الجيش اللبناني بين مطرقة السلطة وسندان الشعب

يمر لبنان بفترة من التغيير الذي لا يمكن التنبؤ إلى أين يقود البلاد خصوصاً بعد إستقالة حكومة سعد الحريري، لذلك فهو يحتاج إلى القوات المسلحة للمحافظة على الإستقرار الداخلي وضمان سير المؤسسات الرسمية.

العماد جوزيف عون: لعب دوراً مهماً في حماية المتظاهرين

 

بقلم آرام نرغيزيان*

وضعت الإحتجاجات المستمرة في لبنان ضد الطبقة السياسية والنظام السياسي الطائفي القوات المسلحة اللبنانية في مكانة لا غنى عنها لتحقيق الإستقرار الداخلي خلال فترة من التغيير الذي لا يمكن التنبؤ إلى أين سيقود البلاد. معايير المهمة للمؤسسة بسيطة: حماية المؤسسات الحكومية الرئيسة والجمهور، والوقوف إلى جانب المُحتجّين ومعهم. تحقيقاً لهذه الغاية، نشر الجيش جميع وحداته التشغيلية – 80 في المئة من حوالي 80,000 فرد.

خلال هذه الإحتجاجات غير المسبوقة، عملت القوات المسلحة على الحفاظ على توازن مثير للجدل بين احتياجات ومخاوف النظام الطائفي في لبنان ومطالب وتطلعات جمهور نشط حديثاً. لقد تخطت المؤسسة العسكرية دعوات الفصائل المتنافسة في البلاد لإنهاء الاحتجاجات، وبالتالي الحفاظ على النوايا الطيبة الفريدة التي يتمتع بها الجيش.

وبينما يتحوّل عدم اليقين إلى حلقة طويلة من الإضطرابات المدنية، لن تفعل النخب السياسية الطائفية في لبنان سوى مُضاعفة مطالبها من القوات المسلحة لاستعادة الوضع السائد قبلاً، وكذلك التدقيق في نية القيادة العسكرية. لكن بالنظر إلى الجاذبية العابرة للطوائف للجيش، والحقيقة بأن الضباط والأفراد المُجنَّدين لا يسعهم سوى التعاطف مع المتظاهرين والطبيعة التاريخية الحقيقية للأحداث الجارية، يواجه الجيش اختباراً رئيساً: يمكنه إما الحفاظ على ثقة العدد الأكبر من المتظاهرين، أو يمكنه أن يتراجع ويستخدم القمع ويؤدي إلى كارثة محتملة على نطاق لا يمكن أن يتوقعه البعض، ناهيك عن الفهم الكامل لما قد يحصل.

ساعد الطابع المتعدد الطوائف للقوات المسلحة في تعزيز دورها باعتبارها المؤسسة الوطنية الأكثر شعبية في لبنان. من المهم أيضاً فهم كيفية استجابة الجيش لكل الإحتجاجات وحالات الإضطرابات المدنية السابقة.

في العام 2005، عندما وقعت مظاهرات حاشدة إثر اغتيال رئيس الوزراء السابق رفيق الحريري، رفض الجيش تنفيذ أوامر قمعية طلبتها منه حكومة عمر كرامي تنفيذها. لقد شعر بتحوّلٍ في ميزان القوى في لبنان والمنطقة، واختار بدلاً من ذلك العمل كحاجز وقائي للمتظاهرين المُناهضين لسوريا. في المقابل، اختار الجيش عدم الانخراط عسكرياً خلال اشتباكات الشوارع التي وقعت في أيار (مايو) 2008 بين “حزب الله” الشيعي والميليشيا الوليدة لحركة المستقبل السنية.

خلال مناقشاتي السابقة مع كبار الضباط العسكريين في العام 2014، وصف البعض أحداث أيار (مايو) 2008 كحالة عسكرية حيادية. رأى آخرون أن تقاعس القوات المسلحة في ذلك الوقت كان حدثاً فاصلاً وفرصة رئيسة ضائعة حيث تعرضت براءة الجيش ما بعد الوجود السوري للأذى. وأياً كان الأمر، فقد أكدت أزمة العام 2008 الدور الذي لا غنى عنه للقوات المسلحة بعد العام 2005 كحصن ضد أي مواجهة عسكرية سنية – شيعية.

بالنسبة إلى القوات المسلحة، تختلف الإحتجاجات الحالية عن الدورات السابقة من الإضطرابات المدنية. كانت المظاهرات المناهضة لسوريا في العام 2005 تفتقر إلى طابع قوي عابر للطوائف بسبب عدم وجود غالبية الطائفة الشيعية وغيرها من الجماعات التي تسعى إلى إقامة علاقات إيجابية مع سوريا. ذهبت أزمة العام 2008 إلى قلب التوترات السنية-الشيعية في لبنان. وحدثت احتجاجات “طلعت ريحتكم” في العام 2015 الموجهة ضد انهيار إدارة النفايات من دون مشاركة الكثير من فقراء لبنان والطبقات الوسطى، الذين ظلوا مُدينين للقوى السياسية الطائفية المتنافسة في البلاد.

الواقع أن إحتجاجات 2019 ليس لها ما يعادلها في تاريخ ما بعد الإستقلال في البلاد. لقد تم تعريفها حتى الآن من خلال نطاقها الجغرافي الواسع خارج بيروت الحضرية وشمولها العابر لخطوط التقسيم الطائفي العنيدة تقليدياً. من الأهمية بمكان هذه المرة المخاطر الهائلة التي يتعرض لها الشيعة الفقراء والطبقة الوسطى الذين يشاركون في الإحتجاجات في جميع أنحاء لبنان. علاوة على ذلك، تتمتع الاحتجاجات أيضاً بدعم السنة والفقراء من الطبقة الوسطى في طرابلس وفي جميع أنحاء البلاد.

عبر الأحداث الأخيرة، عبّر اللبنانيون عن روايات مشتركة مرتبطة بالظروف الإجتماعية الإقتصادية الجماعية والمواطَنة والإنتماء الوطني. ونتيجة لذلك، فإن الإحتجاجات، التي نشأت بسبب الإحباط من النخبة الحاكمة التي تتخطى الخطوط الفاصلة الطبقية والطائفية والجغرافية، تلقى صدى مع روح وتطلعات والصورة الذاتية للقوات المسلحة المُحترفة على نحو متزايد اليوم.

ترى جميع الفصائل الطائفية في لبنان أن المزيج الحالي من الإحتجاجات يُشكّل تهديداً وجودياً لنظامهم السياسي بعد الحرب، وقد ضغطت على القوات المسلحة لإخلاء الشوارع وفتح الطرق من المتظاهرين في جميع أنحاء البلاد. ومع ذلك، تجاهل الجيش الدعوات لتطهير مراكز الاحتجاج في وسط بيروت وأماكن أخرى. في الواقع، ردعت وحدات الجيش المتعاطفين مع “أمل” و”حزب الله” عن تعطيل المظاهرات السلمية في وسط المدينة. بعد إطاعة الأوامر في البداية لإزالة حواجز الطرق بين بيروت وجونية، سرعان ما أجهضت القوات المسلحة هذا الجهد بدلاً من كسر الثقة مع المتظاهرين واللبنانيين عموماً. أخيراً، أكد الجيش علناً أنه يقف مع حق المحتجين في التظاهر بسلام، طالما أنهم يتجنّبون الإضرار بالممتلكات العامة والخاصة.

مع إستمرار الإضطرابات المدنية، سيُطلب من القوات المسلحة لعب دور أكبر دائماً بالنظر إلى حجم التحديات الإقتصادية والسياسية المقبلة. تحقيقاً لهذه الغاية، يجب على الجيش حماية صورته كمؤسسة وطنية. هذا سيعني التنقل في حقل الألغام السياسي المتغير في لبنان مع الحفاظ على إيمان الكثيرين من اللبنانيين في جيشهم. إن القيام بخلاف ذلك سيكون لحظة خطيرة قد تكلف الجيش ما يحتاج إليه أكثر، أي ثقة ودعم الشعب اللبناني.

  • آرام نرغيزيان كبير مستشاري برنامج العلاقات المدنية-العسكرية في الدول العربية في مركز كارنيغي للشرق الأوسط، حيث يُركّز عمله على قطاع الأمن اللبناني، وتحويل القوات على المدى الطويل في المشرق العربي، وجهود تطوير مؤسسات الأمن القومي في مجتمعات ما بعد الصراع والإنقسام.
  • كُتِب هذا المقال بالإنكليزية وعرّبه قسم الدراسات والأبحاث في “أسواق العرب”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى