أميركا وأوبك+: العالَمُ قد تَغَيَّر

محمّد قوّاص*

تستسهلُ الولايات المتحدة التعبير عن الغضب من قرار منظمة “أوبك+” تخفيض انتاجها من النفط بمقدار مليوني برميل يوميًّا ابتداءً من أول تشرين الثاني (نوفمبر). والمنظمة تضمّ 23 دولة مُصدّرة للنفط منها 13 دولة عضوًا في منظمة البلدان المصدرة للبترول (أوبك). ولهذه البلدان أجنداتها ومصالحها في عالم النفط وقطاع الاقتصاد ولها رؤاها مُجتمعةً ومُتفرّقة حيال قضايا العالم.

تستعجل واشنطن في التلميح بأنها قد تعتبر قرار كل هذه الدول مُجتمعةً عملًا “عدائيًا”، وكأنها تتعامل مع المنظمة الدولية كأداةٍ من أدوات الاقتصاد في الولايات المتحدة يجوز عليها ما يجوز على مؤسسات السوق الأميركية الداخلية، هذا إذا تجرّأت السلطة التنفيذية في واشنطن أن تمسّ مصالح حيوية للقطاع الخاص في البلاد.

قبل اندلاع أزمة أوكرانيا كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها مندفعين في اعتماد سياسات آيلة إلى مقاطعةٍ مُبرمَجة للطاقة الأحفورية في العالم واستبدالها بالطاقة الخضراء البديلة. حرموا قطاع النفط من استثمارات كبرى كان من شأنها مواكبة انتاج الطاقة في كل بلدان العالم باتجاه انتاج أكثر نظافة. كانت دول الانتاج تطالب بالأمر مقابل “حرد” إيديولوجي بيئوي غربي ثبت جوفه وصبيانيته ما أن تحرّكت القوات الروسية باتجاه أوكرانيا.

والحال أن العالم تغيّر، وتغيّر جدًا، ولم تُصدّق واشنطن بعد هذه الحقيقة التي باتت مسلّمة داخل المشهد الدولي. ولا يجوز أن تبني الدول المنتجة للنفط في العالم حساباتها ومستويات الأسعار وتسهر على استقرار الأسواق على قاعدة ما ترسمه واشنطن من سياسات وما يستجد لديها من حاجات.

وإذا ما كانت الإدارة الأميركية تستنتج اختلالًا في موازين ما تراه مُناسبًا مع ما يصدر عن العالم من إجراءات تراها غير مناسبة، فذلك عائدٌ إلى تصدّعٍ أصلي في علاقة هذه الإدارة مع الدول المُفترَض أنها تُمثّل مصالح للاقتصاد الأميركي. يكشف الأمر أيضًا على نحوٍ فاضح عدم قدرة واشنطن على فهم واحترام مصالح الآخرين طالما أنها لا تتّسق مع مصالحها الذاتية المباشرة.

في ديبلوماسية الطاقة ما تسعي إليه فرنسا بمسارعة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في أواخر آب (أغسطس) إلى زيارة الجزائر لترميم علاقات البلدين وإصلاح ما أصابها من أعطاب. وفي السعيّ إلى تثبيت ذلك “تزحف” رئيسة الوزراء إليزابيت بورن، الأحد، مُصطَحبة 17 وزيرًا يشكلون نصف الحكومة الفرنسية باتجاه الجزائر. الأمر يمثل احترامًا لهذا البلد ومصالحه التي وجب أخذها في الحسبان قبل التطلع إلى إمكانات جرّ الغاز الجزائري باتجاه فرنسا. فأيّ مقارنة بين ديبلوماسيتَي باريس وواشنطن؟

قبل أيام (5 تشرين الأول/أكتوبر) انتقى وزير الاقتصاد الألماني روبرت هابيك كلماته بعناية لاستنكار طلب دول “صديقة”، في مقدمها الولايات المتحدة، من ألمانيا، أسعارًا “خيالية” لتوريد الغاز من أجل تعويض وقف الشحنات الروسية.
يشكو الوزير انتهازية وقحة تمارسها الولايات المتحدة، وهي الحليف الأكبر لمواجهة محنة تقنين الغاز الروسي عن بلاده وأوروبا. أوقفت موسكو إمدادات الغاز إلى ألمانيا في مطلع أيلول (سبتمبر) وكانت تمثل 55 في المئة من إمدادات البلاد قبل النزاع. وانخفض ارتهان أوروبا للغاز الروسي من 30 في المئة إلى 7.5 في المئة هذه الأيام.
استغلت أميركا محنة الطاقة فعظّمت من مصالحها وارتفعت صادراتها نحو أوروبا من 28 في المئة إلى 45 في المئة بين العامين 2021 و2022. ألمح هابيك شاكيًا حين “لجأت الولايات المتحدة إلينا عندما ارتفعت أسعار النفط بشكلٍ حاد”، مُلتمسًا أن “مثل هذا التضامن سيكون مفيدًا أيضًا لخفض أسعار الغاز”.
كان الوزير الألماني يذكّر كيف أن الولايات المتحدة وحلفاءها في وكالة الطاقة الدولية اعتمدوا في الربيع الماضي، حين ارتفعت أسعار النفط، على احتياطاتها الاستراتيجية الوطنية لتخفيف الضغط على الأسواق.
لكن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون كان أكثر وضوحًا، الخميس، على هامش القمة الأوروبية في براغ. وجّه كلامه إلى الولايات المتحدة (والنروج) التي تُزوّد أوروبا بالغار مُتبرّمًا من أنه “لا يمكننا أن ندفع ثمنه بسعرٍ أعلى 4 أضعاف مما تبيعونه لمصانعكم”. مُضيفًا أن ذلك لا يمكن أن يتطابق مع معنى الصداقة.
وإذا ما كانت الولايات المتحدة تتعامل بهذه الانتهازية المركنتيلية مع حلفائها المباشرين في المعركة الواحدة ضد روسيا في أوكرانيا، فإن قرارات الدول المنتجة للنفط، لا سيما داخل “أوبك+” تبقى منطقيةَ المنطلقات في تعاملها مع “السوق”، أي مع مستويات العرض والطلب، من دون أي اعتبار لأمزجة سياسوية ينتهجها مستهلكون وهي متباينة عن أمزجة مستهلكين آخرين.
وقد نفهم من ردّ فعل الإدارة الديموقراطية العنيف سلوكًا تحتاجه حطبًا داخل مواقد حملة الانتخابات النصفية التي ستجري في 8 تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل والتي قد تحدد نتائجها أيضًا مصير جو بايدن نفسه في الانتخابات الرئاسية لعام 2024. يُعاد التلويح في واشنطن خلال الأيام الأخيرة بإعادة تفعيل مشروع قانون”نوبك” ( NOPEC) المُعادي للمنظمة النفطية. وفي هذا ما هو بدائي في استخدام دفاعاتٍ شعبوية تُحمّل الآخرين مسؤولية الاخفاقات وطبعًا تنسب للذات أية إنجازات. وما التهديد في واشنطن بردٍّ تتمّ دراسته إلّا تعبيرٌ عن ارتباك يُرادُ منه إخفاء عاهات السياسة الخارجية الأميركية وعجزها عن استشراف المزاج الدولي الذي لم يعد طيّعًا بيد الحاكم في البيت الأبيض.
وفيما يحضِّر أيّ اتفاق في فيينا إيران للعودة بقوة إلى السوق النفطية مثلًا، أو يغير أي تقارب ما بين الولايات المتحدة وفنزويلا من مستوى تدفق نفط الأخيرة في الأسواق مثلًا آخر، فإن مؤشرات الدول المنتجة للنفط تتأثر بوقائع من هذا النوع ولا يمكن أن تبني خرائط حراكها على انتخابات نصفية في أميركا ومصير مرشح للرئاسة في البيت الأبيض.
لا يطلب أهل “أوبك+” أي تصويب في مواقف واشنطن من شأنها إعادة دراسة قرارهم الأخير. فحسابات المصالح مرتبطة بالسوق ولا تقيم اعتبارًا لسياسات الودّ والجفاء التي تُعتَمَد في واشنطن. ومع ذلك فإن قرار المنظمة النفطية رُغم واجهاته التقنية قد يكون مُخصّبًا بمضامين سياسية.
كانت توقعات واشنطن المتشائمة تحشر مستوى خفض الانتاج ما بين 500 ألف ومليون برميل يوميًا. وإذا ما تعتبر واشنطن أن في وصول تخفيض الانتاج إلى مستوى غير متوقع (مليوني برميل) استفزازًا صادمًا، فإن في قرار الدول الـ 23 ما يكشف عن توجّه جماعي حاسم للتعامل مع ضغوط أميركية مستفزّة عشية اجتماع “أوبك+” كشف عنها الإعلام الأميركي. أراد قرار “أوبك+” أن يكرر لمن لا يريد أن يصدق أن العالم قد تغيّر.

  • محمّد قوّاص هو كاتب، صحافي ومُحلّل سياسي لبناني مُقيم في لندن. يُمكن متابعته عبر تويتر على: @mohamadkawas
  • يَصدُرُ هذا المقال في “أسواق العرب” (لندن) توازيًا مع صدوره على موقع “سكاي نيوز عربية” (أبو ظبي)

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى