هنري زغيب يُعيد إصدار كتابٍ عن الإنتشار اللبناني عمره 110 سنين

قبل أَسابيع أَصدر الشاعر اللبناني هنري زغيب في بيروت طبعةً جديدةً من كتابٍ عن أَوائل المهاجرين اللبنانيين إِلى أَميركا في مطلع القرن العشرين، وكان وضعَه سلُّوم مكرزل في نيويورك سنة 1908، وفيه دليلُ أُولئك المهاجرين مع معلوماتٍ عن القرى والمدن اللبنانية التي هاجروا منها، والمدن التي هاجروا إِليها في الولايات المتحدة، وما كان نوع الأَعمال التي امتَهَنُوها.
الطبعة الجديدة صدرَت في منشورات “مركز التراث اللبناني” الذي أَسَّسه هنري زغيب في الجامعة اللبنانية الأَميركية (LAU) في بيروت سنة 2002، وما زال يُديرُهُ حتى اليوم.
“أَسواق العرب” تنشُرُ مقدمة الكتاب لِـما فيها من إِضاءاتٍ على ملحمة الانتشار اللبناني في مطلع القرن الماضي.

سلُّوم مكرزل: مؤلِّف الكتاب

بقلم هنري زغيب

منذ اليوم الأَوّل لدخولي إِلى مكتبي في “الهدى” لِــتَـوَلِّــيَّ رئاسةَ تحريرها، كنتُ شاعرًا أَنني أَتولّى مسؤُوليةً جَوهرُها أَبعدُ من مُجرَّد عمَل صحافي، بل مَهَمَّة رسالية لبنانية ملأَها قبلي في نيويورك متمرّسون، بينهم: يوسف الخال ، وقبلَه نسيب عريضة حين كلّفته تحريرَها الأَميرةُ روز أَبي اللمَع عند وفاة زوجها المؤَسس نَعُوم مكرزل قبل أَن يتسلَّمها شقيقُه سَلُّوم وينهضَ بها مُعيدًا إِياها إِلى مجدها الذهبي منذ التأْسيس.
كان روتينيًّا أَن أُدير “الهدى” محرّرين وأَخبارًا ومقالاتٍ ونُصوصًا ومراسلين، لكنّ عيني كانت ترنو إِلى أَبعد: اكتشاف مطالع الانتشار اللبناني في الولايات المتحدة عبر صفحاتها. لذا طلبتُ من ناشرها يومذاك الصديق فارس أسطفان أَن يُدخلني إِلى محفوظات الجريدة، وكانت مركونةً في الطبقة الأَرضية من تلك البناية الهرمة التي اشترتها ماري مكرزل سنة 1959 ونقلَت إِليها موجودات البناية القديمة التي كان والدها سَلُّوم يطلق “الهدى” منها.
بهذه الرغبة نزلتُ يومًا إِلى الطبقة الأَرضية فإِلى دهليزِ قبوٍ شديد العتمة تحتها، أَلفيتُ فيه بقايا مطبعة اللينوتايپ القديمة التي كان سَلُّوم مكرزل يُصدر “الهدى” عليها، هو الذي ابتكر سنة 1910 طريقةً لإِدخال الأَحرف العربية على آلة “اللينوتايپ” وطبّقها في “الهدى” فكانت أَول جريدة في أَميركا تصدر في العربية على هذه الآلة، ما مكّن نَعُوم مكرزل من إِصدارها بـ8 صفحات بعدما كانت تصدر بـ4 صفحات على التنضيد اليدوي البطيء.
من بقايا آلة “اللينوتايپ” في ذاك الدهليز، صعدتُ إِلى طبقة المحفوظات الرازحة تحت طبقاتٍ من الغبار والنسيان، رحتُ أُزيحها بشغَفي قبل أَصابعي، فراحت تتكشَّف لي أَعدادُ “الهدى” القديمةُ ومنشوراتٌ وكتبٌ صدرَت “في مطبعة جريدة الهدى اليومية” كما مذكورٌ على أَغلفتها، وبينها الطبعةُ الأُولى (1908) من هذا الكتاب بين يديك: “الدليل التجاري السوري 1908-1909” لواضعَيْه سَلُّوم مكرزل وحبيب قطش، وكتاب “تاريخ جريدة الهدى والجوالي اللبنانية في أَميركا” الصادر سنة 1968 بإِشراف ماري سلُّوم مكرزل، لـمناسبة بلوغ “الهدى” 70 عامًا على تأْسيسها.
بعد إكتشافي تلك الكنوزَ النادرة، بات لـمجيئي إِلى مكتبي في “الهدى” هدَفان: الآخَرُ تسيير شُؤُون الجريدة، والأَوّل والأَهمّ: الغوصُ في ذاكرتها على “الساغا” اللبنانية الأُولى التي لا مرجع موثوقًا لها أَهمّ من “الهدى”، سفينةً كبرى حملت وفود اللبنانيين بقيادة القبطان الحازم نَعُوم مكرزل، فكانت بيتًا آخر لكل لبناني خارجَ بيته.

*****

أَمتعتْني سيرة هذا النَعُوم المهيب، ومنها أَنه وُلد في الفريكة ونشأَ في كنف والده الخوري أَنطون والخورية بربارة مكرزل اللذين لم يرضَيا على سفر ولدهما البكر إِلى الـ”أَميركا” – مرنى شبان تلك الحقبة إِبّان موجة أَفواج اللبنانيين المهاجرين -. كان طموحه أَقوى من ممانعة والدَيه فسافر إِلى نيويورك سنة 1888 مصطحبًا معه تلميذَه الفتى أَمين الريحاني . لم ينجح نَعُوم في التجارة فحقَّق رغبته الصحافية بإِنشائه جريدةَ “العصر” سنة 1894 كان يطبعها يدويًّا على الجِلاتين، وهي ثاني جريدة بالعربية هناك بعد “كوكب أَميركا” . لكن صعوبة أَحواله المادية أَرغمته على إِيقاف “العصر” إِنما لا على توقُّف الحلم في امتهان الصحافة. وهو ما عاد فحققَّه في مدينة فيلادلفيا سنة 1898 بتأْسيس جريدة “الهدى” وأَصدر عدَدها الأَول نهار الثلثاء 22 شباط 1898 نصف أُسبوعية، أَمّن لها بضعةَ صناديق أَحرفٍ عربية اشتراها من مصر، وآلةَ طباعةٍ للمنشورات التجارية الصغيرة. وحين بعد أَربع سنوات رأَى تقدُّمه محدودًا في فيلادلفيا، انتقل بجريدته إِلى مدينة نيويورك سنة 1902 وأَصدرها يوميةً فاستقطبت الجوالي اللبنانية في الولايات الأَميركية، واستقطب مؤَسسُها قلوب اللبنانيين لاحقًا في “جمعية النهضة اللبنانية” وتكرَّس زعيمًا وطنيًّا لبنانيًّا ناهض العثمانيين بشدّة وحزم، وبعدهم الفرنسيين الذين كان دائمًا، في افتتاحياته وخُطَبه ولقاءاته، يطالبُهم باستقلال لبنان عن الانتداب الفرنسي، مشاركًا سنة 1919 في مؤْتمر الصلح ، وبعده مترئِّسًا سنة 1932، بالرغم من وهن صحته، وفدًا كبيرًا إِلى ﭘـاريس من المهاجرين اللبنانيين الأَميركيين لمطالبة فرنسا باستقلال لبنان، ورفع هيمنة مفوضيها السامين في بيروت. وفي خاتمة تلك الرحلة فاجأَتْه نوبة قلبية قاصمة فتوفي في ﭘــاريس نهار 5 نيسان 1932 .

*****

أَمضي متنقِّلًا بين هذه الوثائق أَمامي في محفوظات “الهدى”.
بعد مسيرة نَعُوم طالعتْني صفحات سَلُّوم مكرزل الذي تولى “الهدى” بعد أَشهُرٍ من وفاة شقيقه نعُوم، فجنّد لها خبرته الكتابية والتجارية، وتقدَّم بها صحافيًّا ووطنيًّا، بعدما كان أَسس لرسالته الصحافية والوطنية بِإصداره في الإِنكليزية مجلة “العالم السوري” (The Syrian World)، شهريةً صدَر عددُها الأَول في تموز 1926 فأَقبل عليها اللبنانيون الأَميركيون غير المتقنين العربيةَ قراءةً، واستقطبَت أَقلام معظم أَعضاء “الرابطة القلَمية” من جبران إِلى أَمين الريحاني إِلى ميخائيل نعيمة وسواهم.
سوى أَنه، عند استلامه “الهدى” سنة 1932، أَوقف إِصدار مجلته وانصرف إِلى تعزيز “الهدى”، بعد وهْن أَصابها أَشهُرًا قليلةً مـمّن لم يحسنوا إِدارتَها مباشرةً بعد وفاة نَعُوم. نشَّطها فازداد انتشارها وزادت مواردها عن نفقاتها، ونظّم إِدارتها في دقة مهنية عالية، مواصلًا نشْرَ رسالتها اللبنانية في الأَصقاع الأَميركية، مادًّا جسورًا متواصلة مع لبنان، ما تجلّى واضحًا سنة 1948 في المستوى العالي لاحتفال “الهدى” بيوبيلها الذهبي لمرور خمسين عامًا على تأْسيسها (1898-1948)، بحضور حشد كبير من نحو 1000 لبناني في فندق “سان جورج” النيويوركي الفخم. وكان بين خطباء ذاك الاحتفال الكبير: صاحب جريدة”الأَيام” يوسف نعمان المعلوف نقيب الصحافيين العرب الأَميركيين ، كميل شمعون ، شارل مالك ، ووردَت من لبنان برقياتُ تهنئة من رئيس الجمهورية بشارة الخوري والبطريرك الماروني أَنطون عريضة وهنري فرعون والشيخ ﭘـيار الجميل، وكان عريف الاحتفال المؤَرّخ فيليب حتي. وأَثنى الخطباء يومها على دور سَلُّوم مكرزل في النهضة اللبنانية وِسْعَ عالم الانتشار الأَميركي، وعلى مشاركاته الفعالة في أَنشطة لبنانية أَميركية كبرى، بينها إِشرافُه على الجناح اللبناني في المعرض الدولي الكبير ، وترَأُّسُهُ في لندن وفدًا لبنانيًّا كبيرًا لاحتفالات إِنشاء الأُمم المتحدة ، وأَنشطة أُخرى.
وفي لبنان قَبلَذاك، كان سَلُّوم لقي احتفاء كبيرًا به سنة 1934 إِبّان مرافقته جثمانَ شقيقه نَعُوم إِلى مثواه الأَخير في الفريكة ، ولقي تكريمًا من الرسميين، في طليعتهم الرئيس شارل دباس، وأَقام له في بيروت زملاؤُه الصحافيون احتفالاً تكريميًّا في فندق “نيو رويَّال” (الزيتونة) جـمَعَ حوله كبار صحافيي تلك الفترة: خليل كسَيْب (نقيب الصحافة)، ميشال زكُّور (“المعرض”)، اسكندر الرياشي (“الصحافي التائه”)، محمد الباقر(“البلاغ”)، سمعان فرح سيف (“الأَحوال”)، كرم ملحم كرم (“العاصفة”)، غبريال خبّاز (“الأُوريان”)، موسى نمّور (“البلاد”)، لحد خاطر (“البشير”)، وسواهم.
بعد ذاك الإحتفال غادر بيروت من طريق القاهرة، فإحتفى به صحافيو مصر في تكريمٍ نشرَت تفاصيلَه “الأَهرام” في صفحتها الأُولى، وأَقام على شرفه يعقوب صروف رئيس تحرير “المقتطف” حفلةَ شايٍ دعا إِليها كبار الأُدباء والصحافيين.
من القاهرة إنتقل إِلى ﭘـاريس مُقابلًا في الـ”كيه دورسيه” مسؤُولين فرنسيين كبارًا مباحثًا إِياهم، كما شقيقُه نعُوم من قبله، في القضية اللبنانية، ناقلًا إِليهم تجاوُزات مفوضيهم الفرنسيين في بيروت.
وعاد إِلى نيويورك حاملًا معه غصن أَرزة من غابة بشرّي باركه له خصيصًا في بكركي البطريرك أَنطُون عريضة، حمله إِلى السيدة الأَميركية الأُولى إِيليانور روزﭬـلت، وقدّمه إِليها على قاعدة خشبية محفور عليها: “هديةٌ من اللبنانيين إِلى الرئيس روزﭬـلت وقرينته عربونَ محبة واحترام، وشكرانًا على قبول الرئيس، باسم الأُمة الأَميركية، زرْعَ أَرز لبنان في باحة مقبرة أَرلنغتون، مدفن رجال أَميركا الخالدين، مكلِّفًا السيدة الأُولى تمثيلَه في ذاك الاحتفال”، إِشارةً إِلى احتفالٍ سابقٍ ترأَّس سَلُّوم مكرزل وفدَ لبنان إِليه، وقدَّم إِلى الأَميركية الأُولى21 غرسة أَرز نهار عيد الفصح 1934 في مقبرة أَرلنغتون )ولاية ﭬـرجينيا). كانت تلك فكرةَ نخبةٍ من “جوالي شعوب الشرق الأَدنى” شاءت أَن تقدِّم هدية إِلى الأُمة الأَميركية وفاءً لها على نصرتها المادية شعوبَ الشرق الأَدنى في الحرب العالمية الأُولى، فاختارت لتهيئة الاحتفال معهدَ الشرق الأَدنى في نيويورك، وهو اختار صاحب “الهدى” سَلُّوم مكرزل رئيس الوفد ليقدّم باسمها غرسات الأَرز.
هكذا كان سَلُّوم مكرزل صوت اللبنانيين القويَّ لدى المحافل الدولية في الدفاع عن وطنه شعبًا وكيانًا، وجعل “الهدى” منبرًا قويًّا لقضايا لبنان، دافع عن شعبه، حرَّك المسؤُولين الأَميركيين والفرنسيين من أَجل نيل لبنان استقلالَه التام، وكان أَفضل جسر للتواصل بين لبنان المقيم – رسميِّه والشعبي- ولبنان المنتشر في أَصقاع القارة الأَميركية الشاسعة.
في زخم عطائه ونضاله صحافيًّا وطنيًّا، بدأَت سنة 1950 تظهر على حلْقه ظواهرُ السرطان، وأَخذ انصرافه إِلى “الهدى” يتضاءل بسبب دخوله المستشفى مراتٍ متكررةً ظلَّت تَقُضُّه حتى قضَت عليه في 2 كانون الثاني 1952.

*****

بغياب سلُّوم مكرزل تعدَّد الطامعون في تسلُّم “الهدى” وإِدارتها صوب اتجاهات ليست صافيةَ التوجُّه اللبناني الذي عرفَتْه مع نَعُوم وسَلُّوم. اجتمعَت بناتُ سَلُّوم الخمس: ماري، روز، أَليس، يُمنى، ليلى، وقررنَ إِسناد المهمَّة إِلى كبيرتِـهنّ ماري. ومع أَنها غير متمكّنةٍ من العربية، تولَّت “الهدى” متَّكلةً في إِصدارها على محررين متمرِّسين، أَوَّلُهم يوسف الخال (سنة 1953)، وبينهم فؤاد خوري. سوى أَن زخم “الهدى” أَخذ يتراجع صحافيًّا وماديًّا بسبب إِحجام المشتركين عن سداد اشتراكاتهم، وتضاؤُل قرّاء العربية فترتئذٍ من جيلٍ إِلى جيل. ولكي تحافظ ماري على إِرث والدها، أَنشأَت بالإِنكليزية سنة 1954 جريدة “ليبانيز أَميرِكان جورنال” (Lebanese American Journal) تكْملُ بها رسالة “الهدى” ووالدِها سَلُّوم، تساعدها في التحرير شقيقتُها يُمنى.
سنة 1954 صحبت ماري جثمان والدها إِلى ضريح العائلة في بلدته الفريكة، حيث جثمان شقيقه نَعُوم، فوجدَت هي الأُخرى، كما والدُها قبلها، احتفاءً بها من لبنان الرسمي والشعبي، بتكريمٍ من رئيس الجمهورية كميل شمعون والبطريرك بولس بطرس المعوشي ووزراء ونواب بينهم بيار الجميل وريمون إده، إِلى وفود شعبية تنادت إِلى تكريمها ولاءً لها ووفاءً لذكرى والدِها وعمّها.
سنة 1959 باعت ماري بنايةَ “الهدى” القديمةَ بمبلغٍ أَتاح لها شراءَ بنايةٍ أُخرى حديثة تُصدر منها “الهدى” وشقيقتها “ليبانيز أَميرِكان جورنال”، إِلى أَن ازداد تَضاؤُل قرّاء العربية فتضاءَل صدور “الهدى” من يومية إِلى ثلاث مرات في الأُسبوع سنة 1963، فإِلى نصف أُسبوعية سنة 1965. وبقيَت ماري تُشرف مباشرةً على “ليبانيز أَميركان جورنال” لأَنها تتقن الإِنكليزية فلا تُضطر إِلى الاتكال على محررين يُتقنون عربيةً تجهلُها تناوبوا متتالين على تحرير “الهدى”.
ولما رأَت أَنْ لا جدوى صحافية ولا وطنية من مواصلة إِصدار “الهدى” بهذا الانتشار الضئيل، أَعلنت عزمها على بيعِها فتدخَّل مجدَّدًا المونسنيور منصور أسطفان راعي أَبرشية بروكلن وصديق آل مكرزل، وأَوعز إِلى ابن أَخيه فارس اسطفان الذي بادر إِلى شرائها سنة 1969 وإِصدارِها في حلّة مُتَجَدِّدة تعاقبَ على رئاسة تحريرها عدد من الصحافيين اللبنانيين في نيويورك.

*****

حين طلب مني الصديق فارس أسطفان سنة 1984 أَن أَتولّى “الهدى” في نيويورك، كنتُ واعيًا دورَها السابق الرياديّ الكبير. لذا غادرتُ لبنان بشغفٍ إِلى “الهدى” وفي بالي الانتشار اللبناني في أَميركا عبر “الهدى”، ورُحتُ أَكتشف في محفوظاتها كنوزَه ، ومنها هذا الكتاب بين يديك وضعَه سَلُّوم مكرزل، اشتراكًا مع حبيب قطش، سنة 1908 وأَصدره على مطبعة “الهدى”.
تسلّمتُ رئاسة تحرير “الهُدى” من فؤاد خوري آخر رئيس تحرير قبلي، كان تقاعَدَ قبل أَربع سنوات لكنه ظلَّ يتردَّد على الجريدة، يُشبع نوستالجيًّا ذكرياته في العمل منذ وصل فتًى في التاسعة عشرة إِلى نيويورك سنة 1920 باحثًا عن عمل، فإصطحبه نسيبُ والدته متّى فارس وعرفّه بسَلُّوم مكرزل الذي وافق على تعيين الفتى مساعِدًا نسيبَه متّى في تنضيد أَعداد “المجلة”.
سنة 1925 أَوقف سَلُّوم إِصدار “المجلة التجارية” لينصرف إِلى التحضير لتأْسيس مجلّته بالإنكليزية “العالم السوري” (The Syrian World). وجد فؤَاد خوري أَنه سيكون بدون عمل فالتحق بأُسرته في دانـﭭِـر (كولورادو). لكن نَعُوم مكرزل استدعاه مجددًا إِلى نيويورك لتمرُّسه على آلة اللينوتايپ في “المجلة التجارية”، فعاد منضّدًا في “الهدى” وجزئيًّا في “السائح” لعبدالمسيح حداد (مع مساعدته في التحرير)، وفي “السمير” لإِيليا أَبو ماضي و”مرآة الغرب” لنجيب دياب. وحين تسلَّمت ماري مكرزل “الهدى” كلّفتْه رئاسة تحرير “الهدى” فبقي فيها حتى اشتراها منها فارس اسطفان سنة 1969 وأَبقاه رئيسًا لتحريرها إِلى أَن تقاعد منها سنة 1980.
كثيرًا ما كنتُ أَجلس إِليه في مكتبي عند زياراته “الهدى”، وأُدوّن ما أَستنطِقُه من ذكرياتٍ غابرة، بعضُها حول حياته المهنية، وبعضها الآخر حول ذكرياته الشخصية في نيويورك عن أُدبائها الذين عاصرهم، خصوصًا جبران الذي نشرتُ ذكرياته عنه كاملةً في كتابي “جبران خليل جبران – شواهدُ الناس والأَمكنة” .
في جلستي إِليه ذاتَ غروبٍ من حزيران (يونيو) 1984، حملتُ كتاب “الدليل التجاري السوري” ورحتُ أَستنطقه.

• حدِّثني عن سَلُّوم مكرزل يا عم فؤاد.

– أُوه سَلُّوم!! كان رجلًا عظيمًا. جاء إِلى الصحافة من خبرته التجارية. لذلك عرف كيف يوصل “الهدى” إِلى النجاح، وهذا “الدليل” أَصدره سنة 1908 لـميله إِلى الشأْن التجاري ونجاحه فيه. كانت لهذا الكتاب أَصداء ممتازة بين أَوساط الجوالي في كل أَميركا.

• وماذا عن تجربتك مع ماري مكرزل؟

– سيّدة جليلة ونشيطة. تسلَّمَت “الهدى” من والدها سَلُّوم، وأَدارتْها بحكمةٍ على هدي سياسة والدها. لم تكن تُتقن العربية فكانت تتّكل عليّ في الانتباه إِلى المقالات التي أَكتُبُها وأَتلقّاها لأَنشرها، كي لا تَخرج عن النهج المكرزلي. وكانت تساعدها شقيقتُها يمنى.
بعد سنواتٍ غاب “العم فؤاد” وبقيَت منه في أَوراقي ذكرياتٌ عن سَلُّوم وماري مكرزل تؤَرخ حقبة نابضة للهجرة اللبنانية، وتشهد على تلك “الساغا” اللبنانية الذهبية فترتئِذٍ آثارٌ جليلةٌ، منها ما يظهر جليًّا ومفصَّلًا في هذا “الدليل” الذي كان اطّلاعي عليه فرصةً نادرة للاطلاع على حكاية اللبنانيين مع الهجرة في مطلع القرن الماضي.

*****

حين إطَّلعتُ على هذا “الدليل” المصوَّر رقميًّا في محفوظات المتحف الوطني العربي الأَميركي، منقولةً عن نسخة الميكروفيلم في مكتبة الكونغرس ، والموجودة رقميًّا كذلك في مكتبة جامعة هارﭬـرد، عدتُ بذاكرتي إِلى تلك الحقبة من وجودي في “الهدى” وفي نيويورك، مفتونًا بمتابعة المسيرة الإغترابية اللبنانية إِلى أَن كتبتُ افتتاحيتي الأَخيرة لجريدة “الهدى” معلنًا قرار ناشرها فارس اسطفان بوقف إِصدارها نهائيًّا.
ومع إحتجاب “الهدى”، إحتجبْتُ كذلك عن بيتي في نيويورك، وعدتُ إِلى لبنان حاملًا معي فرح العودة، وذكرياتٍ عن عظمة الإنتشار اللبناني في أَميركا، يجسّد وجهًا بهيًّا منه هذا “الدليل”.
ماذا في هذا “الدليل”؟ وما أَهميته اليوم؟
النقاطُ التحليلية الأَربعُ أَدناه خلاصةٌ تمهيديةٌ تساعد على قراءة هذا “الدليل” بتوضيح طريقه وطريقته وارتقاب ما في صفحاته من معلومات ما زالت تَهُمُّنا اليوم كما كانت تهُم معاصريه. وفي استطلاع حصيلةٍ استنتاجية لصفحاته شكلًا ومضمونًا، يَـصُحُّ تناوُلُهُ من وُجُهات أَربع:

1) أَهميته اليوم للباحثين:

تمكِّنُ قراءتُهُ الرقمية من إعتمادِه، ولو جُزئيًّا، تعدادًا إِحصائيًّا لأَصحاب المِهَن والحِرَف ورجال الأَعمال اللبنانيين الوافدين إِلى أَميركا قبل أَن تكون لهم إِحصاءات ديموغرافية رسمية لبنانية. وهنا أَثَرُ الناشرَين بجعْله يتخطّى عصرَهما أَيّامَ صدوره ليُصبحَ اليوم مرجعًا ضروريًّا لكل باحث في شؤُون الانتشار، لـما فيه من تعدادٍ دقيق نتصوَّر لوَضْعه معاناتَهُما الصبورة أَيامئذٍ حَيال البُطْءِ اللوجستي في التواصل والاتصالات وصعوبة البحث وجمع المعلومات والاحصاءات.
وبذلك يُسجّل هذا “الدليل” محطةً لافتة لـتاريخ الانتشار اللبناني في أَميركا. فهو ليس لوائح أَسماء وأَرقام، بل يوضحُ حضور اللبنانيين في أَميركا مع العقد الأَول من القرن العشرين، ودُرَبَـهُم في ميادين وحقول متعدِّدة، ويكشف مهاراتهم ودَورهم وإِسهاماتهم في نهضة المجتمع الأَميركي. جاؤُوا من معظم القرى اللبنانية إِلى معظم الولايات الأَميركية، حاملين خبرتَهم من لبنان، وظَّفوها بصدقٍ واستقامةٍ في المجتمع الجديد، مفعِّلينه، فاعلين فيه، متفاعلين معه.

2) بُعدُهُ السوسيو – تجاريّ:

– براعةُ المهاجرين في شؤُون التجارة سهّلت اندماجهم الطبيعي في النظام الأَميركي الاقتصادي.
– ليس هذا الكتابُ “مجرد دليلٍ إِعلاني”، بل هو ثَبْتٌ سوسيو-تجاري مجموعٌ بوسائل بسيطة من تلك الحقبة، رغم غياب تسهيلات البحث الأَكاديمي ووسائِل التكنولوجيا الحديثة اليوم.
– من أَثره الإجتماعي: تبيانُ تغَيُّرِ الإسم من أَصله في لبنان إِلى تَـحوُّله في أَميركا تسهيلاً لِلَفْظِه والتعامُل به.
– ومن فوائد إِصدار هذه الطبعة الجديدة للبنانـيّـي اليوم، مقيمين ومنتشرين، أَن يكتشفوا في “دليل 1908” أَجدادًا لهم وعائلاتٍ وأَفرادًا من أَهلِهم أَو عائلاتِهم أَو أَقربائِهم أَو أَنسبائِهم أَو أَصدقائِهم أَو أَبناء مدينتِهم أَو بلدتِهم أَو قريتِهم، هاجروا عند مطلع القرن العشرين وتوزَّعوا في الولايات الأَميركية ديمُغرافيًّا وجغرافياً ومهنيًّا، فيلقى لبنانيو اليوم لأَجدادهم ومدنهم وبلداتهم وقراهم جذورًا عميقةً وامتداداتٍ تاريخيةً وعائليةً، ربما لم يكونوا يعرفونها، يكشفها لهم مفصَّلَةً هذا “الدليل” من تلك الأَيّام العتيقة.

3) هيكليتُه:

– تعمَّد الناشران إِصدارَه بالعربية والإِنكليزية تعميمًا لفائدته في الأَوساط الأَميركية والعربية معًا.
– إِصدارُه باللغتَين جعلَه جسْـرَ تواصُلٍ سهلًا بين التُجار والصناعيين العرب ونُظَرائِهم الأَميركيين.
– إِنه عملٌ رائدٌ تأْسيسي لِـمَا بات لاحقًا “الصفحات الصفراء” للدليل المهني التجاري.
– كان لدى صدوره أَولَ كتابٍ من نوعه في الجالية اللبنانية، وأَول بيانٍ غير رسمي لأَعداد المنتشرين وتوزُّعهم على الولايات وطبيعة أَعمالهم في كل ولاية.
– صدَر هذا “الدليل” بالطريقة القديمة لتنضيد الأَحرف، قبل سنةٍ تمامًا من نجاح سَلُّوم مكرزل (سنة 1910) في إِدخال الأَحرف العربية على آلة اللينوتايپ.
– ليس في صفحاته إهتمامٌ بالإِخراج الطباعي، فالإِعلانات فيه منشورةٌ كيفما اتَّفَق، بين أَعلى الصفحة أَو أَسفلها أَو وسَطها، منها في صفحةٍ كاملة ومنها في نصف صفحة.
– واضحٌ أَن إِنتاجه طباعيًّا يرتكز على الإِعلانات التجارية، لبراعة سَلُّوم مكرزل في هذا الشأْن.
– لغةُ الإِعلانات فيه بسيطةٌ، بعيدةٌ عن التَكَلُّف، تدُلُّ على استخدامِها فترتَئذٍ من دون أَيِّ اهتمامٍ لُغَوي لأَن الهدف كان إِيصالَ الفكرة باللغة الأَبسط، لذا ظهرَت فيه أَحيانًا مفرداتٌ بلفظها الإِنكليزي مكتوبةٌ بالعربية.

4) بيانُه المهني والعائلي:

– يوثِّقُ هذا “الدليل” أَنواع الأَعمال التجارية والمهَن والحِرَف التي تعاطاها المهاجرون الأَوائل عند وصولهم إِلى الأَرض الجديدة، واستقرارهم فيها، وكيف أَمَّنوا مهنيًّا ومعيشيًّا هذا الاستقرار.
– يعنينا منه اليوم اطِّلاعُنا على طبيعةٍ مهنٍ تجارية (نحو 3300) اعتمدها قبل أَكثر من قرنٍ مضى مَن كانوا سنة 1908 (تاريخ صدُور “الدليل”) يشكِّلون 25% من مجموع مهاجرينَ معظمُهم لبنانيون.
– يُفصِّل “الدليل” مِهَنَ أُولئك المهاجرين ونوع تجارتهم وعناوينَهم بحسب الولاية والمدينة والشارع، ويورد بالعربية أَسماءَهم الأَصلية بالولادة كما كانت في المدُن والقرى التي جاؤُوا منها إِلى أَميركا.
– يتَّضح من الإِعلانات التجارية أَنها من ولاياتٍ عدة، وتدل على ديموغرافيا اللبنانيين في كل ولاية، ما يشير إِلى اتّساع انتشارهم فيها، فلم ينحصروا منعزلين في “غيتو” أَو متقوقعين في بقعة واحدة من القارة الأَميركية الشاسعة.
– يُؤَكِّد “الدليل”، بطبيعة موادّه أَعلاه، حضورَ اللبنانيين الفاعل في أَميركا منذ تلك الحقبة، ويلغي من الأَذهان صورتَهم النمَطية الأُولى أَنهم عند وصولهم إِلى الأَرض الجديدة كانوا “بَــيّـاعي كَشَّة” جوّالين نازحين لاجئين فقراء.

*****

إِنّ مركز التراث اللبناني، في سياق إهتمامه بتراث لبنان محليًّا وانتشاريًّا في العالم، يُعِيد اليوم طباعة هذا “الدليل” مادةً موثَّقةً لدراساتٍ جامعية وبحثية لاحقة، فمن يفتحه يفتح أَمامه خارطةً واضحة للهجرة اللبنانية بعد أَقلَّ من خمسين سنةً على مطالعها في النصف الآخر من القرن التاسع عشر.
في المحصّلة يـبـقى هذا “الدليل”، في طبعته الجديدة، مرجعًا أَكاديميًّا بمصطلحاتٍ وقاموسٍ ولغةٍ ونهجٍ وطريقةٍ وعناصر عدّةٍ تشكِّل جميعُها أَثرًا تنبُضُه رسالةُ مركز التراث اللبناني الذي نَشَأَ في حرَم الجامعة اللبنانية الأَميركية (LAU) وبدَعمٍ منها، ليكون ذاكرةً للتُراث اللبناني في لبنان والعالم.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى