أزمة لبنان: الكنيسة المارونية على خلاف مع الدولة

بقلم مايكل يونغ*

في أوائل شباط (فبراير)، إحتفلت السلطة الروحية لأكبر طائفة مسيحية في البلاد، بعيد مار مارون – مؤسس الكنيسة المارونية. وفي المناسبة تحدّث أسقف بيروت، المطران بولس عبد الساتر، خلال قداس حضره الرئيس ميشال عون وكبار المسؤولين اللبنانيين الآخرين. وقد أوضحت تصريحات الأسقف الكثير حول كيفية رؤية السلطة الروحية المارونية للإحتجاجات المستمرة منذ أشهر ضد الطبقة السياسية وفسادها المُستَشري.

“ألا يستَحِقّ عشراتُ الألوف من اللبنانيين الذين وثِقوا بكم وانتخبوكم في أيار (مايو) 2018 ان تُصلِحوا الخَلَل في الأداء السياسي والإقتصادي والمالي والإجتماعي”، سأل الأسقف عبد الساتر المسؤولين في الإحتفال. “ألا يُحرِّكُ ضمائرَكم نحيبُ الأمّ على ولدها الذي انتحر أمام ناظرَيها، لعجزه عن تأمينِ الأساسي لعائلته؟ اوَلَيست هذه الميتةُ القاسيةُ كافيةً حتى تُخرِجوا الفاسدَ من بينكم وتحاسبوه وتستردوا منه ما نهبَه لأنه ملكٌ للشعبِ؟”. وطلب من المسؤولين العمل ليل نهار “مع الثوار الحقيقيين أصحابِ الإرادة الطيِّبة، على إيجاد ما يؤمِّن لكلِّ مواطنٍ عيشةً كريمةً؟  لحل أزمة لبنان و”إلا فالإستقالةُ أشرَفُ”.

عكست ملاحظات الأسقف الإشمئزاز المُستَشري على نطاق واسع من السياسيين في لبنان. ومع ذلك، كان من غير المعتاد رؤية رجل دين ماروني ينتقد بجسارة المسؤولين ويُطالبهم بالقيام بمهامهم علنية، لا سيما الرئيس عون، وهو ماروني نفسه.

ومع ذلك، كان هناك سببٌ وجيه لأن يقوم االمطران عبد الساتر بما فعله، في وقت دعم البطريرك الماروني، مار بشارة بطرس الراعي، حركة الإحتجاج في لبنان. إن الكنيسة المارونية تشعر بالقلق لأن الحالة الإجتماعية والإقتصادية الكارثية التي أحدثتها النخبة السياسية في البلاد تدفع الشباب إلى مغادرة البلاد. وكأقلية، سيتضرّر المسيحيون بشدة من هذا الإتجاه.

الكنيسة على حق في ما يتعلق بمشاكل لبنان باعتبار أن لها آثاراً وجودية على المسيحيين في البلاد، ولكن أيضاً بطرق عديدة على لبنان نفسه. حتى أكثر التقديرات تفاؤلاً تشير إلى أن الأمر سيستغرق سنوات حتى تبدأ البلاد في الخروج من مأزقها الحالي، مما يعني أن الكثير من الشباب سيغادرون البلاد ويُهاجرون إلى الخارج – وهي عملية جارية أصلاً قبل بدء الأزمة.

المفارقة هي أن عون وصهره جبران باسيل كانا يصوّران أنفسهما دائماً على أنهما مُتعَهِّدَين لإحياء وانعاش المسيحية اللبنانية. ومع ذلك، فإن إلقاء نظرة خاطفة على سجل الرئيس من شأنه أن يُشير إلى حقيقة مُختلفة تماماً. عندما ترأس حكومة عسكرية في 1988-1990، شرع عون في نزاعين مع الجيش السوري، ثم مع ميليشيا “القوات اللبنانية” المسيحية، مما أثار هجرة جماعية للمسيحيين في ذلك الوقت.

منذ ذلك الحين، ساهم عون وباسيل أيضاً في خلق مناخ سلبي للغاية في البلاد قوّض الثقة مرة أخرى. بدعمٍ من “حزب الله”، قاما بإغلاق البرلمان والكثير من النظام السياسي لأكثر من عامين، بين العامين 2014 و2016، كابتزازٍ لانتخاب عون رئيساً للجمهورية. تلك الفترة كانت واحدة من الفترات التي عاشت خلالها البلاد مرحلة خطيرة، حيث تدهورت الظروف الإقتصادية، وتوقّفت المؤسسات عن العمل بفعالية.

نادراً ما سمح عون لمصالح لبنان بالتدخّل والتأثير في طموحاته الشخصية. ومع ذلك، بالنسبة إلى رئيسِ جمهورية يَزعَمُ أنه بطلٌ للمسيحيين أن يتعرّض لانتقادات صريحة من قبل عضو بارز من رجال الدين الموارنة، أكّد فقط إلى أي مدى كان يُنظَر إلى ولاية عون الرئاسية على أنها إخفاقٌ من قبل الجميع باستثناء أنصار الرئيس الساذجين.

يُقدَّر عدد المسيحيين بحوالي 30 في المئة من السكان اللبنانيين، على الرغم من أن التعداد السكاني لم يتم منذ العام 1932. بعض التقديرات الأخرى يرتفع أكثر. ومع ذلك، فإن الواقع هو أن النظام اللبناني المُختَل، الذي تهيمن عليه طبقة سياسية طائفية فاسدة وحزب عسكري، “حزب الله”، الذي يتبع أجندة إيرانية، لا يستسيغه أو يؤيده الكثيرون من الشباب اللبنانيين. عندما يتخرّج الشباب، فإن الهدف الأول لهم هو مغادرة البلاد للعثور على عمل في مكان آخر.

هذه الديناميات كانت مُضرّة بشكل خاص للمسيحيين، بالنظر إلى انخفاض عددهم في التركيبة السكانية. والسبب هو أن الذين يغادر منهم لبنان عادةً ما يُهاجرون البلاد بشكل دائم، لأنه ليست هناك فرص عمل مهمة مفتوحة لهم محلياً، وغالباً ما يفشل الاقتصاد في مكافأة الإبتكار والمبادرة. علاوة على ذلك، ونظراً إلى إمساك وتمسّك الزعماء الطائفيين الشديد بالنظام السياسي، فمن المستحيل عملياً كسر الوضع الراهن السائد.

الكنيسة المارونية، على الرغم من أنها تُعتَبَر في كثير من الأحيان بمثابة حصن المحافظين الجامد، إلّا أنها كانت أداةً لتغيير عميق في تاريخ لبنان. خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كانت المؤسسات التعليمية للكنيسة مسؤولة عن خلق طبقة من المُتعلّمين المُستعدين لتحدّي العائلات المُستَكبرة البارزة، وبالتالي ضخ الديناميكية الإجتماعية في المجتمع ضد النظام الإقطاعي.

لم تكن الكنيسة المارونية الوحيدة التي قامت بذلك، لكن الواقع هو أن رجال الدين لم ينضموا بشكل مُنتظم إلى النخبة السياسية، أو حتى إلى الرئيس الماروني. على سبيل المثال، خلال الحرب الأهلية في العام 1958، عارض البطريرك الماروني آنذاك، مار بولس بطرس المعوشي، الرئيس كميل شمعون بشدة. بعبارة أخرى، لدى الكنيسة المارونية إرثٌ من المعارضة للنخبة السياسية التي تستطيع البناء عليها وهي تسعى إلى الدفاع عن وجود مجتمعها في لبنان.

في كلمته، كان المطران عبد الساتر يُشير إلى نقطة أساسية، ألا وهي أن الطائفة المارونية لا تُحدّدها نزوات السياسيين. ومع ذلك، فإن كل الدلائل تشير اليوم إلى أنها مُهدَّدة بحماقة قادتها الأكثر هَيمَنة.

  • مايكل يونغ رئيس تحرير موقع “ديوان”، مدونة برنامج كارنيغي الشرق الأوسط، في بيروت.
  • كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى