان واستمرار عمليات مكافحة الإرهاب.
لكن التطبيع أعاقه الصراع والإبادة الجماعية في دارفور، ما أثار ضغوطًا كبيرة من جانب البيت الأبيض. وعدت إدارة أوباما بمحاسبة نظام البشير على الصراع في دارفور. لم تَرفع السودان عن قائمة الدول الراعية للإرهاب وجددت العقوبات على الخرطوم كل عام، على الرغم من استمرار التعاون في مكافحة الإرهاب. وخفّفت الإدارة العقوبات في العام الأخير من ولايتها للحفاظ على التزامات السودان بمكافحة الإرهاب. وقد تمّ رفع العقوبات أخيرًا من قبل إدارة دونالد ترامب نتيجة الضغط الخليجي في العام 2017، على الرغم من أن السودان ظلّ على لائحة الدول الراعية للإرهاب الأميركية.
مكافحة الإرهاب
عمل كل من البرهان وحميدتي على تشجيع الولايات المتحدة على مواصلة تعاونها مع السودان في مجال مكافحة الإرهاب. هدفهما هو إقناع الولايات المتحدة بالتخلي عن دعمها للدعوات الشعبية للديموقراطية وقبول حكمهما العسكري الاستبدادي. كما أنهما يرغبان في أن يُنظر إليهما على أنهما عميلان وعاملان للاستقرار في الشرق الأوسط وشرق إفريقيا وقائدان يمكنهما ضمان المصالح الأميركية في هاتين المنطقتين.
شجّعت هذه الأهداف البرهان وحميدتي على إرسال مبعوثين عسكريين رفيعي المستوى إلى إسرائيل قبل تنفيذ انقلابهما العسكري في 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021. على الجبهة الأمنية، كان الهدف من هذه الاجتماعات هو إقامة علاقات استخباراتية وأمنية مشتركة. تم الاتفاق على إغلاق مكتب حركة “حماس” في السودان، والتي حدّدتها كلٌّ من إسرائيل والولايات المتحدة كمنظمة إرهابية. سياسيًا، كانت الاجتماعات جُزءًا من جهد الجيش السوداني لحمل تل أبيب على الضغط على واشنطن لقبول الانقلاب الآتي في السودان. وعمَّقَ الجيش السوداني علاقاته الأمنية مع إسرائيل على أمل أن تضغط الدولة العبرية على واشنطن لاستئناف مساعدتها المالية للخرطوم، والتي تبلغ 850 مليون دولار، وأن يُعيدَ المجتمع الدولي إعفاء السودان من ديونها البالغة 60 مليار دولار.
ترتبط هذه الخطط بالربط الاستراتيجي لإدارة بايدن بين إفريقيا والشرق الأوسط، ويتجلّى ذلك في ترشيحها لجون غودفري سفيرًا في السودان في العام 2022. وقد شغل غودفري العديد من المناصب في جميع أنحاء أفريقيا والشرق الأوسط، وشغل منصب نائب منسق مكافحة الإرهاب في وزارة الخارجية. كما كثفت إدارة بايدن من تدخل الولايات المتحدة في شرق أفريقيا لحماية مصالحها وحلفائها من حركة الشباب، ونشرت 450 جنديًا في الصومال بعد تصاعد هجمات حركة الشباب، التي ارتفعت بنسبة 17٪ في العام 2021 ومن المتوقع أن ترتفع بنسبة 71٪ هذه السنة. وقد شجعت إمكانية شنّ حركة الشباب هجومًا على القاعدة الأميركية على البحر الأحمر في جيبوتي وتوسيع أنشطتها في إثيوبيا على زيادة انتشار القوات الأميركية في شرق أفريقيا.
البحر الأحمر
استخدم البرهان وحميدتي أيضًا إمكانية إنشاء قاعدة بحرية روسية في بورتسودان، على ساحل البحر الأحمر بشرق السودان، كوسيلةٍ أخرى للضغط على أميركا للرضوخ ودعم حكمهما، بدلًا من دعم الديموقراطية. خلال الشراكة المدنية-العسكرية في العام 2021، تحوّط الجيش السوداني بين الولايات المتحدة وروسيا بشأن هذه المسألة. يتمتع السودان بعلاقة مُوَسَّعة مع روسيا منذ سنوات. خلال نظام البشير السابق، حصلت القوات المسلحة السودانية على مليار دولار من الأسلحة من موسكو. كان هذا مصدر قلق للولايات المتحدة، ما دفع القيادة الأميركية الأفريقية إلى إرسال البارجة الحربية “يو أس أس ونستون تشرشل” إلى البحر الأحمر ومبعوثيها الدبلوماسيين والعسكريين لإجراء محادثات مباشرة مع ضباط القوات المسلحة السودانية. بعد الانقلاب، واصل الجيش السوداني التحوّط في محاولةٍ لجعل إدارة بايدن تقبل بالحكم العسكري، وهو في الواقع امتدادٌ للنظام الإسلامي السابق.
لعبت الانقسامات بين البرهان وحميدتي دورًا هنا أيضًا. فقد رَحَّبَ حميدتي ، الذي زار روسيا عشية غزوها لأوكرانيا، بمحاولة موسكو بناء قاعدة بحرية في السودان. وتعمل مجموعة واغنر الأمنية الروسية الخاصة في السودان بدعمٍ من قوات الدعم السريع شبه العسكرية التابعة لحميدتي، لاستخراج المعادن من أجل تصديرها إلى روسيا. يُعتقد أيضًا أن فاغنر تدعم وتدرّب قوات الدعم السريع لنشر معلوماتٍ مُضلِّلة على وسائل التواصل الاجتماعي لمواجهة الدعوات إلى الديموقراطية. وأدى التنافس بين البرهان وحميدتي إلى إصدار البرهان مرسومًا يضع بورتسودان تحت سلطة وزير الدفاع، ما يشير إلى كلٍّ من الولايات المتحدة وروسيا أن مصير الميناء في أيدي القوات المسلحة السودانية وهو وحده.
يحظى أمن الملاحة في البحر الأحمر بأهمية قصوى بالنسبة إلى الولايات المتحدة، لأنه يربط بين إفريقيا والشرق الأوسط. وتؤكد استراتيجية الأمن القومي الصادرة عن إدارة بايدن أخيرًا على التزامها بمنع القوى الأجنبية أو الإقليمية من تهديد حرية الحركة عبر باب المندب، الممر المائي الذي يربط البحر الأحمر بخليج عدن والمحيط الهندي. وهذا ما يفسر تحذير السفير الأميركي غودفري للسودان من السماح لروسيا ببناء قاعدة بحرية في بورتسودان. في الوقت نفسه، فإن اهتمام إدارة بايدن بتعميق العلاقات العربية-الإسرائيلية عبر اتفاقات أبراهام يزيد من أهمية أمن البحر الأحمر. هذه الأهداف تترك الولايات المتحدة مفتوحة لاستيعاب الحكم العسكري السوداني، بشرط ألّا تسمح الخرطوم لموسكو ببناء قاعدة بحرية.
مَصدَرٌ آخر لقلق إدارة بايدن هو أن السودان جُزءٌ من مبادرة الحزام والطريق الصينية. تربط السودان والصين علاقات اقتصادية عميقة في مختلف المجالات، بما في ذلك الزراعة والطاقة والتعدين. وبلغت صادرات السودان إلى الصين في العام 2020 مبلغ 766 مليون دولار، ما يمثل 19٪ من إجمالي صادرات البلاد، الأمر الذي يجعل الصين ثاني أكبر شريك تجاري لها. وتُفسّرُ قوة العلاقات الثنائية حق النقض (الفيتو) الذي اتخذته بكين على قرارات مجلس الأمن الدولي ضد انقلاب البرهان وحميدتي. ويتم تعزيز دور الصين الإقليمي من خلال دول أخرى في أفريقيا، بما فيها مصر، التي تعتبرها بديلًا من الولايات المتحدة أو تتبع استراتيجيةَ تَحَوُّطٍ بين البلدين لتعظيم مصالحهما الخاصة. ويتيح ذلك للصين إنشاء مجالٍ في المنطقة وتحدّي نفوذ أميركا.
سد النهضة الإثيوبي الكبير
يعمل البرهان وحميدتي أيضًا على إقناع إثيوبيا بالتعاون في سدّ النهضة الإثيوبي الكبير. شجّعت الأهمية الجيوسياسية والجيواستراتيجية لمصر، التي ترى في سدّ النهضة على أنه تهديد لأمنها المائي، القادة العسكريين في السودان، وبخاصة البرهان، على التنسيق مع مصر لإجبار إثيوبيا على توقيع اتفاقيةٍ مُلزِمة قانونًا بشأن السد. وتدعم مصر البرهان وتثق به لمساعدتها في ما يتعلّق بسد النهضة لأنها ترى أن القوات المسلحة السودانية هي المؤسسة الوحيدة القادرة والمتماسكة بما يكفي للحفاظ على استقرار السودان وأمنه.
بالنسبة إلى الإدارات الأميركية، كان لمصر على الدوام دورٌ جيوسياسي وجيوستراتيجي في سياساتها في الشرق الأوسط والبحر الأحمر. ومن ثم، للضغط على إثيوبيا بشأن قرارها البدء في ملء خزان سدّ النهضة قبل التوصّل إلى اتفاقٍ مُلزمٍ مع السودان وخصوصًا مع مصر، أوقفت إدارة ترامب 100 مليون دولار من المساعدات لإثيوبيا في آب (أغسطس) 2020. وقد سعت إدارة بايدن إلى مشاركةٍ أكبر مع إثيوبيا، بما في ذلك استئناف المساعدات، وذكرت أنها تعمل على تحديدِ حلٍّ مُربحٍ لجميع البلدان الثلاثة عندما يتعلق الأمر باستخدام مياه النيل، حيث تريد الولايات المتحدة توجيه مصر بعيدًا من علاقة أوثق مع روسيا.
الخلاصة
مع إعطاء إدارة بايدن الأولوية لسياسات الولايات المتحدة المستمرة لمكافحة الإرهاب في أفريقيا والشرق الأوسط، والسعي إلى تحقيق الأمن في البحر الأحمر، ومواجهة نفوذ روسيا والصين في كلا المنطقتين، ركّزَ الجيش السوداني على دفع واشنطن للتخلّي عن أيِّ دعم من أجل الديموقراطية في البلاد. ومع ذلك، حاولت إدارة بايدن السعي إلى تحقيق الاستقرار والديموقراطية في آنٍ واحد، ودعت إلى شراكة مدنية-عسكرية جديدة. ويبقى أن نرى ما إذا كانت هذه السياسة ستستمر، إذا اتحدت المعارضة المدنية السودانية وأجبرت الجيش على تسليم السلطة إلى حُكمٍ انتقالي مدني كامل.
- جهاد مشامون هو باحث سوداني ومحلل سياسي للشؤون السودانية. حاصل على درجة الدكتوراه في سياسة الشرق الأوسط من معهد الدراسات العربية والإسلامية بجامعة إكستر، وقد ألف وشارك في تأليف العديد من المقالات حول الانتفاضات السودانية الأخيرة والشؤون السودانية، وأجرى مقابلات في السودان للإذاعة والمطبوعات والقنوات الإخبارية التلفزيونية. يمكن متابعته عبر تويتر على: @ComradeJihad.
يجب عليك تسجيل الدخول لكتابة تعليق.