إنعاش إنتاج البنّ يُوَفِّر لإقتصاد اليمن دفعة قوية وسط الصراع الجاري

تُحاول مجموعة من الشباب اليمني إنعاش تجارة البن اليمني رغم الحرب، وإستعادة مكانته وشهرته التاريخية التي طالما عُرف بها، معتمدين في ذلك على الخبرة والشغف والتدريب في مجال تذوّقه، وعلى معايير عالمية لإنتاج أنواع فاخرة منه تجد رواجاً واسعاً في السوق الخارجية، خصوصاً في الأسواق الأميركية واليابانية، التي تعتبر أهم الأسواق المستقبلة للبن اليمني.

إرتشاف القهوة اليمنية: “كغناء الملائكة”

صنعاء – محمد حافظ

يُصوّر الشعار الوطني اليمني سد مأرب كأعظم ميزة من صنع الإنسان في اليمن – وحقول البن كأكبر مصدر طبيعي للبلاد. وهذا ليس من قبيل المصادفة. إن إرتشاف القهوة، كما نعرفها اليوم، نشأ في اليمن في القرن الخامس عشر عندما إكتشف الصوفيون حبوب البن الأحمر في المرتفعات الجبلية في البلاد.
وفي خضم الحرب الأهلية الجارية في البلاد، يوفّر البنّ فرصة مُربِحة. إن ارتفاع الطلب الإستهلاكي على القهوة الممتازة يبشّر بالخير لليمن، التي لا تدّعي فقط أنها تمتلك أقدم ثقافة لإرتشاف القهوة في العالم، بل أيضاً بعضاً من أفضل البن في السوق العالمية. إن أكثر من نصف القهوة التي تُستهلَك في الولايات المتحدة هو من النوع الممتاز، وقد زاد أكثر من 40 في المئة قبل ست سنوات. وقد باعت شركة “بلو باتل كافيه”، المتخصصة في تحميص البن، كوب القهوة اليمنية بسعر لم يسبق له مثيل، ب16 دولاراً لكل كوب قبل نفاد البن. ووصف الرئيس التنفيذي للشركة جيمس فريمان القهوة البمنية بأنها “سماوية، مثل غناء الملائكة”.

صادرات يمنية مُهدَّدة بالإنقراض

كانت المُخا قديماً مدينة الميناء الرئيسية في اليمن، حيث كان يتم منها شحن البن لأول مرة إلى جميع أنحاء العالم. وقد حملت حبوب البن اليمنية يومها إسمها، التي صارت تُعرف أجنبياً ب”موكا” (Mocha)، وإنتعشت تجارة البن اليمني التي غذّت ثقافة القهوة المزدهرة في أوروبا في القرن الثامن عشر.
ومع ذلك، على مدى القرن العشرين بدأت القهوة اليمنية المرغوبة سابقاً في الإنخفاض سواء من حيث الكمية أو النوعية. لقد أدّى هطول الأمطار المُتقطّع والمحدود إلى تآكل التربة، الذي تفاقم بسبب تزايد إنتاج “القات” المُستَخدِم للمياه بكثافة، والذي أصبح عنصراً أساسياً في الحياة اليمنية. ويعمل شبير عزّي على تشجيع المزارعين للإنتقال من زراعة “القات” إلى إنتاج البن. وقال أنه “خلال العقود الاخيرة، إستولى “القات” على 80 في المئة من الأراضي الصالحة للزراعة”. وعلاوة على ذلك، تم بيع الغالبية العظمى من البن الذي كان لا يزال يُنتَج عبر دول الخليج المجاورة، حيث السكان تقليدياً يرتشفون القهوة بكثافة مع الهيل. وقد أدّى هذا التفضيل للقهوة المُحمَّصة بالتوابل إلى زيادة الطلب على القهوة المنخفضة التكلفة وغير المتخصصة، الأمر الذي أدّى بدوره إلى تفاقم إنخفاض إنتاج البن العالي الجودة في اليمن.

سماتٌ مُميَّزة

تأسست، خلال سنوات الحرب، شركات ناشئة متخصصة في تجارة البن على يد شبان طموحين، باتوا من رواد الأعمال في اليمن، ومنهم الشاب حسين أحمد (38 عاماً) وهو المدير التنفيذي وشريك مؤسسة “صائدو القهوة” (Mocha Hunters)، وهي شركة ناشئة تأسست في تشرين الأول (أكتوبر) 2016، ومقرها في ولاية ديلاوير الأميركية، وتنشط لتسويق البن اليمني في الأسواق الخارجية.
وقد عاد أحمد من أميركا إلى اليمن، في نهاية العام 2016، ويبذل جهوداً كبيرة لإنتاج البن اليمني بمواصفات عالية ومعدات حديثة، بغرض التصدير، وهو يستخدم التكنولوجيا والتسويق بواسطة الإنترنت لاستعادة منتج عريق يحظى بشهرة عالمية، ويقول: “نحن شركة لتجارة البن، لكننا ملمّون بالتكنولوجيا أيضاً، ونريد دمجهما معاً”.
وفي الغالب يتم إنتاج وتصدير البن بطرق تقليدية، حيث يبيع المزارعون إنتاجهم في السوق المحلية إلى تجار يقومون بدورهم بمزجه مع أنواع أخرى من الحبوب، منها الزنجبيل والهيل، وهو ما يرفضه مؤسس “صائدو القهوة”، ويرى أن إضافة بهارات للبنّ تفقده نكهته المميزة.
ويعتمد حسين أحمد على خبرة في مجال إنتاج وتسويق البن بدأت منذ 2007، حين غادر إلى بريطانيا ضمن برنامج للتبادل الثقافي، وهناك تعرّف على زوجته اليابانية وعادا إلى اليمن ليتعرّف على أفضل الطرق لإنتاج البن، ثم سافر إلى اليابان وإفتتح هناك، في العام 2011، متجراً متخصصاً في بيع البن اليمني حصراً.
ويقول أحمد أنه أُصيب بصدمة عندما شرب لأول مرة قهوة غير يمنية: “القهوة اليمنية عطرية وفوّاحة جداً. وأنا كصبي في صنعاء، كان بإمكاني أن أشمّ القهوة التي تُعدّها أمي من مسافة 50 متراً خارج منزلنا”. وفيما هو يعيش في لندن، عَلِم لاحقاً بأن أنواع القهوة ليست كلها عطرية وفوّاحة مثل القهوة التي كان يشربها في شبابه. وأوضح أحمد أن رائحة القهوة اليمنية المُمَيزة هي نتيجة لإرتفاع المكان والطقس الجاف اللذين تنمو فيهما. إن حبوب البن هي غالية ومميّزة لأنها تنمو على علو 8000 قدم فوق مستوى سطح البحر. وحسب أحمد، “كلما زاد علوّ المكان الذي ينمو فيه البن، إرتفعت وجادت نوعيته”.
كما يساهم الطقس الجاف في اليمن في طعم القهوة الحلو: “إن الكافيين هو آلية للحماية، ولكن في الظروف الجافة للغاية حيث تنمو حبوب البن اليمنية، فإنها تحتاج إلى الكافيين الأقل مرارة الذي يساعد الأوراق المزهّرة على النمو”.
من جهتهم يستمر المزارعون اليمنيون في زراعة البن على المدرجات ثم يقطفون حبوبه قبل تجفيفها على أسطح المنازل. ولأنه يعلم ويدرك أنه غير قادر على منافسة الكم الهائل الذي تنتجه دول أخرى من البن مثل البرازيل وفيتنام، يقول أحمد بفخر: “إن المزارعين الذين أعمل معهم يُركّزون على الجودة”.

فرصة ذهبية

يقف قطاع القهوة في اليمن عند مفترق طرق. ووفقاً لتقرير أصدرته أخيراً رابطة القهوة الوطنية الأميركية، فإن أكثر من نصف أكواب القهوة التي يستهلكها الأميركيون اليوم يرتشفها ذوّاقة (59 في المئة في العام 2017 مقابل 46 في المئة في العام 2012). إن القهوة اليمنية في وضع جيّد للاستفادة من توسّع إهتمام المستهلك بالقهوة عالية الجودة. إن أصولها التاريخية ونكهتها المتميزة والمشهورة توفّران ميزة خاصة عن غيرها من عمالقة إنتاج القهوة. إن المغتربين اليمنيين مُتحمّسون ليس فقط للفرص الاقتصادية ولكن أيضاً لفرصة تسليط الضوء على بعض التراث الثقافي لليمن.
وفقاً لموظف في مقهى يمني جديد في ديربورن ، ولاية ميتشيغان الأميركية، يُدعى “بيت القهوة” (Qahwah House)، فإن القهوة هي مرادفة للعائلة بالنسبة إلى كل يمني. إن إرتشاف القهوة يوفّر منصة يمنية للقاء وقضاء بعض الوقت ومناقشة قضايا اليوم. لقد نشأ إبراهيم الحاصباني، صاحب هذا المقهى الشعبي، في مزرعة للبن خارج صنعاء، لكنه ترك اليمن في نهاية المطاف خلال إنتفاضات العام 2011.
قبل بضعة أشهر، قرر إستيراد حبوب البن من مزرعة عائلته وفتح مقهى على الطراز اليمني في ديربورن. وقد لاقى نجاحاً كبيراً. وقال الحاصباني: “الناس يأتون من جميع أنحاء الولايات المتحدة وكندا لإرتشاف القهوة عندنا”. ووسط الأنباء اليمنية التي يغلب عليها الطابع السلبي، فهو فخور بالصورة الإيجابية التي يُقدمها مقهى “قهوة هاوس” عن اليمن: “يأتون لإرتشاف القهوة، لكنهم يُغادرون برأي مختلف تماماً حول ما يعتقدون أنهم يعرفون عن الناس والثقافة”.

الحرب المدمّرة في البلاد

تقف نهضة اليمن في صناعة القهوة ضد خلفية الحرب الأهلية. وقالت أندا غريني، مُؤَسِّسة شركة “موكا” لبيع البن اليمني على الإنترنت: “خلال الأشهر الستة الأولى من الحرب، لم تكن القهوة تخرج من اليمن”. لقد تسبب إنقطاع التيار الكهربائي المتكرّر في زيادة تكاليف معالجة البن. وأصبحت إمكانية الوصول إلى الموانىء صعبة على نحو متزايد لأن شحنات البن يجب أن تعبر الآن فسيفساء القوى المتنافسة التي تتحكم في نقاط التفتيش المختلفة. ووفقاً لحسين أحمد من “موكا هانترز”، فإن تكاليف الشحن زادت ستة أضعاف.
وقال أحمد: “خلال الحرب أنتجنا كميات فاخرة من البن، وأشرفنا على الإنتاج والقطف في المزارع، وشجعنا المزارعين على زراعة البن بكميات كبيرة، وبناءً على تعاقدات مسبقة في الأسواق الخارجية وفي صدارتها السوق الأميركية أولاً وتليها السوق اليابانية”.
وتابع: “تُعتبر السوق الأميركية أهم الأسواق الخارجية بالنسبة إلى البن اليمني، ولدينا طلبات عديدة لم نستطع تلبيتها لظروف الحرب في اليمن، والصعوبات التي نلاقيها في الشحن. وكان مفترضاً أن أشارك في مؤتمر سنوي للبن في أميركا، خلال نيسان (إبريل) 2017، حيث يتم إبرام العديد من الصفقات، ولم أتمكن من المشاركة بسبب قرار ترامب حظر السفر إلى أميركا على مواطني 7 دول بينها اليمن”.
وقبل صدور قرار ترامب، كان أحمد نجح في شحن أول إنتاج لشركته، وأكد أن حمولته تبلغ 400 كلغ، وصلت سليمة إلى مدينة جدة، حيث أرسلها صديقه إلى أميركا، وتُباع في متجر (Counter Culture Coffee) في ولاية ميتشيغان، حيث تُباع القهوة اليمنية بـ16 دولاراً للفنجان الواحد، لكن منذ قرار حظر سفر اليمنيين إلى أميركا فإن الغموض يلفّ مصير الشحنات التالية وإمكانية شحنها.
وأوضح أحمد أنه “منذ آذار (مارس) من العام الفائت، نواجه مشاكل في الشحن من ميناء الحديدة المطل على البحر الأحمر غرب اليمن، بسبب معارك الساحل الغربي، وأن هناك مشاكل في عملية التصدير تتعلق بارتفاع رسوم الشحن”.
وقال أن “وكالات الشحن الجوي العالمية أوقفت عملياتها في اليمن؛ وغالبية شركات التأمين قد توافقت على تأمين المنتجات المشحونة من موانئ اليمن، لكنها لا تؤمّن على المخزون المحفوظ، والذي تقدّر قيمته بـ200 ألف دولار”.
وتواجه شركته الناشئة إشكاليات في مرحلة قشر البن، في ما يتعلق بإنعدام الكهرباء لتشغيل مكائن القشر والتكلفة المضاعفة في شراء الكهرباء، وفي الحفاظ على البن في مخازن خاصة في ظروف مناسبة، فالتعرّض لحرارة تفوق 30 درجة مئوية لمدة طويلة قد يفسد مخزون البن”.
ويعتبر أحمد أن قرار منع السفر أو حتى الحرب مجرد عقبة أكثر من كونها طريقاً مسدوداً، وأنه يكافح للتغلب على صعوبات الحرب وقرار ترامب، ويعمل على إبتكار حلول. ويقول: “حظر السفر أو الحرب لن يحولا دون تصدير القهوة في النهاية، فالمزارعون في اليمن هم الأساس الذي تقوم عليه شركتنا، ولدينا الفرصة والقدرة على إستعادة مكانة البن اليمني على خريطة الإنتاج العالمي”.
وغيْر “صائدو القهوة”، تأسست ثلاث شركات جديدة خلال الحرب لرواد أعمال يستخدمون التكنولوجيا لتسويق البن اليمني، فيما بدأت 5 شركات قديمة للبن تحديث وسائل عملها وتسويق البن إلكترونياً على مستوى إقليمي ودولي وفتح أسواق جديدة عالمية، بالإضافة إلى نشاط واضح وملفت في تسويق البن محلياً.
ومع ذلك، فإن قصة البن اليمني في زمن الحرب تعكس صمود الشعب اليمني. ويقر شبير عزّي بأن الحرب قد جلبت تحديات إضافية، ولكن لأن البن اليمني يتمتع بجودة عالية، “فقد تم إستيعاب هذه التكاليف الإضافية في سلسلة القيمة بأكملها، مع تخزين مؤقت للمحصول الناتج بعيداً من الاضطراب الذي تشهده البلاد. ولم تتغير أسعار البن اليمني بشكل كبير خلال السنين العشر الماضية”.
من ناحية أخرى، لاحظ أحمد أن العديد من الأشخاص الذين يعيشون في المدن لم يعد بإمكانهم الإعتماد على راتب حكومي لذا عادوا مرة أخرى إلى مزارعهم العائلية. ولأنهم مُجبَرون على إيجاد مصادر جديدة للإيرادات، فقد بدأوا إنتاج البن. وفي منطقة بني ذمار حيث يعمل حسين، وجد أنه “للمرة الأولى في حياتي رأيتُ حضانة شعبية تبيع شتلات البن الشابة”.

التطلع قُدُماً

بصرف النظر عن تشغيل مطحنة، فإن شبير عزي يُسهّل عمل شبكة من المورّدين ومُزوِّدي الخدمات والمُشترين. وهو يرى إمكانات ضخمة لإنتاج البن، وقد عمل بجد من أجل “بناء التآزر بين الموارد القائمة، ومجموعات المُنتجين، والمُعالجات، والمُصدّرين، ومنظمات التسويق، والمُستثمرين، وأكثر من ذلك”. إن الهدف من شبكة عزي هو زيادة القيمة للمزارعين اليمنيين وتشجيعهم للإبتعاد من إنتاج “القات”.
يعمل شبير عزي وشبكته على تبديد مفهومَين خاطئين بين المزارعين. الأول إن “القات” أكثر ربحية من المحاصيل الأخرى وثانياً أن بن اليمن ليست لديه سوق عالمية آسرة. لقد دفع هذان المفهومان غالبية المزارعين إلى زراعة “القات”، مما أدى إلى تفاقم مشكلة شحّ المياه في اليمن. ومع ذلك، يشهد شبير ببطء بعض التأثير: “في منطقة حراز حيث أعمل، بدأ المزارعون يتحوّلون طواعية من القات إلى البن”.
وهو لم يُفاجَأ كما يقول. “لقرون، عرفنا أن البن كان العمود الفقري للإقتصاد اليمني”. واليوم، إن تزايد الطلب العالمي على القهوة الفاخرة، إلى جانب تحسين سلسلة التوريد، لديهما القدرة على جعل البن اليمني “فرصة المليار دولار” وإستعادة دور اليمن التاريخي في زراعة المشروب الساخن المُفضّل في أميركا واليابان.
وعلى المستوى الشعبي، نرى اليمنيين يتطلعون إلى عودة اليمن إلى تاريخه المعروف في مكانة البن، وقد كتب وزير الثقافة اليمني السابق، خالد الرويشان: “الفلفل الأحمر تحوّل إلى الذهب الأحمر، ويُدِرّ دخلاً بالمليارات على سيريلانكا، متى سيكون البُن اليمني ذهبًا وثروةً لليمن واليمنيين”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى